كان تقرير منظمة العمل الدولية الصادر منذ نحو عام، بعنوان "عالم التوظيف والتوقعات الاجتماعية: اتجاهات عام 2019"، يرى أن غالبية القوة العاملة العالمية البالغ عددها، في حينه، 3.3 مليار شخص "يعانون إحساساً أقل بالأمان لعدم كفاية الأمن الاقتصادي والرفاه المادي وتكافؤ الفرص". لكن النتائج الرئيسية للتقرير قالت بأن البطالة العالمية تواصل الانخفاض منذ الأزمة المالية العالمية، التي اندلعت في عام 2008. وبرغم أنه قال أن ذلك الانخفاض يسير ببطء، لكنه أكد على أن أسواق العمل الدولية تسير بثبات واستقرار نحو المزيد من التوظيف.
وإذا كان ذلك الاتجاه الإيجابي سيطر على أداء أسواق العمل الدولية حتى نهاية عام 2019، إلا أن عام 2020، الذي شهد ظهور وتمدد فيروس "كورونا"، لابد أنه سيمحو المكاسب التي حققها العمال حول العالم، ليس فقط في السنوات المنقضية منذ الأزمة المالية العالمية، بل إنه سيدفع أسواق العمل الدولية إلى الخلف لعقود ممتدة، وسيؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة في جميع دول العالم من دون استثناء.
ويفرض ذلك على جميع الدول، من دون استثناء أيضاً، ضرورة الاستعداد لذلك، عبر تبني سياسات وخطط لتجنب دخول أسواق العمل لديها في نفق مظلم. ولن تكون مهمتها سهلة في هذا الإطار، فهى ستُقابَل بتحديات تزيد مهمتها صعوبة، لكنها لا يمكنها التراخي أو ترك الأمر ليحل نفسه مع الوقت.
ارتدادات الفيروس:
فرض فيروس "كورونا" بظله الثقيل حالة من التعطل للبشر، ولكثير من الموارد الاقتصادية وعناصر الإنتاج حول العالم، فهو قد وضع نحو 40% من سكان العالم، أو نحو 3 مليار نسمة، موزعين على ما يزيد عن 82 دولة حول العالم، في حالة من العزل المنزلي الجبري، الكلي أو الجزئي، بعد أن اضطرت الحكومات إلى فرض ذلك العزل، قناعةً منها بأنه هو الإجراء الوحيد الممكن من خلاله السيطرة على الفيروس، ولقطع الطريق أمام انتشاره بشكل خارج عن السيطرة، أو بالأحرى كوسيلة من خلالها تتمكن الدول من تسطيح منحنى الإصابات لديها، وبما يسمح لمستشفياتها باستيعاب المصابين بالفيروس والمحتاجين لتدخل طبي.
وإبان ذلك، فإن العديد من الحكومات اضطرت إلى إغلاق معظم أو بعض الأنشطة الاقتصادية لديها، من أجل تقليص فرص التجمعات البشرية، أيضاً كوسيلة لخفض معدلات الإصابات بالفيروس. كما أن تراجع الطلب على منتجات الشركات، في العديد من القطاعات، أجبر العديد منها على تقليص أعداد موظفيها، عبر تسريحهم سواءً بشكل نهائي أو مؤقت.
وقد انعكس ذلك على معدلات البطالة حول العالم، ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، قفز عدد المتقدمين للحصول على إعانات بطالة إلى أعلى مستوى له على الإطلاق، بوصوله في الأسبوع الأخير من شهر مارس الفائت إلى 6.6 مليون شخص. وساهم ذلك في ارتفاع معدل البطالة في الولايات المتحدة إلى نحو 10%، كما أنه من المتوقع أن يقفز إلى 15% خلال الشهرين المقبلين، ليصل بذلك إلى أعلى مستويات منذ ستينات القرن الماضي أو ما قبلها.
وما يصدق على الولايات المتحدة، يصدق بالطبع على جميع دول العالم، فالظروف واحدة. وقد قدرت منظمة العمل الدولية أعداد المعرضين لفقدان وظائفهم حول العالم خلال العام الجاري بسبب فيروس "كورونا" بنحو 25 مليون شخص. ويزيد هذا العدد عن إجمالي الذين فقدوا وظائفهم بسبب الأزمة المالية العالمية بنحو 3 مليون شخص، حيث بلغ من فقدوا عملهم بسبب تلك الأزمة نحو 22 مليون شخص.
كما تشير تقديرات منظمة العمل الدولية إلى مؤشر آخر يعكس حجم الأزمة التي تعانيها سوق العمل الدولية بسبب أزمة "كورونا"، حيث تتوقع المنظمة أن هذه الأزمة من شأنها أن تتسبب في فقدان 6.7% من إجمالي ساعات العمل على المستوى العالمي خلال العام الجاري، بما يناهز نحو 195 مليون وظيفة بالدوام الكامل. كما ترى المنظمة أن 4 من كل 5 موظفين على مستوى العالم يقعون في دائرة تأثير الإجراءات الاقتصادية التي تتخذها الحكومات كآلية وقائية ضد فيروس "كورونا".
وما يلفت الانتباه هو أن المنظمة تتوقع أن تكون المنطقة العربية هى أكثر مناطق العالم تأثراً بذلك، حيث ستفقد المنطقة –وفق تقديراتها- ما يصل إلى 8.1% من إجمالي ساعات العمل بها، بما يقدر بنحو 5 مليون وظيفة بالدوام الكامل. وتتراجع هذه النسبة إلى 7.8% في أوروبا، و7.1% في آسيا، بينما تصل في الأمريكتين إلى 6.3% فقط، وذلك برغم كل ما تشهده الولايات المتحدة من تطورات لافتة في هذا الشأن كما سبق الذكر.
ضرورة الاستعداد:
تؤكد هذه المؤشرات أن أسواق العمل في جميع دول العالم متأثرة، بشكل أو بآخر، بالتداعيات السلبية لفيروس "كورونا"، وأن جميع الدول من دون استثناء ستشهد تصاعداً في مشكلة البطالة خلال الفترة المقبلة، وقد تكون المنطقة العربية من بين المناطق الأكثر تأثراً ومعاناة، وفق ما سبق توضيحه.
وبالتالي، فإن دول وحكومات العالم أجمع عليها الاستعداد من الآن لهذا الأمر، من خلال وضع خطط مبتكرة لضمان عدم خروج هذه الأزمة عن السيطرة، كما أن الحكومات عليها أن تعي أنه كلما ازداد أمد أزمة "كورونا"، واضطرت الدول إلى التعامل معها بالنهج نفسه، عبر الإغلاق الاقتصادي، فإن الأمر سوف يزداد تعقيداً، وسترتفع تكلفته الآنية، وطويلة الأجل، وبجوانبها المادية والمعنوية أيضاً.
والأمر الهام، هو ضرورة عدم النظر إلى المسرحين من أعمالهم، بسبب هذه الأزمة الطارئة، بأنهم زائدون عن حاجة الاقتصاد، بما يعنيه ذلك من تصنيفهم على أنهم عبء على الاقتصاد. لكن الحقيقة هى أن إدماج هذه العمالة في أسواق العمل، ومنحها الوظائف مجدداً هو أحد الضمانات الضرورية للاستقرار الاقتصادي على المدى البعيد.
فالأهمية الاقتصادية لهؤلاء لا تقتصر فقط على عملهم وما ينتجون، بل تشمل كذلك دورهم في تنشيط الدورة الاقتصادية العالمية، من خلال إنفاقهم على السلع والخدمات، وهو المحرك الرئيسي للنمو، وبالتالي فإن إخراجهم من النشاط الاقتصادي يعني فقدان كل تلك المنافع.
ولذلك، فإن الفترة المقبلة تستلزم من الحكومات ضرورة الاستعداد لهذا العبء الثقيل، وتعتبر دول المنطقة العربية من أكثر المطالّبين بذلك، باعتبارها من أكثر المتأثرين في هذا الشأن، وفق بيان منظمة العمل الدولية، هذا بجانب أن هذه المنطقة تعج بالأيدي العاملة، وتعتبر دخول العاملين أو حتى تحويلات العاملين منهم خارج أوطانهم ذات أهمية كبيرة لاقتصادات دولهم.