ثمة توافق عام بين الخبراء، الروس والغربيين على حد سواء، على أن تمرد مجموعة فاغنر كان أزمة داخلية، نتيجة لحقيقة أنه لم يعد للغرب تأثير يُذكر في السياسة الداخلية في روسيا، منذ تولي الرئيس فلاديمير بوتين الحكم عام 2000. وجاءت ردود الفعل الدولية الرسمية على نحو عكس هذه القناعة، حيث رأت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي التمرد شأناً داخلياً، وكذلك فعلت الصين، وذلك بغض النظر عما استخلصته هذه القوى - باستثناء بكين – من استنتاجات حول أسباب التمرد ودلالاته؛ كونه يكشف عن وجود "تصدعات حقيقية في سلطة الرئيس الروسي" (مثلما ذكر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن)، أو تعليق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن "ما جرى يظهر الانقسامات داخل المعسكر الروسي، كما يظهر هشاشة الجيش الروسي والقوات الرديفة له مثل مجموعة فاغنر".
وعلى مستوى التحليل، تباينت التفسيرات، وإن اتجه معظمها – من منظور الداخل الروسي – إلى أن ما حدث في 24 يونيو الماضي يعكس انقسام النخبة، وأزمة في إدارة النظام السياسي للبلاد. وهنا ذهب البعض إلى الاعتقاد أن هذه الأزمة هي بداية النهاية لحكم الرئيس بوتين، بينما قدّر آخرون أنه يمكنه توظيفها لتعزيز سلطته، وذهب تقدير ثالث إلى أن موسكو قد تشهد في المستقبل حالة من الاقتتال الداخلي بين النخب في البلاد وربما صراعاً على السلطة. وفضلاً عن ذلك، وقبل تسوية الأزمة، بل وحتى بعد ذلك، سارع العديد من المحللين الغربيين إلى تأكيد أنها كانت بمثابة ضربة قاضية لنظام بوتين. واللافت أن معظم تلك التحليلات لم تقدم دلائل منطقية يمكن أن تقود إلى استنتاجاتها. ولإيضاح تداعيات التمرد على الداخل الروسي، من المهم تناول النقاط التالية بصفة خاصة.
أزمة شخصيات:
يمكن القول إن أزمة تمرد فاغنر كانت داخل النخبة العسكرية الروسية، ما بين مؤسسة غير نظامية هي فاغنر، والمؤسسات النظامية العسكرية والأمنية. وقد كان التوتر بين الجانبين شخصياً، وليس بالضرورة مؤسسياً، وأنه لسنوات عديدة عملت شركات يفغيني بريغوجين كمورد رئيسي للجيش الروسي في العديد من المجالات، ولاسيما الغذاء. كما استهدف التوتر أشخاصاً بعينهم من الرتب العليا من الجيش الروسي. وكان وزير الدفاع، سيرغي شويغو، ورئيس الأركان العامة، فاليري غيراسيموف، هما الهدفين الرئيسيين لبريغوجين، حيث طلب الأخير إقالتهما كسبب رئيسي لتمرده. وفي هذا السياق، كانت التقارير الاستخباراتية الأمريكية، المُسربة في إبريل الماضي، أشارت إلى أن الولايات المتحدة اعترضت اتصالات بين كبار القادة العسكريين الروس ناقشوا خلالها كيفية التعامل مع مطالب بريغوجين المستمرة للحصول على مزيد من الذخيرة والعتاد، خاصة وأن الجيش الروسي نفسه كان يعاني أيضاً من نقص الذخيرة.
ووفقاً لتقديرات الخبراء، ومنهم روس، فإن تعيين رئيس الأركان غيراسيموف قائداً عاماً للحملة العسكرية في أوكرانيا في يناير 2023 بدلاً من الجنرال سيرجي سوروفكين - الذي يعرف بريغوجين وخدم كلاهما في سوريا في الفترة من 2017 - 2019 حيث لا يخفي الأخير إعجابه بمهارات الأول - كان بطلب من عناصر بارزة في هيئة الأركان العامة ووزارة الدفاع لإقناع بوتين بضرورة استعادة المؤسسة العسكرية النظامية سيطرتها الكاملة على الحرب في أوكرانيا على حساب فاغنر. وتزامن ذلك مع فقدان بريغوجين القدرة على مواصلة تجنيد السجناء. ومنذ صيف عام 2022، استخدمت فاغنر عناصر غير كفؤة من هؤلاء، مسندة إليهم مهام ما يُسمى بـ"علف المدافع" أي اقتحام الأهداف الأوكرانية دون غطاء ناري من أجل كشفها. وتم توثيق بعض الحالات التى أُستخدم فيها هؤلاء السجناء بقسوة، وحالات إعدام لهم لرفضهم إطاعة الأوامر أو ترك مواقعهم أو محاولة الاستسلام للأوكرانيين، وصارت عمليات الإعدام الوحشية بمطرقة ثقيلة أحد رموز المجموعة لبث الخوف في صفوف هؤلاء السجناء.
وكان واضحاً أن قادة المؤسسة العسكرية النظامية في روسيا غير راضين عن حقيقة تمتع مقاتلي مجموعة فاغنر باستقلال عملياتي كبير على الأرض، بالرغم من اعتمادهم الكامل على الدعم اللوجيستي من هيئة الأركان العامة والدعم السياسي من الرئيس بوتين نفسه. وفي هذا السياق، أبرمت المجموعة عدة صفقات لتبادل الأسرى مباشرة مع أوكرانيا، على الرغم من أن مقاتل فاغنر ليس له وضع المقاتل المعترف به من الناحية القانونية.
طموح بريغوجين:
خلال الأشهر الأخيرة، وبجانب ولعه بالظهور في وسائل الإعلام واستفادته القصوى من الموارد الإعلامية المُتاحة له واستخدامه سلسلة من وكالات الأنباء والمواقع الإخبارية وقنوات تليغرام تمتلكها فاغنر، أظهر بريغوجين طموحاً سياسياً واضحاً. ومن خلال وسائل الإعلام هذه، سعى بريغوجين إلى تأكيد أن مجموعته قادرة على القيام بمهام تتجاوز القتال بكثير، وأنه يمكنها تعزيز مصالح روسيا حول العالم بوسائل أخرى، شريطة أن يزودها الكرملين بالصلاحيات والموارد الكافية. وتفيد بعض المعلومات الواردة من موسكو أخيراً، بأنه يجري الآن تفكيك هذه الموارد والمنافذ التي استخدمها بريغوجين في الإدلاء بتصريحاته الشعبوية لعامة الناس وللشباب بصفة خاصة.
علاوة على ذلك، يضيف البعض إلى ما سبّبه بريغوجين من توترات، بُعداً اجتماعياً سياسياً، تجسد في سعيه إلى تقديم نفسه على أنه شخصية سياسية مناهضة للمؤسسة، وخارج التسلسل الهرمي الحاكم. غير أن ما لم يفهمه – وفقاً لهذا الرأي – أن نظام الرئيس بوتين يسيطر بشكل كامل على الجهات الفاعلة في البلاد كافة، خاصة تلك التي تتمتع بالنفوذ السياسي العام، "وأي شخص يصير مستقلاً تماماً يكون في خطر جدي: إما أن يبتلعه النظام أو يتم تحييده". وهكذا كان واضحاً للقيادة الروسية أن الأمر يتعلق بتمرد مسلح واضح يجب التعامل معه بحزم.
غياب الدعم:
من المهم الإشارة إلى أن تمرد فاغنر، الذي رأى بعض المحللين الغربيين أنه لم يكن لينجح مطلقاً، وكان بمثابة محاولة يائسة من بريغوجين لإنقاذ مشروعه وفرض نقاش حول شروط استمراره في ميدان المعركة ودور مجموعته المستقبلي؛ لم يلق أي تعاطف أو دعم يُذكر، سواءً من القوات النظامية أو من حكام الأقاليم أو المقاطعات أو أي من المسؤولين الروس. وصحيح أن بريغوجين وقواته لم يواجهوا أي مقاومة عندما استولوا على قاعدة روستوف، لكن انحاز بوتين في النهاية للجيش النظامي واستبعده تماماً من الصفقة التي توسط فيها الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، بما في ذلك إدخال تغييرات في القيادة، وذلك عندما وقّع مرسوماً يقضي بضرورة انخراط جميع الجماعات العسكرية غير النظامية في القوات المسلحة، وهو ما انصاع له الجميع (نحو 35 جماعة) عدا فاغنر.
ووفقاً لتقارير غربية، كان الجيش الروسي قد خطط لاستخدام القوة ضد فاغنر واعتقال قائدها بعد رفض انضواء قواته تحت مظلة الجيش النظامي بعد معركة باخموت في مايو الماضي، وذلك عندما حدث احتكاك بين الجانبين، بما في ذلك حالة أسر فيها مقاتلو فاغنر ضابطاً روسياً برتبة مقدم، وضربوه وأجبروه على تسجيل اعتذار، بزعم أن جنوده حاولوا مهاجمة قوات فاغنر.
ولم يكن بريغوجين متأكداً من المكان الذي ستأخذه إليه هذه المغامرة، وأن خطته ربما ذهبت إلى أبعد مما كان يتوقع. وبمجرد أن هدده بوتين، لم يكن أمامه من خيار سوى استخدام قواته العسكرية لحماية نفسه والسعي لفرض صفقة مع الكريملين. وتبدو مشكلة بريغوجين الأساسية هي الافتقار الكامل للدعم الجماهيري، كما لم يحصل على أي دعم عسكري، من أي نوع، يمكن أن يمنح الشرعية لسلوكه هذا، فالجيش الروسي منخرط في مواجهة عسكرية في أوكرانيا، وبالتالي هو غير قادر على المشاركة في صراع سياسي بالداخل. وحتى بفرض موافقة قادة وجنود روس بريغوجين في انتقاداته للجيش واتهامه بعدم الكفاءة، فإن كل هؤلاء لم يكونوا في وضع يسمح لهم بفعل الكثير لدعم تمرده. وفضلاً عن ذلك، لم تكن مطالب بريغوجين نفسه، خاصة طلبه إقالة وزير الدفاع ورئيس الأركان، واقعية.
موقف بوتين:
يثير تمرد فاغنر التساؤلات حول أسباب تسامح الرئيس بوتين مع بريغوجين ومقاتليه مع تزايد نفوذ المجموعة وقوتها إلى حد التمرد، والظهور بمظهر المتحدي للرئيس، الذي وفر له دعماً مادياً وسياسياً لا يُستهان به منذ عام 2014.
وللإجابة عن مثل هذه التساؤلات، من المهم الإشارة إلى أن بريغوجين متمرد من داخل النظام الحاكم نفسه، وكان وما يزال جزءاً من هذا النظام، ولم يكن، في أي وقت، من معارضيه. وتظل فاغنر جزءاً من المنظومة العسكرية التي تخضع للقيادة العليا للقوات المسلحة، كما تراقب أنشطتها الأجهزة الأمنية المعنية، مثلها مثل عشرات الشركات العسكرية الخاصة الأخرى في البلاد. ويبرر بعض الخبراء المستقلين صبر الرئيس بوتين على سلوك بريغوجين بتعقيدات الحرب في أوكرانيا وتداعياتها الشاملة المؤثرة في روسيا بصفة عامة والقوات المسلحة النظامية بشكل خاص، ففي تقدير القيادة الروسية يتعلق الأمر بقوة غير نظامية قد تكون مفيدة في هذه المعركة، بفضل استخدامها أساليب ومعايير تتسم بالمرونة على خلاف تلك الخاصة بالجيش النظامي.
وفي هذا السياق، يمكن فهم إبقاء بوتين الباب مفتوحاً لعناصر فاغنر للاندماج في صفوف الجيش الروسي، أو حتى إعادة نشرها بما يخدم معركته الشاملة مع الغرب. ففي خطاب متلفز يوم 26 يونيو الماضي، ذكر الرئيس الروسي أن "مقاتلي فاغنر لديهم فرصة لمواصلة خدمة روسيا من خلال إبرام عقد مع وزارة الدفاع أو غيرها من وكالات إنفاذ القانون، أو العودة إلى عائلاتهم وأصدقائهم، وكل من يريد الذهاب إلى بيلاروسيا يمكنه ذلك". واتصالاً بهذه النقطة، هناك تطور جديد يتشكل، فقد نقلت قناة بريغوجين على تليغرام، عن أنطوني ليزاروف، القائد في المجموعة، قوله إن المقاتلين في عطلة حتى أوائل أغسطس المقبل، بناءً على أوامر بريغوجين، قبل الانتقال إلى بيلاروسيا. وأضاف: "علينا إعداد القواعد وساحات التدريب والتنسيق مع الحكومات والإدارات المحلية، وتنظيم التفاعل مع وكالات إنفاذ القانون في بيلاروسيا، وإنشاء خدمات الإمداد والتموين". وقد استقبلت بولندا، وبعض دول البلطيق، هذه التصريحات بقلق كبير، حيث قال وزير الدفاع البولندي، ماريوس بلاشتشاك، إن بلاده بدأت في نقل أكثر من ألفي جندي إلى حدودها الشرقية، كما أرسلت 500 من رجال الشرطة لتعزيز الأمن على الحدود مع بيلاروسيا.
وارتباطاً بهذه التطورات، كشف المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، في 10 يوليو الجاري، عن أن الرئيس بوتين التقى قائد فاغنر في الكرملين في 29 يونيو الماضي (بعد 5 أيام من التمرد)، مشيراً إلى أن اللقاء استغرق 3 ساعات وحضره أيضاً قادة شركات عسكرية خاصة، بلغ عددهم 35 قائداً. وذكر بيسكوف أن الرئيس "قدم تقييمه لما حدث، وعرض خيارات التوظيف على ممثلي الشركات العسكرية الخاصة". وتابع المتحدث أن "قادة فاغنر قدموا روايتهم للأحداث لبوتين، وأكدوا أنهم من أشد المؤيدين للرئيس الروسي".
استفادة النظام:
الخلاصة هنا أن تمرد عناصر فاغنر بدا بالفعل وكأنه "شأن عائلي" بامتياز، أو خلاف بين أفراد أسرة واحدة، وإن خرج بعضهم عن الخطوط الحمراء. وتعكس التطورات الأخيرة تقدير القيادة الروسية بأن فاغنر، بالرغم من تمردها في 24 يونيو الماضي، وغيرها من الشركات العسكرية الخاصة، ما تزال أداة مهمة في معركة موسكو المتواصلة ضد الغرب، ولا يجب استبعاد إمكانية استخدامها في بيلاروسيا، حليف روسيا في هذه المعركة، وهو تطور يجري في سياق تاريخ طويل من الاعتماد السوفيتي والروسي على القوات غير النظامية.
ومن الناحية الفعلية كان بوتين – وفقاً لخبراء غربيين - المُستفيد الأكبر من هذه الأزمة، التي مكّنته من تمرير عدة قوانين استطاع من خلالها دعم زيادة أعداد القوات المسلحة، من خلال إدماج عناصر فاغنر فيها. وربما تكون الأزمة، وفقاً لهؤلاء، ساعدت إلى حد ما في نزع فتيل التوترات التي تصاعدت أخيراً في الجسم السياسي الروسي. ويُشار في هذا السياق إلى أن الرئيس بوتين – الذي ما زال يتمتع بدعم شعبي واسع باعتباره القائد الذي يخوض معركة وجودية لروسيا - تمكن من البقاء فوق الصراع الداخلي بين بريغوجين والنخبة العسكرية، وأنه استخدم التنافس لصالحه من بعض النواحي. فعلى سبيل المثال، أقر مسؤولون أمريكيون بأنه على الرغم من العنصر الدعائي المسرحي لشكاوى بريغوجين العلنية، فقد كان مفيداً للرئيس الروسي، الذي انتقد - هو نفسه - قياداته العسكرية.