أخبار المركز
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (المعضلة الروسية: المسارات المُحتملة لأزمات الانتخابات في جورجيا ورومانيا)
  • إسلام المنسي يكتب: (جدل الوساطة: هل تخلت سويسرا عن حيادها في قضايا الشرق الأوسط؟)
  • صدور العدد 38 من دورية "اتجاهات الأحداث"
  • د. إيهاب خليفة يكتب: (الروبوتات البشرية.. عندما تتجاوز الآلة حدود البرمجة)
  • د. فاطمة الزهراء عبدالفتاح تكتب: (اختراق الهزلية: كيف يحدّ المحتوى الإبداعي من "تعفن الدماغ" في "السوشيال ميديا"؟)

صدام التوجهات:

قطر الراهنة بين ميراث السلفيّة و"أخونة" الدولة

18 يونيو، 2017


المشهد الراهن في قطر في بُعدَيه الديني والسياسي ليس حالة عابرة، كما يتصور بعض الباحثين والمراقبين، ذلك لأنه مُؤسَّس على رؤى ذات صلة بنشوء الدولة القطرية، حيث كان التوجه العام في الماضي يدفع إلى تطويع السياسية لصالح الدين، أي تديين السياسة، وهذا على عكس الحاضر، حيث تظهر جملة من التجليَّات والمواقف تُبرهن على تسْيِيس الدين، وأكثرها وضوحاً هو الوجود الإخواني في قطر، الذي تجاوز التعاطف إلى تبنّي المواقف، لدرجة أصبحت السلطات القطرية تراهن على موقفها هذا، ويبدو أنها غير مستعدة للتنازل عنه أو تغييره، بما يعني أنها تقضي على ميراثها الذي تأسست عليه، وهو السلفية.

وهنا يطرح السؤال: هل قطر اليوم تجمع بين السلفية والأخونة أم أنها تلغي الأولى لتثبيت الثانية؟

الظَّاهر أن قطر اليوم تجمع بين كل المتناقضات، بما فيها دعم الجماعات والتنظيمات الإرهابية ومحاربتها، لكن هذا لم يعد حائلاً دون إدراك مجريات الأحداث على الساحتين المحلية والإقليمية، الخليجية تحديداً؛ حيث التبنَّي الواضح لمشروع الإخوان المسلمين، أي أنه تحول إلى نهج دولة، وليس فقط جغرافية مناطق آمنة لقيادة إخوانية مطاردة أو مطلوبة من دولها، وقد أثَّر هذا، على النحو الذي نشاهده اليوم، في مواقفها من القضايا الكبرى في المنطقة من ناحية، وفي علاقتها بدول الجوار من ناحية ثانية، وفي طرحها لأولويات  يهمين فيها التَّوجه الوطني المُدعم بتوجه أيديولوجي وسياسي لدرجة الإسراف المُفرط على حساب علاقة الجغرافيا والانتماء، ولا يتَّسق وطبيعة المرحلة خليجياً وعربياً وعالمياً، من ناحية ثالثة.

ولاتزال قطر تتحرك على نهجها القديم نفسه عند بدايات نشوء الدولة، لجهة مشاركتها في أعمال خيرية داعمة للنشاط الإسلامي، لكن حاضرها مختلف عن ماضيها، فهي الآن تنشط، دعماً وحضوراً، عبر فضاء السياسة ومكاسبها، وأيضاً ضمن حسابات دولية تحركها المصالح. أما في الماضي فقد كانت، عبر مؤسسيها الأوائل/ يحركها البعد الديني لجهة الانتماء، ولذلك كان المؤسسون، ومنهم على سبيل المثال الشيخ علي بن عبدالله آل ثاني رحمه الله، متفقَّهون في الدين بسلفيّة تطبيقية، إن جاز التعبير، على النحو الذي عرفته الجارة الشقيقة الكبرى المملكة العربية السعودية.

النشأة الأولى

لقد عمل شيوخ قطر منذ الإرهاصات الأولى لتشكل الدولة في نهاية القرن التاسع عشر (1878) على السير على منهج السلف الصالح، ودور الشيخ قاسم بن محمد آل ثاني (مؤسس دولة قطر) واضح في هذا المجال، حتى إن المصادر التاريخية تعرّفه بـ "الأمير الجليل التقي الفصيح الورع الزاهد الشيخ..."، وأنه نشأ مُتأثِّراً بالدعوة السلفية، فشبَّ متحلياً بتلك الفضائل، ولما جاوز سن الشباب صار ينوب عن والده في تدبير أمور البلاد وإدارتها، فكان ساعد والده الأيمن، كما زاول الشيخ مهنة التجارة، وكان يبذل المال في سبيل البر والإحسان.

الواقع أن تجربة الشيخ قاسم الحياتية باعتباره المؤسس الأول تكشف عن مرجعيَّة سلفية مبكرة للدولة القطرية، وتتحدث المصادر التاريخية عن أنه "كان من الملتزمين بالمذهب الحنبلي، والمتحمسين للدعوة السلفية، وكانت الروح الإسلامية تبدو في سلوكه وأشعاره، وكان شغوفاً بالعلم محباً للعلماء، له اطلاع على كتب العلماء السلفيين، مثل كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب والشيخ العلامة محمود شكري الآلوسي، وكان يجتمع بالعلماء أثناء زيارتهم له في قطر، ويتذاكر معهم في مسائل العلم، وكان غيوراً على دينه قائماً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يُؤم الناس في صلواتهم، ويخطب فيهم الجمعة، وإذا خطب أذهل السامعين، وجلب قلوبهم إليه، وهو من أركان العربية وأنصارها، ويباشر بنفسه تعليم الناس، كما يباشر بنفسه القضاء والفصل في المنازعات بين مواطنيه".

لا شك أن جَمْع هذه الصلاحيات كلها بيد الشيخ قاسم، يعود إلى كون المنطقة لم تعرف بعد الدولة بمعناها الحديث آنذاك، غير أنها في الوقت ذاته تبين عقيدته السلفية، التي أسّس عليها مواقفه السياسية، ومن ذلك  وقوفه إلى جانب آل سعود أثناء محنتهم زمن الإمام عبدالرحمن الفيصل آل سعود والد الملك عبدالعزيز، وأيضاً رفضه رفضاً قاطعاً طيلة حياته الدخول في تعاقد مع أي جهة غير مسلمة، والأكثر من هذا أنه في أشد مراحل خلافه مع العثمانيين رفض إغراءات كثيرة من أجل تغيير تلك السياسة الثابتة التي تمسك بها في حياته كلها.

اللؤلؤ.. والسعودية

انعكس المذهب السلفي للشيخ قاسم على وظيقته كحاكم للبلاد، حيث كان يتاجر باللؤلؤ - عبر ملكيته لثلاثين سفينة تعمل في الغوص، بالإضافة إلى أنه أحد الممولين لسفن الغوص، الذي كانت سوقه رائجة في ذلك الوقت، وكان يتخذ من تلك التجارة وسيلة لإقامة بيت المال للدولة للصرف منه على المرافق العامة وإشاعة العدل والإنصاف، ومدّ يد العون لأفراد الشعب، والإنفاق على العلماء، وبناء المساجد.. إلخ.

وبذلك تمكّن من أن يجعل قطر بلداً موحداً مستقلاً، وكياناً عضوياً واحداً متماسكاً، مما استدعى تدخل بريطانيا، وقد استطاع من خلال سياسته أن يعمل على توازن للاعتراف باستقلال قطر من جانب أكبر قوتين متنافستين، وهما بريطانيا والولايات المتحدة، على النفوذ في منطقة الخليج العربي، أي أنه أرسى دعائم استقرار البلاد والحكم لآل ثاني أثناء فترة حكمه، وصحب ذلك بنشر للدعوة السلفية في قطر وتثبيت دعائمها، وكان من المتحمسين لها، وقد اعتبر المؤخون تبنَّي السلفية في قطر نتيجة لقيام الدولة السعودية الأولى.

ظلَّت السلفية متجذرة في قطر بناء على تجربة متراكمة، منذ الإرهاصات الأولى للدولة وإلى غاية إزاحة الشيخ حمد والده من الحكم عام 1996، وعمقتها العلاقات مع علماء الدعوة السلفية سواء في نجد السعودية مثل العلامة الشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ، أو في العراق مثل الشيخ العلامة محمود شكري الآلوسي، وخلال تلك الفترة اختلط العمل الديني بالعمل السياسي، حيث إن بعضاً من شيوخ آل ثاني كان يقوم بنفسه بالدعوة والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلقاء خطبة الجمعة واستجلاب العلماء من نجد للقيام بأمر الدعوة وتوجيه الناس، وإرسال بعض القطريين من طلبة العلم للدراسة عند علماء نجد.

التَّخلص من التَّعبية!

بقدر ما كانت السلفية في ذلك الوقت، منذ نهاية القرن الثامن عشر وإلى نهاية القرن العشرين، مرجعية للدولة القطرية، مهيمنة على كل مسارات الحياة، وموجهة لعلاقة الحكام بالمجتمع من جهة، وعلاقتهم بدول الجوار، خاصة السعودية من جهة ثانية، بقدر ما أدت إلى تراكم الشعور بضرورة التخلص من التبعية السعودية، ومن خلال هذا الفهم علينا قراءة "أخونة" الدولة القطرية في الوقت الحالي، وما يتبعها اليوم من خلافات حادة في المنطقة، وأيضاً ما قد تؤول إليه الأمور في المستقبل.

وإذا كانت بداية التغير في الموقف القطري تجاه توظيف الدين، خاصة التخلص من السلفية، قد نبعت من محاولات واعية وهادفة للتخلص من نظرة ضيقة رأت في العلاقة مع السعودية تبعية، فإن رحلة الجمع بين المتناقضات استهوت العائلة الحاكمة منذ وصول الشيخ حمد بن خليفة إلى السلطة، وتمتعه بطموح غير عادي في الزعامة على مستوى المنطقة، ناهيك عن أنه عمل من أجل تجاوز عقدة بلاده المتمثلة في ضآلة الحجم، وعدم قدرتها على التأثير في السياسة الخليجية والعربية والإسلامية، وقد تعمقت أكثر مع تنازله لابنه الأمير تميم عن  الحكم.

وعلى مدار أكثر من عقدين، حاولت إمارة قطر أن تعيد صياغة أسسها الأيديولوجية وقناعاتها المذهبية، ومواقفها السياسية، بما يتناسب مع دورها الجديد، وكان المدخل للتغيير هو جماعات الإسلام السياسي، خاصة "الإخوان المسلمون". وقد بدأ الأمر بشكل دعوي مثل جلب شخصيات دينية يغلب على كثيرين منهم التأثر بمنهج جماعة الإخوان المسلمين، وكان واضحاً انقلاب منهج قطر الديني، التي ظلت وعلى مدى السنوات الطويلة الماضية سلفية المنهج، متأثرة ومستفيدة من علماء وقضاة المملكة السعودية.

لقد مثّل الإخوان المسلمون بالنسبة لقطر مَخْرجاً عما اعتبرته سلطة دينية سعودية، وبدت للوهلة الأولى كأنها تجمع بين السلفيّة من خلال خطاب إعلامي موجه للخارج عبر قناة الجزيرة من ذلك بث شرائط أسامة بن لادن وقادة "القاعدة"، وفتح مكتب لطالبان، وتأييد الجماعات السلفية وأمرائها مثل أبي قتادة وغيره، والإشراف بشكل مباشر على ميليشيات ذات توجه سلفي في ليبيا.. إلخ، وتتمرس في الداخل من خلال تمكين الإخوان، أي تسييس الدين، ما يعني نهاية ميراث السلفية في قطر، وبقاء الميراث ذاته من خلال دعمه على المستوى العالمي.

قطر اليوم إخوانية التوجه، وجامعة بين المتناقضات، ولكنها على الرغم من تخلَّيها عن السلفية في الداخل، فإنها توظف تعاملها التاريخي معها لتحدث من خلالها مشكلات في الدول الأخرى، وهي بذلك تستفيد في سياستها المكلفة من السَّلفيّة ومن الإخوان معاً.