يعد التفجير الذي حدث في مترو الأنفاق بمدينة سان بطرسبيرج الروسية في 3 أبريل 2017 ضمن مؤشرات تصاعد استهداف روسيا من جانب التنظيمات الإرهابية المتطرفة، إذ يأتي الهجوم عقب مرحلة ممتدة من التهديدات الداعشية لموسكو وتوعد التنظيمات المتطرفة في سوريا والعراق والقوقاز باستهداف المدن الروسية، رداً على التدخل العسكري الروسي في سوريا والتحالف الروسي مع إيران وحزب الله ونظام الأسد، بالإضافة لتداعيات تغير خريطة نشاط التنظيمات الإرهابية واتجاهها للتمدد في مناطق تمركز الجاليات الإسلامية في آسيا الوسطي وروسيا والصين.
تصاعد التهديدات:
على الرغم من أن التحقيقات الرسمية الروسية لم تكشف عن التفاصيل الكاملة للتفجير الذي شهده قطار الأنفاق بمدينة سان بطرسبرج الروسية وأسفر عن مقتل 14 فرد وإصابة العشرات، إلا أن المعلومات الأولية عن الهجوم تؤكد اتباع ذات تكتيكات الهجمات الداعشية في الدول الغربية.
حيث كشفت السلطات الأمنية الروسية عن أن الهجوم تم من خلال تفجير انتحاري يشتبه في قيام شاب عمره 23 عاماً من آسيا الوسطي بتنفيذه، حيث قام بإخفاء العبوة الناسفة في حقيبة للظهر، كما كشفت القوات الروسية عن وجود عبوة ناسفة أخرى لم تنفجر في محطة أخرى للمترو مما يكشف عن قيام خلية إرهابية بالتخطيط للهجوم، حاولت تنفيذه بصورة متزامنة.
ولا ينفصل هذا الهجوم عن تصاعد وتيرة الهجمات الإرهابية التي شهدتها روسيا ودول الجوار الروسي خلال السنوات الأخيرة الماضية، ففي 24 يناير 2011 استهدف هجوماً انتحارياً نُسب إلى الجماعات الانفصالية في شمال القوقاز، مطار دوموديدوفو في موسكو، مما أسرف عن سقوط 35 قتيلاً وثمانين جريحاً، وفي 29 ديسمبر 2013 شهدت مدينة فولجوجراد في جنوب روسيا تفجيراً انتحارياً في مدخل محطة قطارات أسفر عن مقتل سبعة أشخاص وإصابة 40 آخرين، ثم أعقبه في اليوم التالي هجوماً على محطة للنقل العام أسفر عن مقتل 14 شخصاً.
وفي ذات السياق أعلنت هيئة الأمن الفدرالية الروسية في 2 فبراير 2016 عن تفكيك خلية لتنظيم داعش واعتقال 7 من أعضائها كانوا يخططون لهجمات إرهابية في موسكو وسان بطرسبرج، وضمت هذه الخلية مواطنين من روسيا ودول آسيا الوسطي سبق لهم الانضمام لتنظيم داعش.
ولا ينفصل ذلك عن اغتيال السفير الروسي في تركيا أندرية كارلوف في ديسمبر 2016، خلال إلقاءه كلمة في معرض فني بعنوان "روسيا في عيون الأتراك" في أنقرة من جانب أحد رجال الأمن المتعاطفين مع التنظيمات المتطرفة في سوريا.
وفي مطلع مارس 2017 أعلنت اللجنة القومية الروسية لمكافحة الإرهاب عن إلقاء القبض على خلية إرهابية تابعة لتنظيم داعش في جمهورية داغستان الروسية، كما أعلن جهاز الأمن الاتحادي الروسي صدور حكم بالسجن لمدة 30 عاماً بحث مواطن أوزبكي قام خلال قضائه حكماً بالسجن، بتجنيد مسلمين في صفوف تنظيم داعش مما يكشف عن تصاعد وتيرة نشاط التنظيمات الإرهابية في روسيا.
وبداية من عام 2012 شهدت منطقة القوقاز صعوداً في وتيرة العمليات الإرهابية بداية من التفجيرات الانتحارية في أنجوشيا التي استهدفت تجمعات الشرطة والهجوم المسلح على وحدة مكافحة الإرهاب في الشيشان في أغسطس 2012، فضلاً عن سيطرة كتيبة على مبني الإعلام الحكومي في العاصمة الشيشانية جروزني في ديسمبر 2014 قبل أن تقوم القوات الروسية بتصفيتها.
وقبيل إعلان مبايعة تنظيم داعش قامت التنظيمات الإرهابية في منطقة القوقاز بعدة عمليات إرهابية تصدرها استهداف دورية عسكرية روسية في منطقة سونجا في أنجوشيا في مطلع يونيو 2015 ومهاجمة قاعدة جوية روسية في قيرغيرستان في مطلع يوليو 2015 بالتوازي مع ضبط قوات مكافحة الإرهاب الروسية لخلية إرهابية في جمهورية قبرديمز بلقاريا كانت تخطط لتنفيذ تفجيرات انتحارية في فترة العطلات، كما ضبطت قوات الأمن الروسية في 9 يونيو 2015 خلية إرهابية تدير معامل لتصنيع القنابل في داغستان.
وفي 24 مارس 2017 تبنى تنظيم داعش الهجوم على قاعدة عسكرية للحرس الوطني الروسي في الشيشان، والذي خلف ستة قتلى في صفوف قوات الأمن الروسية، بالإضافة لمقتل المهاجمين وفق مركز سايت الأمريكي لرصد المواقع الإرهابية.
لماذا روسيا؟
لا يمكن اعتبار تفجيرات سان بطرسبرج حدثاً غير متوقع بالنظر إلى تصاعد التهديدات المعلنة من جانب قيادات داعش لروسيا، فقبيل نهاية مارس 2017 نشرت بعض حسابات تويتر المتعاطفة مع التنظيمات الإرهابية شريط فيديو وصورة صممها بعض المنتمين لتنظيم داعش تتضمن شعاراً مفاده "سوف نحرق روسيا" و"اقتلوهم حيث ثقفتموهم" وصورة لمبنى الكرملين في الخلفية، كما ظهرت صورة أخرى لشخص يطلق الرصاص على رأس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ونشر رسالة قائلا فيها "سوف نحرق روسيا"، وهو ما يرتبط بتكرار فيديوهات قيادات وكوادر داعش التي تتوعد روسيا بهجمات إرهابية، وفي هذا الصدد تتمثل أهم دوافع تركيز التنظيمات الإرهابية على استهداف روسيا في الآونة الأخيرة فيما يلي:
1- الانخراط الروسي في سوريا: تعد روسيا الطرف الدولي الأكثر فاعلية في إطار الصراع الأهلي الدائر في سوريا، إذ تحولت روسيا من طرف دولي يدعم بعض القوى الداخلية المنخرطة في الصراع السوري، إلى طرف مباشر في هذا الصراع نتيجة الانتشار العسكري للقوات الروسية وتطوير روسيا لقاعدة طرطوس البحرية وقاعدة حميميم الجوية في سوريا، وهو ما جعلها هدف مباشر للتنظيمات الإرهابية خاصة في ظل تصاعد هجماتها الجوية على معاقل تنظيم داعش والتنظيمات المتطرفة في سوريا لدعم نظام الأسد.
2- الانحياز للمحور الإيراني: يرتبط تصاعد استهداف التنظيمات المتشددة لموسكو بالدعم المباشر من جانب روسيا للمحور الإيراني في الشرق الأوسط وخاصة نظام الأسد في سوريا وحزب الله اللبناني بالإضافة للتحالف الوثيق بين إيران وروسيا الذي تم تتويجه بالسماح لموسكو باستخدام القواعد العسكرية الإيرانية، ففي خضم الاحتقان الطائفي والمذهبي الحاكم للصراعات الأهلية في الإقليم، فإن روسيا أضحت ضمن المعسكر الشيعي وفق القيادات الدينية المتطرفة، وهو ما أدى للتتابع الفتاوى من جانب قيادات التنظيمات الإرهاب بضرورة استهداف روسيا باعتبارها الداعم الأهم للقوى والميليشيات الشيعية في مواجهة الفصائل السنية وفق رؤيتهم.
3- تهديدات "جهاديو القوقاز": يُعد المقاتلين الروس ومن الجمهوريات الإسلامية في القوقاز من أكثر العناصر تدريباً وشراسة في ساحة القتال في سوريا، ووفق بيانات مجموعة صوفان جروب وبعض المصادر الرسمية الروسية فإن عدد المقاتلون الروس في سوريا يتجاوز حوالي 2400 مقاتل، بينما يتراوح عدد الناطقين بالروسية ضمن صفوف داعش في سوريا ما يتراوح بين 5000 و7000 مقاتل وفق مصادر متعددة، كما تعد اللغة الروسية اللغة الثالثة في الترتيب لدى داعش بعد العربية والانجليزية.
ويتسم "جهاديو القوقاز" في سوريا بقدرات قتالية متطورة بالمقارنة بنظرائهم من الجنسيات الأخرى، حيث أكسبتهم الحروب المتتالية ضد الجيش الروسي مهارات قتالية لاسيما على المستوي التقني والتكنولوجيا العسكرية، فضلاً عن مشاركة بعض عناصرهم في العمليات العسكرية في أفغانستان وباكستان والعراق.
بينما استمدت بعض القيادات القوقازية خبراتها من خدمتها العسكرية في صفوف الجيش الروسي أو جيوش الجمهوريات القوقازية على غرار "جولمورود هاليموف" الذي خدم في صفوف القوات الخاصة في طاجيكستان و هو "طرخان باتيرشفيلي"، الذي خدم في صفوف الجيش الجورجي حتى عام 2010. كما يميل "جهاديو القوقاز" لتشكيل كتائب متجانسة تضم القوميات الناطقة بالروسية في سوريا مثل "جيش المهاجرين والأنصار" و "فصيل صلاح الدين الشيشاني" و"تنظيم مجاهدي القوقاز والشام".
4- اتجاهات الانتقام والثأر: تكشف رسوم الجرافيتي باللغة الروسية المنتشرة في مدينة داريا السورية عن سعي المقاتلين الروس لنقل ساحة القتال إلى الداخل الروسي، حيث اعتاد المقاتلين الروس رسم عبارات من قبيل "اليوم سوريا وغداً روسيا"، و"أيها الشيشانيون والتتاريون انتفضوا"، و"بوتين، سوف نصلي في قصرك"، وهو ما يعبر عن شيوع رغبات الانتقام والثأر من النظام الروسي لدى الناطقين بالروسية في داعش.
ويستغل تنظيم داعش حالة الاحتقان لدى بعض الشباب في دول آسيا الوسطى وجمهوريات القوقاز لاستقطابهم لصفوفه، ففي منتصف يوليو 2015 أعلن التنظيم عن إطلاق قناة "فرات ميديا" الناطقة بالروسية على مواقع التواصل مثل فيسبوك وتويتر وتمبلر، وهو ما ارتبط بسعي داعش للضغط على الخاصرة الرخوة لروسيا لتقليص دعمها لنظام الأسد عسكرياً وجعلها تركز على التنظيمات الإرهابية المنتشرة في جوارها المباشر.
5- انتشار التنظيمات الداعشية: على الرغم من تمكن قوات جهاز الأمن الاتحادي الروسية من قتل قائد "إمارة شمال القوقاز" التابعة لتنظيم داعش روستام أسيلديروف في 4 ديسمبر 2016، فإن تمدد تنظيم داعش في الجمهوريات السوفيتية السابقة لم يتوقف، إذ اتجهت أغلب التنظيمات الإرهابية في منطقة القوقاز لمبايعة تنظيم داعش وإعلان الولاء لقيادة التنظيم مما جعل منطقة القوقاز أحد أهم البؤر الداعشية في القارة الأسيوية.
ولا تتجاوز "إمارة القوقاز" كونها كيان تنسيقي بين جماعات وتنظيمات محلية متعددة تنتشر في الشيشان وداغستان وتتارستان وأنجوشيا وكابيكا وقبردينو بلقاريا، حيث ترتبط أغلب هذه الجماعات بتنظيم داعش بعد انحسار الموالين لتنظيم القاعدة خلال الأعوام الماضية، وتسبب تركيز قوات الأمن الروسية على تصفية قيادات التنظيمات الإرهابية في صعود قيادات شبابية متطرفة ضمن هذه التنظيمات أكثر ارتباطاً بتنظيم داعش، وتتمثل أهم الجماعات المتطرفة في القوقاز في كتيبة جولمورود هاليموف في طاجيكستان، وجماعة خاسافيورت، وتنظيم جوهر جوادايف وكتيبة أبو عمر الآذاري، وحركة أوزبكستان الإسلامية وجماعة العصابة الجنوبية في داغستان ومجموعة أوخوفسكا.
وتتمثل خطورة هذه الجماعات في أنها تضم عدد من الكوادر العسكرية السابقة التي خدمت في صفوف قوات الجيش في الجمهوريات الإسلامية التابعة لروسيا وفي دول آسيا الوسطي، وانتماء بعضهم للقوات الخاصة في هذه الدول مما يعزز من قدراتها القتالية في مواجهة الدولة الروسية.
6- تعدد مسارات العودة: على الرغم من تشديد السلطات الروسية لإجراءات أمن الحدود لمنع عودة المقاتلين الروس في سوريا، إلا أن المنتمين لداعش يعتمدون على مسارات متعددة لاختراق إجراءات الأمن الروسية، في ظل ارتباط القوميات الناطقة بالروسية بعلاقات وطيدة بتركيا التي تعتبر بمثابة الجوار الجغرافي الأكثر قرباً إليها، فضلاً عن تسهيلات دور بعض المؤسسات الدعوية والخيرية في روسيا ودول آسيا الوسطي، و تغاضي بعض دول الجوار في آسيا الوسطي عن انتقال بعض المقاتلين عبر حدودها مع تركيا في مقابل عدم قيامهم بأي عمليات داخلها.
اختراق الداخل:
على الرغم من إحكام روسيا سيطرتها الأمنية على جمهوريات شمال القوقاز واتباعها استراتيجية أمنية تقوم على تصفية قيادات التنظيمات المتطرفة وتفكيكها من الداخل، إلا أنها باتت تواجه انتقال مركز ثقل (Center of Gravity) التيارات المتطرفة من الأطراف إلى الداخل الروسي ذاته.
ووفقا تحليل أعده ليون آرون مدير قسم الدراسات الروسية بمعهد المشروع الأمريكي لأبحاث السياسات العامة في نوفمبر 2015 ونشر بصحيفة واشنطن بوست الأمريكية فإن عدد المسلمين في الداخل الروسي قد تزايد من 14.5 مليون مسلم في 2002 إلى 20 مليون مُسلم من بينهم 6.5 مليون مسلم من المهاجرين من دول آسيا الوسطي في مقابل تراجع معدلات النمو السكاني في الداخل الروسي.
وعلى الرغم من أن غالبية الجاليات الإسلامية في روسيا تميل للاندماج في المجتمع ونبذ العنف إلا أن قطاعات متزايدة من الشباب قد باتت تتبني الاتجاهات السلفية المحافظة والتي باتت تنتشر على يد الأئمة الروسيين الذين تلقوا تعليمهم وتدريبهم في بعض الدول الإسلامية.
وتمثل عرقية التتار في إقليم تترستان الجماعة الإثنية الأكبر بين المسلمين في سوريا، إذ يقارب عدد المنتمين إليها حوالي 5 ملايين مسلم، وشهد إقليم تترستان توترات متصاعدة كان أهمها الهجوم على رئيس هيئة الإفتاء ونائبه المعتدلين والمرتبطين بالحكومة الروسية بعد اعتراضهم على انتشار التيارات السلفية في المدارس الدينية في يوليو 2012، ووفقاً لبعض الإحصاءات المتداولة فإن 6 من كل 9 ناطقين بالروسية في معتقل جونتنامو كانا ينتمون للتتار، وتعد مدينة نابريجناي تشلني بإقليم تترستان منطقة تمركز المنتمين للتيارات السلفية.
ويرتبط تغير التركيبة الديمغرافية الروسية بزيادة تدفقات العمال الوافدين من آسيا الوسطي إلى الداخل الروسي، إذ يتجاوز عددهم حوالي 6.5 مليون عامل من أوزبكستان وطاجيكستان وقيرغيزستان ويقطن في موسكو وحدها ما يتراوح بين 1.5 و2 مليون مسلم مما يجعلها من أكبر المدن الأوروبية من حيث أعداد المسلمين.
ويتعرض العمال الوافدين في روسيا لتهميش وضغوط متعددة في ظل تعدد حالات العنف ضدهم وتصاعد رفض المواطنين الروس لوجودهم في المجتمع، كما أن أغلبهم يعدون ضمن العمالة غير الشرعية مما يعرضهم لملاحقة السلطات الأمنية لترحيلهم، كما يسهم الأئمة المتطرفين في نشر التطرف في صفوف الوافدين من آسيا الوسطى بالإضافة لتسهيل سفرهم إلى معاقل تنظيم داعش في سوريا والعراق.
كما كشفت تصريحات بعض المسئولين السياسيين والأمنيين الروسيين على مدار العامين الماضيين عن عودة بعض المقاتلين الروس من سوريا إلى الداخل الروسي لتنفيذ عمليات إرهابية في المدن الروسية، وهو ما يزيد من التحديات التي تواجه الأمن الروسي في ظل اتساع المساحة الجغرافية التي تتمركز بها التنظيمات المتطرفة في الجوار الروسي.
وختاماً من المرجح أن تتزايد التهديدات الإرهابية التي تواجهها روسيا في المرحلة المقبلة نتيجة التداخل بين التحولات الداخلية على المستوى الديمغرافي، وانتشار التنظيمات المتطرفة في الجوار الجغرافي المباشر لروسيا في آسيا الوسطي، وسعي التنظيمات المتطرفة لرفع تكلفة التواجد العسكري الروسي في سوريا ودعم روسيا للمحور الإيراني في منطقة الشرق الأوسط.