لأول مرة في التاريخ الأمريكي، يواجه رئيس سابق ومرشح للانتخابات الرئاسية القادمة، وهو دونالد ترامب، ما يقرب من 78 تهمة، تتراوح ما بين الاستيلاء على مستندات حكومية سرية وإساءة استخدامها، إلى تزوير أوراق تجارية، بالإضافة إلى الاتهام بالاحتيال والتآمر لمحاولة تغيير نتائج الانتخابات الرئاسية السابقة عام 2020.
ويُعد ترامب، الذي يبلغ من العمر 77 عاماً، الشخصية الأبرز في سباق الحصول على ترشيح الحزب الجمهوري لانتخابات الرئاسة القادمة عام 2024، ويتفوق بنسبة كبيرة على منافسه الرئيسي في الحزب، رون ديسانتيس، حاكم ولاية فلوريدا. والأرجح أن يفوز ترامب بترشيح الحزب الجمهوري ويواجه الرئيس الحالي ومرشح الحزب الديمقراطي، جو بايدن، في انتخابات الرئاسة القادمة، وفي مشهد مكرر للانتخابات الرئاسية السابقة.
وهنا يبرز السؤال حول تأثير التهم الموجهة لترامب في انتخابات 2024، وفرص فوزه فيها؟ والواقع أن الإطار القانوني لهذه التهم والمحاكمات التي ستتم استناداً إليها، لا يمكن فصله عن العملية السياسية المرتبطة بالانتخابات الرئاسية القادمة، وسوف يسعى ترامب وخصومه من الديمقراطيين لتحقيق مكاسب سياسية من هذه التهم والمحاكمات.
انعكاسات المحاكمات:
يمكن رصد الأبعاد السياسية المرتبطة بالتهم الموجهة لترامب والمحاكات المتعلقة بها، في النقاط الرئيسية التالية:
1- في البداية، يمكن القول إن التهم الموجهة لترامب قد لا تمنعه من الناحية القانونية من الترشح لانتخابات الرئاسة القادمة، سواءً في السباق داخل الحزب الجمهوري أو منافسة الرئيس بايدن في الانتخابات العامة. وسوف يحاول محامو ترامب تأجيل صدور الأحكام في القضايا المرفوعة ضده لأطول فترة ممكنه، وبحيث لا تؤثر في السباق للترشح باسم الحزب الجمهوري أو الانتخابات الرئاسية. ولكن حتى لو صدرت أحكام بالإدانة ضد ترامب، فإنها لن تكون أحكاماً نهائية، أو تحظر عليه الترشح للرئاسة، وفقاً لبعض الآراء القانونية.
2- يتمنى خصوم ترامب أن تؤدي محاكماته إلى تشتيت جهده وتركيزه في إدارة حملته الانتخابية والمشاركة في أنشطتها المختلفة، حيث سيقضي جانباً من وقته في المحاكم في عدة ولايات، والباقي في اللقاءات الجماهيرية وأنشطة الحملة الانتخابية، وبالتالي لن يستطيع تركيز كل جهده ووقته في الانتخابات.
كما أن هذه المحاكمات سوف يكون لها تكلفة مالية تُنفق على أطقم الدفاع عن ترامب، أو قد تؤثر في سمعته وتُخفض من حجم التبرعات المالية لحملته الانتخابية. ومع أهمية التمويل في الانتخابات الأمريكية وارتباطه بأنشطة الدعاية المختلفة، فإن انخفاض الموارد المالية لحملة ترامب قد يؤثر في حظوظه الانتخابية. ويتمنى خصوم ترامب أيضاً أن تؤدي صورته في المحاكم والتغطية الإعلامية لمحاكماته، وصدور أحكام بالإدانة في عدد من هذه القضايا، إلى تشويه صورته لدى قطاع من الناخبين، وبالتالي الامتناع عن التصويت له.
أيضاً، يعتقد أنصار وجهة النظر هذه أن محاكمات ترامب سوف تؤدي به إلى التركيز على الدفاع عن نفسه ضد هذه التهم بدلاً من التركيز على طرح رؤية للمستقبل بالنسبة للقضايا التي تهم الناخب الأمريكي. كما قد يكون للمحاكمات تأثير نفسي في ترامب، ربما ينعكس في حالة من التوتر والسلوكيات والتصريحات غير المسؤولة. في حين أن منافسه بايدن، والذي لا يعلق على تهم ومحاكمات ترامب، سيبدو كرجل دولة مسؤول، وسيركز جهده على قضايا السياسات العامة التي تهم الناخب الأمريكي.
3- يقوم ترامب بتسييس التهم الموجهة له وسوف يسعى لتحقيق مكاسب انتخابية منها، فمن ناحية، يتحدث الرئيس الأمريكي السابق عن أنه يتعرض لمؤامرة هدفها إخراجه من سباق الرئاسة القادم لخوف خصومه من احتمالات فوزه وعودته مرة أخرى للبيت الأبيض، ويوجه اتهامه لوزارة العدل وإدارة بايدن بتدبير هذه المؤامرة. والواقع أن لغة "المظلومية" التي يستخدمها ترامب، لها صدى عند قطاعات من المجتمع الأمريكي تشعر هي الأخرى بالظلم، وتُحمّل الدولة المسؤولية عن ذلك. وإذا كان خصوم ترامب يُعولون على أن التغطية الإعلامية لمحاكمته سوف تُسهم في تشويه صورته، فإن الرئيس السابق سيكون لديه الفرصة أيضاً لاستخدام هذه التغطية الإعلامية لمصلحته، وتوصيل رسالة بأنه يتعرض للظلم، وترسيخ فكرة المؤامرة لمنعه من الترشح للرئاسة.
4- في المقابل، هناك وجهة نظر ترى أن أحاديث المظلومية وتهم المؤامرة لن يكون لها تأثير كبير في انتخابات الرئاسة القادمة، والدليل على ذلك هو انتخابات التجديد النصفي الأخيرة للكونغرس الأمريكي التي جرت عام 2022 وأسفرت عن هزيمة عدد كبير من المرشحين الجمهوريين المؤيدين لترامب، الذين يتبنون روايته بخصوص الانتخابات الرئاسية 2020 وادعاءاته أنها تم تزويرها لمصلحة خصمه بايدن وأن ترامب هو الرئيس الشرعي. وتؤكد وجهة النظر هذه أن هزيمة هؤلاء الجمهوريين هي انعكاس لنتائج استطلاعات الرأي التي تشير إلى أن 59% من الأمريكيين يعتقدون أن بايدن فاز في انتخابات رئاسية نزيهة.
5- مما لا شك فيه أن محاكمات ترامب سوف تؤدي إلى المزيد من الانقسام السياسي وتعميق الاستقطاب داخل المجتمع الأمريكي، وبالتالي تؤثر بالسلب في مُجمل العملية الديمقراطية في الولايات المتحدة. فترامب ما يزال له قاعدة شعبية واسعة في التيار اليميني، وجانب من هؤلاء هم من اقتحموا الكونغرس الأمريكي في أحداث 6 يناير 2021 للتعبير عن عدم قبولهم بنتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة. وبالتالي فإن محاكمات ترامب قد تؤدي إلى تعبئة وتنشيط هذه القاعدة الانتخابية من ناحية، ولكنها من ناحية أخرى سوف تزيد من حدة الاستقطاب السياسي والمجتمعي في الولايات المتحدة، وقد تُفرز مزيداً من التوترات بين أنصار ترامب وخصومه، بل قد تتطور إلى مصادمات بين الفريقين. وسوف يكون لذلك تأثيره السلبي في العملية الديمقراطية بالبلاد، والنموذج السياسي الأمريكي.
محددات أخرى:
يمكن القول إن العديد من المؤشرات تُرجح احتمالية فوز ترامب بترشيح الحزب الجمهوري لخوض السباق الرئاسي القادم بالرغم من التهم الموجهة له. ولكن ما يزال من المُبكر التنبؤ بتأثير هذه التهم على نتائج الانتخابات الرئاسية 2024، وخاصة أن بايدن، منافس ترامب المُحتمل، تلاحق ابنه هانتر بايدن عدد من التهم التي قد تمس الرئيس الحالي. كما أن جو بايدن يواجه عدداً من المشاكل المرتبطة بكبر سنه، ومدى لياقته الذهنية والصحية لإدارة البلاد في فترة رئاسية جديدة تمتد لأربع سنوات مقبلة. يُضاف إلى ذلك، أنه بالرغم من تحسن بعض مؤشرات الاقتصاد الأمريكي في ظل إدارة بايدن، فإن معدلات التضخم ما تزال مرتفعة نسبياً، ويشعر بها المواطن العادي، وربما تؤثر في السلوك الانتخابي لغير مصلحة بايدن.
ومما لا شك فيه أن التهم الموجهة لترامب سوف تؤدي إلى تعبئة قاعدته الشعبية في التيار اليميني، كما أن سيطرة الجمهوريين على الأغلبية في مجلس النواب وعلى المحكمة الدستورية العليا سوف تؤدي إلى تعبئة القواعد الشعبية للحزب الديمقراطي المؤيدة لبايدن. ولكن يبقى التحدي أمام ترامب وبايدن هو كسب القاعدة الشعبية المتأرجحة في منطقة الوسط السياسي، فتاريخ الانتخابات الرئاسية الأمريكية يوضح أن الفوز بالانتخابات لا يمكن أن يعتمد فقط على القاعدة الحزبية للجمهوريين أو الديمقراطيين، ومن المهم أن يكسب المرشح الرئاسي قاعدة الوسط غير الحزبية كي يصل إلى البيت الأبيض، وهذا هو التحدي الأساس لكل من ترامب وبايدن.