تختلف الدول في مدى امتلاكها لعناصر القوة الشاملة كالثروات والموارد الطبيعية، وعدد السكان، وتوافر المهارات التعليمية والتقنية، والقدرات العسكرية، ودرجة الاستقرار السياسي، ومدى جاذبية نموذجها في إدارة المجتمع والدولة. ويترتب على هذا الاختلاف أن الدول التي تتوفر على أكبر قدر من عناصر القوة تسعى عادة إلى التعبير عنها في سياساتها الخارجية، فتحاول الاضطلاع بدور مؤثر في محيطها الدولي أو الإقليمي.
ويُميز الباحثون في العلاقات الدولية بين الهيمنة أو السيطرة من ناحية، والقيادة من ناحية أخرى. فالهيمنة أو السيطرة تتحقق من خلال استخدام الدولة الأقوى لعناصر قوتها لفرض الإذعان على الدول الأخرى، وهي نوع من الرئاسة التي تدّعي امتلاكها لحلول المشاكل التي تواجهها الدول الأخرى. أما القيادة، فتعني القدرة على التأثير والتوجيه لمجريات الأحداث، وأن تأخذ الدول الأخرى بوجهات نظر أو مواقف الدولة التي تراها دولة قيادية، والابتعاد عن وجهات النظر والمواقف المعارضة لها. والقيادة بهذا المعنى ليست فرض الهيمنة أو السيطرة بالقوة، لأنه عندما تخضع دولة ما لضغوط دولة أقوى منها، فإن ذلك لا يُمكن اعتباره قبولاً بقيادتها.
وممارسة الدور القيادي بفعالية تتطلب أمرين، الأول، أن تكون الدولة التي تسعى للقيام بهذا الدور على استعداد لتقديم المساعدات الاقتصادية للدول الأخرى بما يمكنها من زيادة قدرتها والارتفاع بمستوى معيشة أبنائها، وتوفير الدعم الأمني والسياسي لها في مواجهة تهديدات دول أخرى لها. والثاني، قبول الدول الأخرى لهذا الدور طواعية لأنه يخدم مصالحها وأمنها، وهو ما يُسمى في التحليلات النظرية بتوقعات الآخرين للدور، ومن ثم، تحظى هذه القيادة الإقليمية بالشرعية والموثوقية.
وتكون ممارسة هذا الدور ممكنة عندما تتوافر عناصر القوة بشكل متكامل على مستوى النظام الدولي أو أحد النظم الإقليمية، لدى دولة واحدة وتقوم باستخدامها بأريحية وعقلانية. وتزداد صعوبة عندما يتغير هيكل القوة في النظام ويتوزع بين دولتين، فتتنافسان على ممارسة هذا الدور. ثم تصبح أكثر صعوبة عندما يزداد عدد هذه الدول وتتوزع عناصر القوة بينها، فيصبح من المستحيل على دولة واحدة ممارسة هذا الدور بشكل مُنفرد.
غياب "الدولة القائد":
منذ حقبة الأربعينيات من القرن الماضي، انشغل قطاع من المفكرين العرب بموضوع "القيادة الإقليمية" وتحدثوا عن دور "الدولة القائد" و"الإقليم القاعدة". وقصدوا بذلك الدولة التي تقوم بدور رأس الحربة في عملية الاتحاد أو الوحدة بين الدول العربية. وارتبط بصورة تلك "القيادة المُتخيلة"، مهام ومسؤوليات جسام مثل أنها الضامن لمناعة الإقليم ضد اختراق القوى الخارجية له، والمدافع عن حقوق دوله والحامي لها في مواجهة الأخطار والتهديدات، والمتحدث باسمه في المؤتمرات والمحافل الدولية.
ولم تتحقق هذه "الصورة المثالية" للدولة القائد في الواقع العربي، وحتى في الفترة التي توافر لمصر التفوق في أغلب عناصر القوة الشاملة والتي تعززت بالقيادة التاريخية للرئيس الراحل جمال عبدالناصر في الخمسينيات من القرن الماضي، فإن دورها لم يخل من اعتراض أو مقاومة من دول عربية وإقليمية ودولية تعاونت فيما بينها لتحجيم هذا الدور ووضع نهاية له، وتاريخ العلاقات العربية العربية في هذه المرحلة هو أكبر شاهد على ذلك.
ويوضح هذا التاريخ أشكال التنافس والصراع بين الدول العربية الكبيرة، والمحاور والتحالفات التي أقامتها كل منها في مواجهة الأخرى، وتدخل القوى الإقليمية والدولية لحساب أحد المحاور ضد الآخر، وأدى هذا إلى شيوع حالة من الشك والارتياب في العلاقات بين الحكومات العربية.
وفي الحقب التالية، تغيرت أحوال النظام العربي وتبدلت علاقات دوله بالدول الإقليمية في الشرق الأوسط وهي تركيا وإيران وإسرائيل. وتغيرت موازين القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية، ودخلت دول لطالما أدت أو سعت إلى القيام بأدوار قيادية في دوامة الأزمات الاقتصادية والسياسية والحروب الأهلية، وتعرض عديد منها لتأثيرات "الانتفاضات العربية" في عام 2011، ثم إلى تهديد تنظيمات الإسلام السياسي والجماعات الإرهابية، مما أدى بها إلى الانكفاء على قضاياها الداخلية، وصار التحدي المباشر لها هو الحفاظ على مقومات الدولة الوطنية. وترتب على ذلك كله، ضعف العمل العربي المشترك وتراجع مؤسساته.
ولكن موضوع القيادة الإقليمية ظل هاجساً لدى قطاع من المفكرين، الذين أرجعوا ضعف النظام الإقليمي العربي الآن إلى غياب دور "الدولة القائد"، وأن المقعد الذي شغلته مصر من قبل ما زال شاغراً. وأثارت الصحافة المصرية قضية "الدولة القائد في النظام العربي" في أكثر من مناسبة، وأتذكر النقاش المهم حول هذا الموضوع في حقبة التسعينيات والذي دار على صفحة الحوار القومي بجريدة الأهرام التي أشرف عليها الأستاذ لطفي الخولي، والنقاش الآخر حول نفس الموضوع الذي دار على صفحة الرأي بجريدة الشروق التي يُشرف عليها الأستاذ جميل مطر في عام 2022. وعلى الرغم من اختلاف الظروف بين الفترتين التي دار فيهما النقاشان، واختلاف أسماء معظم المشاركين فيهما، فقد كانت خلاصة النقاش في المرتين متقاربة.
وكان التوافق على أن ظروف المنطقة العربية والشرق الأوسط قد تغيرت بشكل حاسم، بحيث لم تعد تسمح لأي دولة منفردة بممارسة دور القيادة الإقليمية. وأن هذا التطور يدعو إلى إعادة النظر في هذا المفهوم، وكيفية ممارسته في ضوء الظروف الجديدة، فمن الواضح أنه لا توجد أي دولة عربية تستطيع أن تحدد منفردة المسار العام للنظام الإقليمي، وأنه حتى إذا تمكنت من تحقيق ذلك بشأن قضية بعينها، فإنها لن تنجح في تحقيق ذلك في بقية القضايا.
تغيرات إقليمية:
إن مفهوم "الدولة القائد" بالمعنى الذي عرفناه من قبل لا يمكن أن يكون ملائماً لفهم الوضع الراهن في المنطقة العربية والشرق الأوسط. وذلك لثلاثة أسباب هي:
1- انتشار عناصر القوة الصلبة والناعمة والذكية بين عدد كبير من الدول العربية، فالدول الأكثر سكاناً والأقدم في مضمار الحداثة تواجه مشكلات اقتصادية واجتماعية صعبة، والدول الأقل سكاناً وحديثة الانخراط في عملية التحديث وحديثة الحصول على الاستقلال أصبحت أكثر ثراءً وقدرة على الإسراع بعملية التنمية وبناء القدرات بطرق أكثر جدارة وكفاءة.
2- تغير علاقات الدول العربية بالدول الإقليمية غير العربية وتحول ميزان القوى لصالحها على حساب الأطراف العربية. فلم يعد هناك موقف مشترك من مجموع الدول العربية تجاه أي من هذه الدول الإقليمية الثلاث، بل إنها تتدخل في الشؤون الداخلية العربية كمثال تدخُل إيران في لبنان واليمن وسوريا والعراق.
3- الدور المتزايد للقوى الكبرى (الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين) في المنطقة والتنافسات القائمة بينها لضمان تأييد أكبر عدد من دولها لها، وبلوغ العلاقة في بعض الحالات درجة غير مسبوقة كالعلاقة بين سوريا وروسيا، ويدلل على ذلك دعوة الرئيس السوري بشار الأسد خلال زيارته موسكو في 16 مارس 2023 إلى إرسال مزيد من القوات الروسية وإنشاء قواعد عسكرية جديدة في بلاده، أو علاقة إيران بكل من روسيا والصين، أو علاقة إسرائيل بالولايات المتحدة.
وتُفسر هذه الأسباب عدم قدرة أي دولة على ممارسة القيادة المنفردة على المستوى العربي، وفشل سياسات السيطرة ومشروعات الهيمنة من جانب الدول الإقليمية غير العربية على مستوى الشرق الأوسط.
القيادة الجماعية للعرب:
وهكذا، فإنه لا بديل عن انتهاج أسلوب التعاون والتنسيق والتشاور سبيلاً إلى التوافق العربي على استراتيجية إقليمية تحقق مصالح الأطراف كافة. وممارسة أشكال متنوعة من القيادة الجماعية التي قد تتغير أطرافها من قضية لأخرى، بحيث يشعر أكبر عدد من الدول العربية بأنه شريك في إدارة النظام الإقليمي. ويكون ذلك بتنشيط وتفعيل الأُطر المؤسسية والتنظيمية القائمة كلما أمكن ذلك، وتطوير أُطر جديدة إذا تعذر هذا الأمر.
ويُمكن القول إن تحليل العلاقات المتشابكة بين دول المنطقة العربية والشرق الأوسط بعضها بعضاً وبالقوى الكبرى في العالم، ينبغي أن يشجع القادة ونخب السياسة الخارجية على إعادة التفكير في التعريف التقليدي للقيادة الإقليمية، وأن يتخلوا عن الأوهام التي ارتبطت تاريخياً بهذا المفهوم، وأن يعيدوا تأسيسه في ضوء مُعطيات الحقبة الثالثة من القرن الحادي والعشرين.
وفي ظل الظروف التي نعيشها، فإنهم يحتاجون إلى نماذج للقدوة والريادة، وإلى مُبادرات تُساعدهم على تحقيق الأمن والتنمية والهُوية العربية. ويحتاجون إلى أن تكون إدارة أمور النظام الإقليمي من خلال أُسس جماعية تقوم على التشاور وتعدد المراكز والأدوار، وتستفيد من خبرات النظم الإقليمية الأكثر تقدماً، كالاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي، والأساليب التنظيمية الحديثة التي طورتها لإدارة العلاقات في داخل النظام.