اتسع نطاق الجدل من جديد حول قضية استقلال إقليم كردستان العراق، وذلك على خلفية الخطوات العديدة التي اتخذتها القوى الكردية في الفترة الأخيرة. فبعد القرار الذي اتخذه مجلس محافظة كركوك، في 28 مارس 2017، برفع علم كردستان العراق بجانب العلم العراقي، والذي أثار انتقادات قوية سواء من جانب أطراف عراقية مثل حكومة حيدر العبادي في بغداد وبعض القوى السياسية الأخرى، أو من قبل قوى إقليمية مثل تركيا التي اعتبرت أنه قرار غير صائب وهددت باتخاذ إجراءات أحادية الجانب للتعامل معه، فقد عقدت القوى الكردية اجتماعات متواصلة لمناقشة الاستعداد للاستفتاء على استقلال الإقليم المزمع إجراءه في الخريف القادم حسب تصريحات بعض المسئولين الأكراد، وتشكيل لجنة سياسية تضم شخصيات من تلك القوى لتنسيق جهودها في هذا الملف.
عراق ما بعد "داعش":
ويمكن القول إن تصاعد حديث المسئولين الأكراد خلال الفترة الماضية عن الاستعداد لإجراء الاستفتاء لا ينفصل عن استمرار النقاش، في الداخل والخارج، عن مستقبل العراق في مرحلة ما بعد انتهاء المعارك المسلحة ضد تنظيم "داعش" في الشمال، خاصة في مدينة الموصل، حيث يسعى الأكراد إلى استغلال الزخم الذي تحظى به الحرب ضد "داعش" والتي مارست فيها ميليشيا "البشمركة" الكردية دورًا رئيسيًا بات محل دعم من جانب القوى الدولية المعنية بالحرب ضد الإرهاب، من أجل إضفاء أهمية ووجاهة خاصة على مساعيهم للاستقلال وتكوين دولة كردية في شمال العراق.
ومن هنا، سعى الأكراد إلى توجيه رسائل عديدة إلى تلك الأطراف خلال الفترة الأخيرة، منها على سبيل المثال، التلميح إلى عدم الانسحاب من المناطق التي دخلتها ميليشيا "البشمركة" في مدينة الموصل، خلال المواجهات المسلحة لطرد عناصر تنظيم "داعش" منها، إلى جانب التمسك بضرورة ضم مدينة كركوك إلى الإقليم.
ورغم أن رئيس حكومة الإقليم نيجيرفان برزاني أكد، في 5 أبريل 2017، على أن "مدينة كركوك ليست للأكراد فقط"، في إشارة إلى توافقه في الرأى مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي سبق أن أدلى بالتصريح نفسه قبل ذلك، إلا أن ذلك ربما يمثل خطوة متعمدة من جانب الأكراد لتقليص تداعيات الرفض التركي القوى سواء لاستقلال الإقليم أو لضم كركوك إليه، وهو أحد أهم المتغيرات التي سوف تؤثر في مدى نجاح الأكراد في تنفيذ مبادرتهم لإجراء استفتاء على انفصال الإقليم.
استثمار الحرب:
وبالتوازي مع ذلك، يبدو جليًا أن الأكراد يسعون إلى استحصال مكاسب سياسية من مشاركتهم العسكرية في الحرب ضد تنظيم "داعش"، من خلال الترويج للدور البارز الذي قامت به ميليشيا "البشمركة" والذي ساهم في تقليص مساحة الأراضي التي سيطر عليها التنظيم منذ منتصف عام 2014، إلى جانب استقبال عدد كبير من النازحين من تلك المناطق رغم ما يفرضه ذلك من عباء اقتصادية لا تبدو هينة.
وفي هذا الصدد كان لافتًا أن نيجيرفان برزاني حاول تقليص حدة الانتقادات التي أثارها قرار مجلس محافظة كركوك برفع علم الإقليم، حيث أشار إلى أن "البشمركة وتحت هذا العلم حموا إقليم كركوك من هجمات داعش، ولولا البشمركة لما كنا شهدنا اليوم لا العلم العراقي ولا علم كردستان، فقط علم داعش".
وهنا، ربما يمكن القول إن أكراد العراق ما زالوا يعولون على اهتمام القوى المعنية بالحرب ضد "داعش" بالدور الذي تقوم "البشمركة" في شمال العراق، باعتبار أن هذا الدور، في رؤيتهم، أساسي ولا يمكن تجاهله، حيث يسعون إلى استثمار ذلك في محاولة تمرير الاستفتاء المزمع إجراءه في الفترة القادمة، وتحييد أية تحركات قد تسعى إلى عرقلة تنظيمه في موعده المحدد.
عقبات عديدة:
ومن دون شك، فإن تلك الجهود سوف تواجه عقبات عديدة، لا تتصل فقط بردود الفعل الرافضة الي سوف تبديها الأطراف العراقية ودول الجوار، لا سيما تركيا وإيران والتي تسعى إلى عرقلة محاولات أكراد العراق استثمار التطورات الإقليمية لتحقيق أهدافهم، فضلا عن القوى الدولية التي قد تعتبرها خطوة سوف تربك حساباتها، وإنما ترتبط أيضًا بمتغيرات أخرى لا تقل أهمية، يأتي في مقدمتها العلاقة بين القوى الكردية نفسها.
فرغم أن هذه القوى، والتي تتمثل في "الحزب الديمقراطي الكردستاني" بزعامة مسعود برزاني رئيس الإقليم و"الاتحاد الوطني الكردستاني" بقيادة جلال طالباني و"حركة التغيير" برئاسة نوشيروان مصطفى، حرصت على تنظيم اجتماعات متواصلة خلال الفترة الأخيرة، وذلك لتوجيه رسائل إلى الأطراف المعنية، في الداخل والخارج، بأن قضية الاستفتاء والانفصال تمثل محور توافق مشترك فيما بينها، إلا أن ذلك لا ينفي أن الخلافات القائمة بين تلك القوى، لا سيما بين "الحزب الديمقراطي" و"حركة التغيير" لا تبدو هينة ولا يمكن تسويتها بسهولة، بشكل سوف يؤثر، بلا شك، على الجهود التي سوف تبذلها تلك الأطراف لضمان إجراء الاستفتاء في موعده وتجاوز العقبات التي من التوقع أن تضعها بعض القوى أمام تنظيمه.
وقد بدأت الأزمة تتصاعد بين الطرفين خاصة بعد توجيه "الحزب الديمقراطي" اتهامات للحركة بالمسئولية عن التظاهرات التي شهدتها بعض المدن الرئيسية في الإقليم مثل مدينة السليمانية احتجاجًا على تدهور الأوضاع الاقتصادية في بعض المناطق، وبمحاولة توسيع نطاق الخلافات بين الإقليم والحكومة في بغداد.
ويبدو أن الخلاف حول المؤسسة التي سوف تتولى إقرار الاستفتاء سوف يكون أحد أهم العقبات التي يمكن أن تواجه جهود القوى الكردية في الفترة القادمة، في ظل إصرار "حركة التغيير" على أن يكون البرلمان المعطل منذ شهور عديدة بسبب الخلافات المستمرة بين الأخيرة و"الحزب الديمقراطي" هو الجهة التي سوف تتولى إقرار عملية الاستفتاء وتنفيذها، وهو لم يتضح بعد موقف "الحزب الديمقراطي" تجاهه.
فضلا عن أن الأخير أبدى شكوكًا إزاء تداعيات التوافق الملحوظ في سياسات "حزب الاتحاد الوطني" و"حركة التغيير"، لا سيما بعد إبرام الطرفين اتفاقية في 17 مايو 2016 تضمنت التأكيد على أن البرلمان هو الجهة المخولة بالإشراف على عملية الاستفتاء، وهى الاتفاقية التي اعتبر "الحزب الديمقراطي" أنها "لن تحل الخلافات العالقة بل ستعيدنا إلى الإشكاليات نفسها"، موجهًا اتهامات إلى "حزب الاتحاد" بأنه "وضع نفسه مع طرف خلق الأزمة" في إشارة إلى "حركة التغيير".
ومن هنا، ربما يمكن القول إن الفترة القادمة سوف تشهد تحركات متقاطعة من جانب القوى الكردية والأطراف المحلية والإقليمية المعنية بالقضية، سوف يكون لها دور بارز في تقييم مدى قدرة الأكراد على إجراء الاستفتاء.