اتجهت العراق وبعض دول الجوار إلى تصعيد حدة ضغوطها على إقليم كردستان بعد الاستفتاء الذي أجرى في 25 سبتمبر الجاري، وأعلنت السلطات أن نسبة المشاركة فيه وصلت إلى 72% أيد 92% منهم الانفصال مقابل رفض 8%، حيث لا تستبعد هذه الأطراف أن تؤدى تلك الإجراءات تكتيكيًا إلى عزوف الإقليم عن اتخاذ خطوات أخرى يرجح أن تقابل برفض من جانبها، خاصة أنها ترى أن نتائج الاستفتاء تمثل تهديدًا لأمنها القومي.
وبالتوازي مع التدابير العسكرية التي اتخذتها تركيا وإيران وشملت انتشارًا عسكريًا وإجراء بعض المناورات المحدودة على حدودهما المشتركة مع الإقليم، فقد أصدر البرلمان العراقي، في 27 سبتمبر الجاري، قرارًا يلزم رئيس الوزراء حيدر العبادي بإرسال قوات إلى المناطق المتنازع عليها مع الإقليم، وفي مقدمتها كركوك، من أجل استعادتها من ميليشيا "البشمركة" الكردية. كما سعت الحكومة العراقية إلى رفع مستوى تنسيقها الأمني مع أنقرة وطهران، حيث قام رئيس الأركان العراقي الفريق ركن عثمان الغانمي بزيارة الدولتين، وذلك قبل زيارة يتوقع أن يقوم بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الأركان الجنرال خلوصي آكار إلى طهران للتباحث حول حدود الخيارات المتاحة للتعامل مع الاستحقاقات الجديدة التي فرضتها نتائج الاستفتاء.
لكن ذلك في مجمله لا ينفي أنه لا يزال من المبكر ترجيح أن يكون سيناريو اليوم التالي هو اندلاع مواجهات عسكرية بين أىٍ من تلك الأطراف والميليشيا الكردية، إذ أن المسارات المحتملة لما بعد الاستفتاء سوف تعتمد على الإجراءات التالية التي سوف يقوم إقليم كردستان باتخاذها، وعلى التحركات التي يمكن أن تقوم بها بعض القوى الدولية المعنية بالأزمة أو بتداعياتها، والتي قد لا تفصلها عن الاتجاهات الحالية لعلاقاتها مع القوى الإقليمية المنخرطة فيها، ولا سيما إيران وتركيا.
خطوات جديدة:
بدأت الحكومة العراقية في وضع استراتيجية أمنية جديدة للتعامل مع نتائج الاستفتاء، تتمثل أبرز محدداتها في:
1- تكريس وضع الإقليم كجزأ من الدولة العراقية: إذ لم يكتف رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادى بالتشكيك في نتائج الاستفتاء، التي قال أن نسبة المشاركة فيه لم تتعدى 50% وأن نسبة المعارضة كانت كبيرة وأن سلطات الإقليم أجبرت المواطنين على الذهاب إلى صناديق الاقتراع، بل إنه تعمد في اليوم التالي لإجراء الاستفتاء، الإشارة إلى الإقليم على أنه "منطقة شمال العراق"، مؤكدًا أن الحكومة المركزية سوف تبسط سيطرتها الاتحادية على كل المناطق التي نص عليها الدستور.
2- فك الارتباط مع "البشمركة" فى العمليات ضد "داعش": بدأت الحكومة المركزية في فك الارتباط مع ميليشيا "البشمركة" التي تشارك فى المعارك ضد تنظيم "داعش" منذ بداية العمليات العسكرية، واستبدلت محاور التدخل عبر مسار كركوك بالدخول من ناحية العباسي من جهة ومن ناحية الرياض من جهة أخرى، وهو ما يعنى، من جانب آخر، أن القوات العراقية تسعى إلى الانتهاء من عملية الحويجة خاصة في ضوء استسلام كثير من عناصر تنظيم "داعش"، وعدم الاحتكاك بالميليشيا الكردية أو الانخراط في مناوشات عسكرية معها على الأقل في المرحلة الحالية.وهنا، لا يمكن استبعاد أن تقوم ميليشيا "الحشد الشعبي" بهذا الدور، لا سيما بعد التهديدات التي وجهتها بالتدخل واستخدام القوة، خاصة في ظل علاقاتها القوية مع إيران التي قد تستند إليها لفرض مزيد من الضغوط على أكراد العراق في إطار ما يمكن تسميته بـ"الحرب بالوكالة".
3- تفعيل توصيات إعادة الانتشار الأمني: والتي أصدرها البرلمان العراقي، وتقضى بنشر قوات الأمن والقطاعات العسكرية بدعوى منع الفتن الداخلية بين المكونات العراقية.
تصعيد إقليمي:
وبالتوازي مع ذلك، بدأت كل من إيران وتركيا في اتخاذ خطوات إجرائية على الأرض للتعامل مع الاستحقاقات التي سوف تفرضها نتائج الاستفتاء، خاصة أن الدولتين تتفقان على أن الاستفتاء يمثل تهديدًا لأمنهما واستقرارهما الداخلي، باعتبار أنه يمكن أن يحفز أكراد إيران وتركيا على تبني النهج ذاته في المستقبل.
وفي هذا السياق، قامت إيران بنشر قواتها العسكرية على الحدود المتاخمة للإقليم في محاولة لإحكام الحصار على المنافذ المؤدية إليه، وهى إشارة إلى إنهاء الترتيبات الأمنية السابقة مع حكومة الإقليم، وفقًا لتصريحات أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني، كما نشرت بعض منظومات الدفاع الجوي في خطوط متقدمة مثل بطاريات صواريخ "S-300"، وهو ما لا يمكن فصله عن الرؤية التي تتبناها اتجاهات عديدة داخل دوائر صنع القرار في طهران، والتي تقوم على أن نتائج الاستفتاء يمكن أن تصب في صالح بعض الأطراف المناوئة لإيران، على غرار إسرائيل.
في حين تجري قوات تركية وعراقية مناورات عسكرية مشتركة قرب حدود تركيا مع شمال العراق، وذلك عقب نشر عشرات المركبات من سلاح المشاة التركي بالقرب من الحدود العراقية، حيث أبدت تركيا مواقف أكثر وضوحًا فيما يتعلق بإمكانية استنادها إلى الخيار العسكري للتعامل مع الواقع الجديد الذي فرضته نتائج الاستفتاء، خاصة بعد القرار الذي أصدره البرلمان التركي، في 23 سبتمبر الجاري، بتمديد التفويض الخاص بنشر قوات تركية في العراق وسوريا لمدة عام.
صعوبات عديدة:
رغم إصرار حكومة إقليم كردستان على توجيه إشارات عديدة بأنها سوف تمضي قدمًا في تطبيق نتائج الاستفتاء، إلا أن ذلك لا ينفي أنها قد تواجه صعوبات عديدة، على المستويين العسكري والسياسي، في التعامل مع الإجراءات المضادة التي تتخذها الأطراف المناوئة للاستفتاء.
فعلى المستوى العسكري، تشير مؤشرات ميزان القوة العسكرية لحكومة الإقليم إلى أن اتجاهها إلى خوض مواجهة عسكرية ضد أى طرف رافض للاستفتاء قد يفرض عواقب غير مضمونة. إذ أن الإقليم يفتقر لقوة جوية أو نظام دفاع جوي تتوفر فيهما قدرة عملياتية، كما لا تلتزم حاليًا أى قوات جوية أجنبية بحماية الإقليم، على مستويات البنية العسكرية والاقتصادية.
وعلى الصعيد السياسي، ما زالت بعض الأطراف داخل الإقليم تبدي رفضها للاستفتاء والنتائج التي انتهى إليها، خاصة التي تنتمي للمكونات العرقية الأخرى. وقد كانت الجبهة التركمانية، على سبيل المثال، إحدى القوى التي أعلنت رفضها للاستفتاء من البداية، حيث اعتبرت أنه يمثل "خطوة غير دستورية يحصل من خلالها شعب على حقوقه على حساب الآخرين".
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول فى النهاية إن المسارات المحتملة لنتائج الاستفتاء في كردستان ستظل محكومة بمتغيرين: يتمثل الأول، في الخطوة التالية التي ستقوم حكومة الاقليم باتخاذها، فى ظل تأزم الأوضاع السياسية مع الحكومة المركزية وتصاعد حدة الضغوط التي تمارسها دول الجوار.
وينصرف الثاني، إلى حدود تدخل بعض القوى الدولية المعنية بالأزمة، من خلال مبادرات لاحتواء تداعياتها، والتي سوف ترتبط، في الغالب، باتجاهات علاقاتها مع كل من إيران وتركيا، بشكل سوف يؤثر على الخيارات المتاحة لكل طرف للتعامل مع المعطيات الجديدة التي فرضتها نتائج الاستفتاء.