رغم أن إيران لم تتخذ موقفاً واضحاً إزاء إعلان الرئيس العراقي برهم صالح، في 26 ديسمبر الجاري، وضع استقالته تحت تصرف مجلس النواب، إلا أنها سمحت لوسائل إعلامها بشن حملة قوية ضد تلك الخطوة التي اتخذتها صالح، والتماهي مع المواقف التي تبنتها القوى العراقية الموالية لها، ولاسيما تحالف "البناء" الذي يضم "الفتح" برئاسة هادي العامري واتئلاف "دولة القانون" برئاسة نوري المالكي، وكان يسعى إلى تمكين مرشحه محافظ البصرة أسعد العيداني من الوصول إلى منصب رئيس الوزراء، بحجة أن التحالف يمثل "الكتلة الأكبر" في البرلمان، وهو ما يعود في المقام الأول إلى أن هذه الخطوة أربكت حساباتها وأضفت زخماً على مطالب الشارع المناوئ لها والمندد بنفوذها داخل العراق.
خطوة مفاجئة:
دعمت إيران الخطوات التي اتخذتها القوى الموالية لها من أجل تعزيز فرصها في إيصال أحد مرشحيها إلى منصب رئيس الوزراء بعد استقالة رئيس الحكومة السابق عادل عبد المهدي، في 29 نوفمبر الفائت. وبدا أن هناك دوراً رئيسياً يقوم به قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري قاسم سليماني في هذا الصدد، في ظل الأهمية الخاصة التي توليها إيران لمنصب رئيس الوزراء في النظام السياسي العراقي.
إلا أن الخطوة التي أقدم عليها الرئيس برهم صالح، بإعلانه، في 26 ديسمبر الجاري، عزوفه عن تكليف مرشح تحالف "البناء" أسعد العيداني ووضع استقالته تحت تصرف مجلس النواب، أربكت حساباتها، ووضعتها أمام مأزق، في الوقت الذي تحاول تعزيز حضورها في المنطقة، سواء لممارسة ضغوط على القوى المناوئة لها، أو للحصول على مكاسب استراتيجية في أية مفاوضات محتملة قد تجري في المستقبل مع الولايات المتحدة الأمريكية، في حالة ما إذا توافق الطرفان على اللجوء إلى هذا الخيار.
ويمكن تناول ملامح الرؤية الإيرانية للخطوة التي أقدم عليها صالح وتأثيرها على موقعها من الترتيبات السياسية التي يجري العمل على صياغتها في العراق خلال المرحلة القادمة على النحو التالي:
1- رفض دور الحلفاء: ألقت هذه الخطوة الضوء على الرفض الواسع الذي تبديه قطاعات عديدة من الشارع العراقي والقوى السياسية لمحاولات الأطراف الموالية لإيران تكريس هيمنتها على المعادلة السياسية، من خلال الإصرار على تكليف مرشح ينتمي إليها بمنصب رئيس الوزراء. وبالطبع، فإن ذلك يعيد إلى الأذهان مرة أخرى الأدوار التي قامت بها تلك الأطراف والتي أدت إلى تفاقم المشكلات الداخلية وكانت سبباً في اندلاع الاحتجاجات بين فترة وأخرى.
2- تعزيز حضور المناوئين: بدأت اتجاهات عديدة في إيران ترى أن بعض القوى تتبنى سياسة تحاول من خلالها الابتعاد عن دائرة النفوذ الإيراني داخل العراق، وتوسيع مساحة التباين مع الأطراف الموالية لها، وفي مقدمتها تحالف "سائرون" التابع التيار الصدري بقيادة رجل الدين مقتدى الصدر، وتيار "الحكمة" برئاسة عمار الحكيم. واللافت أن ذلك يتماهى، في رؤية تلك الاتجاهات، مع الرؤى التي تتبناها القوى المناوئة لإيران والتي توجه انتقادات قوية لنفوذها داخل العراق، وتسعى إلى تكريس دورها لها في المعادلة السياسية العراقية.
3- ضغوط مضادة: ترى تلك الاتجاهات أن القوى الدولية المناوئة لإيران، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، سوف تحاول استغلال المعطيات الجديدة التي فرضتها خطوة الرئيس صالح، من أجل ممارسة ضغوط أكبر عليها. ولا ينفصل ذلك دون شك عن الرؤية العامة التي يتبناها النظام الإيراني وتقوم على أن الاحتجاجات التي شهدتها كل من إيران والعراق ولبنان ما هى إلى مخطط تنفذه أطراف داخلية بدعم من جانب قوى خارجية تسعى إلى محاصرة نفوذ إيران وتقويض دعائم النظام، على نحو دفع المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي إلى وصف الاحتجاجات بأنها "أعمال شغب".
4- زيادة مكاسب الشارع: يمكن أن يفرض استمرار الأزمة السياسية مكاسب جديدة للشارع لا تتوافق مع حسابات طهران. ففي رؤيتها، فإن تمرير قانون الانتخابات الجديد في البرلمان، في 24 ديسمبر الجاري، كان بمثابة المكسب الأساسي الثاني للشارع بعد الضغوط التي مارسها من أجل تغيير القانون السابق، وبعد استقالة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي. وهنا، فإن رفض الرئيس برهم صالح لمرشح تحالف "البناء" لمنصب رئيس الحكومة ووضعه استقالته تحت تصرف البرلمان يمكن أن يعزز من تأثير الشارع ويدفعه إلى الإصرار على تنفيذ مجمل مطالبه، بشكل قد يؤدي إلى تحجيم نفوذ إيران والقوى الموالية لها.
خيار صعب:
من هنا، كان لافتاً أن القوى الموالية لإيران، وبالتوازي مع انتقاداتها القوية للقرار الذي اتخذه برهم صالح واعتباره "مخالفاً للدستور"، دعت مجلس النواب إلى اتخاذ الإجراءات الدستورية المناسبة للتعامل مع هذا القرار، وهو ما دفع اتجاهات عديدة إلى ترجيح اتجاهها إلى الضغط من أجل تفعيل الاستقالة بعد مرور سبعة أيام على إيداعها لدى مجلس النواب، بشكل سوف يؤدي إلى نقل صلاحيات رئيس الجمهورية إلى رئيس مجلس النواب في ظل عدم وجود نواب للأول، وهو ما يمكن أن يساعد في الوقت نفسه على تمرير المرشح الأساسي أسعد العيداني، الذي حرص، في 27 ديسمبر الجاري، على تأكيد أنه لا يزال مرشحاً لتشكيل الحكومة الجديدة.
لكن هذا المسار من شأنه تعقيد الأزمة السياسية، باعتبار أنه سيدفع الشارع إلى الانتفاض مجدداً ضد القوى السياسية وإيران، لاسيما أن ترشيح العيداني قوبل من البداية برفض من جانب الشارع بسبب الاتهامات التي وجهت لها بارتكاب انتهاكات ضد المحتجين في البصرة خلال الاحتجاجات التي اندلعت في عام 2018. كما أن القوى السياسية الأخرى، مثل تحالف "سائرون" وتيار "الحكمة"، والتي دعمت خطوة الرئيس، سوف ترفض هذا الخيار مجدداً، وهو ما يوحي في النهاية بأن إيران تواجة أزمة لا تبدو هينة في العراق.