كشفت الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" إلى فرنسا تلبيةً لدعوة من الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون"، في أغسطس الجاري، عن حجم التوتر في العلاقات بين البلدين، كما كشفت عن حدود رغبة الرئيسين أيضًا في تطوير تعاونهما المشترك، والسعي لإيجاد حلول للملفات المحورية، خصوصًا الملفين الأوكراني والسوري.
دلالات متعددة:
على الرغم من أن زيارة "بوتين" لفرنسا لم تستغرق سوى يوم واحد، إلا أنها حملت العديد من الدلالات الهامة في إطار العلاقات بين البلدين من ناحية، والعلاقات الأوروبية الروسية من ناحية أخرى، كما أنها أرسلت رسائل سياسية لعدة أطراف دولية ينبغي فهمها في سياقها الدولي المحيط، وفي إطار تنامي الدور الفرنسي عالميًّا. ولعلَّ أبرز هذه الدلالات:
1- التقارب الحذر: إذ تبدي فرنسا "ماكرون" موقفًا وسطيًّا في علاقاتها مع روسيا؛ ففي الوقت الذي تتخذ فيه تجاهها موقفًا حازمًا وتساهم في فرض العقوبات الدولية عليها؛ فإنها تشجع موسكو في الوقت ذاته على إبداء مواقفها بشأن القضايا الدولية المختلفة.
ومن ثم فإن هذا اللقاء، الذي يعد امتدادًا طبيعيًّا للاتصالات المتزايدة بين الرئيسين مؤخرًا، من شأنه أن يدعم هذا التوجه الفرنسي خاصة في ظل التوقيت الذي حدث فيه، أي قبل استضافة فرنسا لقمة الدول السبع الكبرى، والذي لم يُحدد مصادفةً، وهو ما يعبِّر عن أمرين؛ أولهما أنه يُظهر موسكو أنها ليست منبوذة على الرغم من طردها من مجموعة السبع بعد ضمها لشبه جزيرة القرم من أوكرانيا في عام 2014، وثانيهما أن فرنسا أصبحت بمثابة الوسيط الذي يسعى لتقريب وجهات النظر بين روسيا وبين الدول السبع الكبرى الأخرى، وأن ذلك اللقاء بمثابة تلميح لمحاولة "ماكرون" إعادة روسيا إلى هذا النادي مرة أخرى.
2- القيادة الفرنسية: حيث يسعى "ماكرون" منذ توليه السلطة في 2017 إلى التصدي للمشكلات الأوروبية والدولية بسياسة دبلوماسية قائمة على الحوار وحل المشكلات بالطرق السلمية، مستغلًّا تراجع الدور الألماني وضعف الفعالية الأوروبية ليملأ فراغ منصب القائد الأوروبي الذي يساعد في حل الأزمات الخطيرة التي تواجه أوروبا والعالم مثل الأزمة الأوكرانية والسورية. لذا يمثل هذه اللقاء خطوة أخرى في هذا المسار، خاصة إذا استطاع "ماكرون" التوصل لحلول جذرية لهذه الأزمات، خاصة أن روسيا تعد أحد الفاعلين الأساسيين والأكثر قوة على الساحة الدولية حاليًّا.
3- عودة أوراسيا: يسعى الرئيس الفرنسي إلى تبديد المخاوف والتهديدات الروسية للقارة الأوروبية من خلال تعزيز التعاون مع "بوتين" وتقريب وجهات النظر، وقد ظهرت محاولات "ماكرون" للتأكيد على هذا الترابط في تصريحاته في المؤتمر الصحفي الذي أعقب محادثاته مع الرئيس "بوتين"، حيث أكد أن "روسيا دولة أوروبية"، كما أضاف أنه دومًا ما يعتقد أن "أوروبا تمتد من لشبونة إلى فلاديفوستوك – إحدى أبعد المدن الروسية عن أوروبا". كذلك كتب "ماكرون" على صفحته على فيسبوك باللغة الروسية بعد يوم من لقائه "بوتين" قائلًا: "روسيا بلد أوروبي عميق للغاية".
وتأتي مساعي "ماكرون" لإعادة ربط روسيا بأوروبا من واقع أمرين؛ يرتبط الأمر الأول بتوتر العلاقات الأوروبية الأمريكية في عهد الرئيس "ترامب"، والذي يتعامل مع حلفائه بأسلوب أكثر حدة من الأسلوب الذي يتعامل به مع خصومه؛ حيث يبدي إعجابًا بروسيا "بوتين" في حين يوبِّخ قادة أوروبا ويطالبهم بتولي مسئولية حماية أنفسهم من أية تهديدات، أو الدفع مقابل توفير الحماية الأمنية.
كذلك من المتوقع أنه في حال إعادة انتخابه لولاية ثانية، سيعمل "ترامب" على توطيد العلاقات الروسية-الأمريكية ولن يضع المصالح الأوروبية بعين الاعتبار، ومن ثمّ فإن "ماكرون" من خلال تواصله المنتظم مع روسيا، بما فيه لقاؤه الأخير مع "بوتين"، يستبق التصرف الأمريكي ويتقارب مع روسيا بهدف تقليل الأضرار والتداعيات السلبية التي قد تلحق بفرنسا وأوروبا في حال تعزيز التقارب الروسي-الأمريكي مستقبلًا.
أما الأمر الثاني فيتعلق بالتخوف الأوروبي من التقارب الروسي-الصيني، سواء على المستوى الاقتصادي أو الأمني؛ وهو ما يهدد الاقتصاد الأوروبي بشكل عام، خاصة في ضوء الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، كما أنه يزيد القلق من أي تهديدات أمنية لدول أوروبا، على غرار ما حدث مع أوكرانيا، خاصة في ظل عدم رغبة "ترامب" في الدفاع عن أوروبا، ودعمه تفكيك الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
ملفات عالقة:
لا يمكن القول إن لقاء "بوتين" و"ماكرون" نجح في تغيير مواقف الطرفين تجاه أبرز الملفات العالقة، ولا سيما الملفين السوري والأوكراني، لكنه بالأحرى ساهم في حلحلة هذه المواقف في إطار سياسة كل طرف ومصالحه السياسية والاستراتيجية في الأزمتين.
ففيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، حث "ماكرون" "بوتين" على الاستفادة من وصول الرئيس الأوكراني الجديد "فولوديمير زيلينسكي" إلى السلطة، وتقديمه مبادرات للسلام ووقف القتال في شرق أوكرانيا، وإعلان رغبته في إجراء محادثات مباشرة مع "بوتين". إذ ليس من شك أن "ماكرون" بحث خلال هذا اللقاء كل السبل للضغط على "بوتين" لإنعاش اتفاق مينسك لوقف إطلاق النار الذي ساعدت باريس وبرلين في الوصول إليه.
وبرغم أن "بوتين" لم يبدِ موافقته بأي حال على إعادة إحياء اتفاق مينسك، وتأكيده أن محادثاته مع "زيلينسكي" قد منحته "أسبابًا حذرة للتفاؤل"، لكنه شدد على أنه يعتقد أن أي اجتماع يهدف إلى حل الأزمة الأوكرانية يجب أن يسفر عن نتائج ملموسة، وأنه "لا بديل عن محادثات "نورماندي" لرؤساء الدول، والتي تضم فرنسا وألمانيا وأوكرانيا وروسيا، حول الأزمة الأوكرانية". وقد كان "زيلينسكي" دعا إلى عقد جولة جديدة من المحادثات في إطار نورماندي، وهو ما يعني إمكانية حلحلة الموقف الروسي بما يمهد للتوصل لاتفاق لإنهاء هذا الصراع.
وفيما يتعلق بالأزمة السورية، والتي تعد الأكثر تعقيدًا في العلاقات الروسية-الفرنسية، يبدو أن التوتر خيَّم على المحادثات بشأنها، خاصة في ظل قوة الموقف الروسي على الأرض؛ إذ أكد "ماكرون" ضرورة وقف الهجوم في منطقة إدلب الشمالية ومعالجة الأزمة الإنسانية هناك، والسيطرة على تدفقات اللاجئين نحو تركيا، فيما أشار "بوتين" إلى أن إدلب يسكنها الإرهابيون، مؤكدًا استمرار روسيا في تقديم الدعم للجيش السوري للقضاء على الإرهاب هناك. وبالرغم من ذلك الاختلاف، اتفق الرئيسان على ضرورة مكافحة منابع الإرهاب في سوريا، وعلى أهمية الدور الذي تلعبه روسيا في الأزمة السورية، والسعي نحو إيجاد صيغة تفاهمية لإنهاء الصراع في سوريا.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن "بوتين" برغم ثبات موقفه في الأزمتين الأوكرانية والسورية، إلا أنه أبدى مرونة في طبيعة التعاطي معهما طالما تتم مراعاة المصالح الروسية. وتنبع تلك الحلحلة من أمرين؛ يتعلق الأول برغبة الرئيس الروسي "بوتين" في الظهور أمام أوروبا بمظهر المستعد للتعاون بما قد يخفف من العقوبات الأوروبية المفروضة على روسيا والتي أضرت كثيرًا بالاقتصاد الروسي، ويدفع نحو تعزيز العلاقات الروسية الأوروبية.
ويرتبط الأمر الثاني برغبة "بوتين" في توصيل رسالة سياسية مفادها أن سياسته العدوانية لم تضر بأي حال من الأحوال بمكانة روسيا الدولية، وسيشير إلى لقائه مع "ماكرون" كدليل على هذا الادعاء، بما يُسكِت الأصوات المنتقدة لسياساته الخارجية، سواء من الرأي العام الداخلي في روسيا أو الرأي العام العالمي.
تفاهمات مشتركة:
أبرز اللقاء بين "بوتين" و"ماكرون" أن العلاقات الروسية-الفرنسية جيدة برغم التوتر في بعض الملفات، وأن هناك مساحة هامة للتفاهمات السياسية والاقتصادية بين البلدين يبدو أنها تتسع بمرور الوقت وبانتظام التواصل بين الرئيسين والتنسيق فيما بينهما.
وقد كان الملف النووي الإيراني محل اتفاق وتفاهم بين "ماكرون" و"بوتين"، فماكرون يلعب دور الوسيط في هذا الملف، كما أنه يأمل في أن تلعب موسكو دورًا بارزًا فيه لوضع حد للتصعيد في المنطقة في ظل الضغوط الأمريكية المستمرة. وبالرغم من انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، إلا أن باريس وموسكو يسعيان للحفاظ عليه، لذا يريد "ماكرون" من "بوتين" أن يستخدم نفوذه لدفع إيران لوضع حد لتخليها عن بنود الاتفاق وتجميد الإجراءات التي اتخذتها، مثل: رفع نسبة تخصيب اليورانيوم، أو تجاوز سقف المخزون المتاح لها، والتي تمثل بدورها انتهاكات لبنود الاتفاق.
كذلك يأمل "ماكرون" في وضع حد للتصعيد بين واشنطن التي تستمر في سياسة "الضغوط القصوى" وطهران التي تبدي مقاومة شرسة، وذلك من أجل توفير الظروف التي تمهِّد لجمع الطرفين حول طاولة المفاوضات مرة أخرى.
وعلى الرغم من الظروف الصعبة المحيطة بالملف النووي الإيراني على حد تعبير "ماكرون"؛ إلا أن كلًّا من روسيا وفرنسا تهدفان لتجنب أي شكل من أشكال التصعيد للتوترات في منطقة الشرق الأوسط أو انهيار الاتفاق النووي الذي يعتبرونه "مكسبًا نوويًّا"، كما يحافظ على المصالح الاستراتيجية، سواء لفرنسا أو لروسيا في المنطقة، ويُطمئِن حلفاء البلدين في المنطقة الأكثر سخونة في العالم حاليًّا.
من ناحية أخرى، برغم استمرار الاتحاد الأوروبي في فرض عقوبات على الاقتصاد الروسي، إلا أن اللقاء الأخير بين "بوتين" و"ماكرون" قد يكون مؤشرًا على احتمال تغير هذا الموقف الأوروبي لاحقًا، خاصة إذا ما تم الوصول إلى تفاهم بشأن الأزمة الأوكرانية وتفعيل الهدنة في إقليم الدونباس وتحسن الوضع في شبه جزيرة القرم، وبالتزامن مع استمرار الحرب التجارية الأمريكية والتي ستكون لها تداعيات سلبية كبيرة على الاقتصادات الأوروبية.
في الوقت ذاته، ترتفع مطالب من أعضاء بالبرلمان الفرنسي بضرورة رفع العقوبات عن روسيا لا لكونها أضرَّت بالشعب الروسي فحسب، بل أيضًا لكونها ألحقت أضرارًا بالغة باقتصادات أوروبا وفرنسا، خاصة في قطاع الزراعة، إذ تتضمن العقوبات حظر تصدير الألبان واللحوم، وفي عام 2015 أُضيفت حصة الاتحاد الأوروبي من الألبان إلى العقوبات، مما وضع منتجي الألبان الفرنسيين في مأزق.
ختامًا، يمكن القول إن زيارة "بوتين" الأخيرة لفرنسا كانت بمثابة خطوة من المتوقع أن تُستكمل بخطوات لاحقة، خاصة في ظل التفاؤل بأن تشهد الملفات العالقة بعض التطورات الإيجابية في المستقبل القريب، والتي -إن حدثت- ستمثل نجاحًا للرئيس "ماكرون"، وترسِّخ مكانة فرنسا الدولية كقائدة لأوروبا.