أعاد إعلان الرئيس العراقي برهم صالح، في 26 ديسمبر الجاري، وضع استقالته تحت تصرف مجلس النواب، الأزمة السياسية العراقية إلى مربعها الأول من جديد. إذ لم تعد المشكلة تنحصر فقط في اختيار رئيس الحكومة، وإنما امتدت أيضاً إلى التعامل مع المعطيات الجديدة التي يتوقع أن تفرضها خطوة الرئيس.
وفضلاً عن أن هذه الخطوة سوف تثير مواقف وردود فعل متباينة سواء من جانب القوى السياسية الرئيسية أو من قبل الشارع الذي ما زال يضغط من أجل الاستجابة لمطالبه، فإنها سوف تؤثر، أياً كان المسار الذي سوف تنتهي إليه، على توازنات القوى السياسية، وبالتالي سيكون لها دور في تحديد ملامح المشهد السياسي القادم، خاصة فيما يتعلق باختيار رئيس جديد للوزراء، بعد رفض مرشح تحالف "البناء" محافظ البصرة أسعد العيداني، أو الذهاب إلى انتخابات برلمانية مبكرة كما دعا المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني، الذي أكد أيضاً على ضرورة عدم تشكيل ما أسماه بـ"الحكومة الجدلية"، في إشارة إلى الحكومة الحزبية التي يمكن أن تثير خلافات واسعة بين القوى السياسية المختلفة.
تأثيرات محتملة:
قدم الرئيس العراقي مبررين للخطوة التي اتخذها: أولهما، أنه لا يريد الدخول في مواجهة مع الشارع عبر تسمية مرشح لرئاسة الحكومة لا يحظى بقبول من جانبه، على نحو كان من الممكن أن يضع الرئيس نفسه في أزمة حادة مع الشارع، ويشكك في مدى شرعيته أو التزامه بالأسس الدستورية. ومن هنا، كان لافتاً قوله أن التزامه بمرشح الكتلة الأكبر كما جاء في المادة 76 من الدستور التي تلزم رئيس الجمهورية بتكليف مرشح الكتلة النيابية الأكبر لرئاسة الوزراء، من دون أن يكون له حق الاعتراض، قد يكون مخلاً بما ورد في المادة 67 التي تجعل من واجبات الرئيس الحفاظ على سلامة البلاد ووحدتها وسيادتها واستقلالها، بما دفعه لتقديم الاستقالة لتجنب الوقوع في خرق للدستور.
وهنا، فإن هذه الإشارة لها مغزاها، وتعني أن الاستجابة لضغوط تحالف "البناء" الذي يضم ائتلاف "دولة القانون" بقيادة نوري المالكي و"الفتح" برئاسة هادي العامري، كان من الممكن أن يتسبب في تصاعد حدة التوتر على الساحة السياسية وربما كان سيؤدي إلى اندلاع مواجهات مسلحة أو الدخول في فوضى سياسية لا يمكن احتواءها بسهولة.
وثانيهما، أنه لم يتم الاتفاق على تحديد الكتلة الأكبر في البرلمان التي يحق لها ترشيح رئيس للحكومة، وهو ما أشار إليه الرئيس في خطابه بقوله أنه وصل إلى الرئاسة عدة مكاتبات حول تحديد الكتلة الأكبر يناقض بعضها بعضاً.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إن تلك الخطوة سوف تفرض تداعيات مباشرة على المشهد السياسي العراقي يمكن تناولها على النحو التالي:
1- تصدير الاختبار: ألقت الخطوة التي اتخذها الرئيس الكرة في ملعب البرلمان، وبناءً على القرار الذي سوف يصل إليه الأخير سيتم إعادة صياغة الترتيبات السياسية من جديد. وبمعنى آخر، فإن الرئيس بهذه الخطوة نقل الاختبار الخاص باختيار رئيس للحكومة منه إلى مجلس النواب، الذي عليه إدارة المشهد السياسي في المرحلة القادمة وتحديد المسارات المحتملة التي سوف يتجه إليها.
2- إعادة تشكيل الكتل السياسية: سوف تفرض ردود الفعل التي سوف تبديها القوى السياسية، خاصة الكتل الخاصة بها في البرلمان، تجاه خطوة الرئيس، توازنات جديدة ربما يكون لها دور في تسمية المرشح الجديد لرئاسة الحكومة. وبعبارة أخرى، فإن توافق العديد من الكتل السياسية على رفض استقالة الرئيس ربما يؤدي بها إلى تكوين كتلة أكثر اتساعاً وبالتالي تجاوز الجدل الحالي حول الكتلة الأكبر حجماً داخل البرلمان والذي أدى إلى عرقلة تسمية رئيس الحكومة وساهم في اتخاذ الرئيس قرار وضع الاستقالة تحت تصرف البرلمان. وربما تتخذ الكتل التي كانت ترفض من البداية فكرة ترشيح إحدى الشخصيات الحزبية لمنصب رئيس الحكومة الموقف نفسه، على نحو يمكن أن يغير توازنات القوى السياسية لصالحها في البرلمان.
3- تصاعد تأثير الشارع: كان لافتاً في خطاب برهم صالح أنه كان حريصاً على تأكيد دور الشارع في اختيار رئيس الحكومة، بما يعني أن الرئيس حاول عبر الخطوة التي اتخذها توجيه رسالة إلى جميع الأطراف المعنية بالأزمة السياسية، مفادها أنه يرفض الاستجابة لضغوط بعض الكتل وتجاوز مطالب الشارع، عبر اختيار شخصية حزبية، هى محافظ البصرة أسعد العيداني المرشح من جانب كتلة "البناء" التي ادعت أنها الكتلة الأكبر في البرلمان.
وبعبارة أخرى، فإن الخطوة التي اتخذها الرئيس قطعت الطريق أمام الإصرار على ترشيح شخصية حزبية، وأضفت وجاهة خاصة على الدعوات التي تبناها الشارع وبعض القوى السياسية لترشيح شخصية مستقلة لتولي منصب رئيس الحكومة.
وقد كان الإصرار على اختيار العيداني محط رفض من جانب الشارع لاعتبارين: أولهما، أنه شخصية محسوبة على تحالف "البناء", بما يعني أن توليه منصب رئيس الحكومة يوحي في المقام الأول بأن مطالب الشارع لم تتحقق وأن الضغوط التي أدت إلى استقالة رئيس الحكومة السابق عادل عبد المهدي لم تحقق أهدافها في النهاية.
وثانيهما، أن هناك استياءً واسعاً من جانب الشارع إزاء الآليات التي استند إليها العيداني في تعامله مع الاحتجاجات التي اندلعت في البصرة العام الماضي.
من هنا، يمكن القول إنه أياً كان القرار الذي سوف يتخذه مجلس النواب للتعامل مع الخطوة التي اتخذها الرئيس بوضعه استقالته تحت تصرفه، فإنه سوف يساهم في إجراء تغييرات بارزة في المشهد السياسي، مع الوضع في الاعتبار أن المرجعية العليا ممثلة في علي السيستاني سوف يكون لها دور في تحديد اتجاهات المشهد خلال المرحلة القادمة، بناءً على المعطيات الجديدة التي فرضتها خطوة الرئيس.