رغم أن إيران واصلت اتخاذ مزيد من الإجراءات التصعيدية بالإعلان عن تخفيض جديد لالتزاماتها في الاتفاق النووي، عبر رفع مستوى تخصيب اليورانيوم ليتجاوز النسبة المنصوص عليها في الاتفاق (3.67 %) ويصل إلى 4.5 %، إلا أنها كانت حريصة في الوقت نفسه على عدم رفض الجهود التي تبذلها فرنسا من أجل التوسط بين الطرفين، على نحو بدا جليًا في استقبالها لإيمانويل بون كبير مستشاري الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يومى 9 و10 يوليو 2019، للمرة الثانية خلال أقل من ثلاثة أسابيع. لكن ذلك لا ينفي في الوقت ذاته أن اتجاهات عديدة في طهران اعتبرت أن ما يمكن أن تسفر عنه تلك الجهود لا يصل إلى حد الوصول إلى تسوية للأزمة الحالية بقدر ما ينحصر في البحث عن آليات لوقف التصعيد الحالي وعدم الدفع في اتجاه اتخاذ مزيد من الإجراءات المتبادلة.
رسائل مسبقة:
كان لافتًا أن إيران حرصت على توجيه رسائل مسبقة لفرنسا والقوى المعنية باستمرار العمل بالاتفاق النووي، هدفت من خلالها إلى وضع حدود لأية نتائج قد تسفر عنها الجهود التي تبذلها باريس، وبمعنى أدق توضيح الظروف التي يمكن أن تقبل فيها إيران بوقف التصعيد الحالي مع الولايات المتحدة الأمريكية.
فقبيل زيارة بون بيوم واحد، أعلنت إيران أنها زادت مستوى التخصيب إلى 4.5%، وأشارت أيضًا إلى أن الوصول إلى نسبة 20%، وهى النسبة التي كانت قريبة منها بشكل كبير قبل الوصول للاتفاق النووي، يمثل أحد الخيارات المطروحة أمامها للتعامل مع الإجراءات العقابية التي تواصل الولايات المتحدة الأمريكية فرضها. وتوازى ذلك مع التصعيد الإيراني ضد بريطانيا، على خلفية قيام قوات البحرية البريطانية، بالتعاون مع سلطات جبل طارق، في 4 يوليو الجاري، باحتجاز ناقلة نفط إيرانية كانت متجهة إلى سوريا، حيث هددت إيران بالرد على الخطوة البريطانية، وأشارت تقارير عديدة، في 11 من الشهر نفسه، إلى أن بعض الزوارق التابعة للحرس الثوري حاولت اعتراض سفينة بريطانية في مياه الخليج قبل أن تجبرها فرقاطة تابعة للبحرية الملكية على الابتعاد.
ومن دون شك، لا يمكن فصل هذه التحركات عن التصريحات التي أدلى بها أمين عام حزب الله حسن نصر الله، في 12 يوليو الجاري، وركز فيها على القدرات العسكرية التي يمتلكها الحزب وعلى التداعيات التي يمكن أن تفرضها أية حرب جديدة محتملة على إسرائيل.
وهنا، فإن الرسالة الإيرانية واضحة، ومفادها أن مزيدًا من الإجراءات العقابية الأمريكية معناه، وفقًا لطهران، مزيد من التصعيد من جانب إيران، سواء في الملف النووي باتخاذ إجراءات إضافية خاصة برفع مستوى التخصيب أو زيادة عدد أجهزة الطرد المركزي المستخدمة في عمليات التخصيب أو غيرها، أو في مياه الخليج عبر الإيحاء بقدرتها على استهداف أمن الملاحة، أو في منطقة الشرق الأوسط من خلال الإيعاز إلى الميليشيات الموالية لها بالتحرك في حالة ما إذا تعرضت لهجوم أو اندلعت مواجهة مباشرة بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية.
خيارات محدودة:
اعتبرت اتجاهات عديدة في طهران أن "الأفكار" الفرنسية ركزت على الحد الأدنى من الخطوات التي يمكن اتخاذها لوقف التصعيد الحالي. وقد جاءت تلك "الأفكار" في إطار ما يسمى "بالوقف مقابل الوقف" بمعنى توقف واشنطن عن فرض مزيد من العقوبات خلال المرحلة القادمة مقابل توقف طهران عن اتخاذ مزيد من الخطوات الخاصة بتخفيض مستوى التزاماتها في الاتفاق النووي، مع العمل على تفعيل آلية "انستكس" لمواصلة التعاملات التجارية بين إيران والدول الأوروبية.
وكان لافتًا أن صحيفة "كيهان" (الدنيا)، وهى إحدى أقرب وسائل الإعلام إلى مكتب المرشد الأعلى علي خامنئي، شنت حملة قوية ضد "الأفكار" الفرنسية التي أشارت إلى أنها "تتضمن المطالب الأمريكية نفسها لكن بلغة فرنسية"، معتبرة أن باريس تسعى عبرها إلى تحقيق هدفين: أولهما، دفع إيران إلى التوقف عن اتخاذ مزيد من الإجراءات الخاصة بتخفيض التزاماتها في الاتفاق النووي. وثانيهما، التمهيد لإجراء مفاوضات جديدة تشمل مجمل الملفات الخلافية، وليس الاتفاق النووي فقط، على غرار البرنامج الصاروخي والدور الإقليمي.
وبالتوازي مع ذلك، وجهت إيران رسائل مباشرة إلى باريس ترتبط بالسقف الذي يمكن أن تصل إليه نتائج الجهود الدبلوماسية الحالية والقضايا التي يمكن أن تكون محل تفاهمات محتملة. إذ قال مساعد وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، في 7 يوليو الجاري: "لا مانع لدينا للمفاوضات النووية مع الولايات المتحدة الأمريكية في حالة تم رفع جميع العقوبات المفروضة علينا من قبلهم".
هذه التصريحات تحديدًا تشير إلى أن الأفكار التي طرحتها باريس من أجل إنجاح جهودها الدبلوماسية تواجه خيارات محدودة، تتمثل في:
1- حصر المفاوضات في النووي: ويعني ذلك أن إيران ترفض، على الأقل في المرحلة الحالية، التطرق إلى الملفات الأخرى، خاصة ما يتعلق بدورها في المنطقة، ولا سيما في دول الأزمات مثل اليمن وسوريا والعراق ولبنان.
وهنا، فإن ثمة مشكلة تواجه فرنسا. ففضلاً عن أن إيران تعتبر أن "الأفكار" الفرنسية هى بمثابة "إعادة تدوير" للمطالب الأمريكية، فقد سبق أن رفضت الأولى دعوات متكررة من جانب باريس للدخول في مفاوضات حول برنامج الصواريخ الباليستية، أو تعديل الاتفاق النووي ليتضمن بنودًا خاصة بتلك النوعية من القضايا، وهو ما يمكن أن يفرض تأثيرات مباشرة على أية احتمالات خاصة بخروج الجهود الدبلوماسية الفرنسية بنتائج إيجابية.
2- رفع العقوبات الأمريكية: وهو ما يواجه عقبة إصرار الولايات المتحدة الأمريكية على مواصلة تبني تلك السياسة وإيصالها إلى درجة غير مسبوقة، بهدف دفع إيران إلى تغيير موقفها باتجاه القبول بإجراء مفاوضات جديدة، على نحو انعكس في تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 10 يوليو الجاري، والتي قال فيها أن "العقوبات على إيران ستتضاعف قريبًا"، بعد أن اتهم إيران بالقيام بتخصيب اليورانيوم سرا.
واللافت في هذا السياق، أن ذلك توازى أيضا مع العقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة الأمريكية، قبل ذلك بيوم واحد، على النائبين في حزب الله أمين شري ومحمد رعد بعد توجيه اتهامات لهما بـ"استغلال النظام السياسي والمالي اللبناني لصالح حزب الله وإيران"، في إشارة إلى أن واشنطن سوف تتبنى سياسة متوازية تقوم على محاصرة مصادر التمويل التي تعتمد عليها إيران والميليشيات الموالية لها.
3- الخلافات المتراكمة: ثمة خلافات أخرى تضع حدودا لأية أدوار وساطة تقوم بها فرنسا أو أى من الدول الأوروبية الأخرى. فقد تصاعدت حدة التوتر بين إيران وبريطانيا في الفترة الأخيرة بعد احتجاز ناقلة النفط الإيرانية في جبل طارق وقبلها بالطبع إشارة وزير الخارجية البريطاني جيرمي هانت، في 16 يونيو الفائت، إلى دور إيران في العمليات التخريبية التي طالت ناقلات النفط في الخليج.
كما اتجهت فرنسا نفسها، في 3 أكتوبر 2018، إلى فرض عقوبات على وحدة تابعة لوزارة الاستخبارات الإيرانية وشخصين إيرانيين بعد اتهامهم بالتخطيط لاستهداف مؤتمر نظمته قوى المعارضة الإيرانية في باريس في يونيو من العام نفسه.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن النتائج التي سوف تترتب على جهود الوساطة الفرنسية سوف تؤثر على سياسات الدول الأوروبية تجاه التصعيد الحالي بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، حيث سيؤدي إلى اقتراب تلك الدول، إلى حد كبير، من النهج الذي تتبعه واشنطن في الوقت الحالي، لا سيما بعد أن فرضت المواقف الإيرانية خيارات محدودة أمام تلك الجهود.