تتعدد العوامل التي قد تؤدي إلى تعثر أو انهيار اتفاقات تقاسم السلطة power Sharing في بعض دول المنطقة، خاصة تلك التي تعاني نزاعات داخلية حادة وأزمات اقتصادية خانقة، خلال السنوات الأخيرة، والتي تتمثل في تزايد فجوة عدم الثقة بين الأطراف السياسية، وبقاء عدد من القضايا العالقة دون حسم خلال المراحل الانتقالية، وعدم مشاركة بعض المجموعات المعارضة في الاتفاقات، وثقل تركة النظم السياسية السابقة، وغياب الخبرات التاريخية العربية النموذجية، على نحو يجعلها، في بعض الأحيان، "تسويات هشة" يسهل اختراقها من جانب أحد أو مختلف أطرافها.
ترتيبات الحكم:
لم تكن مشكلة تعثر اتفاقات تقاسم السلطة في المنطقة ظاهرة جديدة بل هى قائمة منذ عقود، لا سيما في ظل مشكلات هيكلية تعاني منها النظم الحاكمة على نحو ما خبرته لبنان بعد اتفاق الطائف أو العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، وإن كان تقاسم السلطة توقف على أساس الطائفة، وهو ما عرَّض تلك التجربتين لانتقادات جمة. غير أن التحولات التي شهدتها دول المنطقة في موجتيها 2011 و2019 أعادت طرح آلية تقاسم السلطة كمدخل لترتيبات الحكم على أسس جديدة بحيث تأخذ في اعتبارها الأوضاع المختلفة.
وقد أثيرت مؤخرًا مسألة تعقيدات اتفاقات ترتيبات الحكم وتقاسم السلطة في المنطقة بعد توصل المجلس العسكري الانتقالي في السودان إلى اتفاق سياسي لتقاسم السلطة مع تحالف قوى "إعلان الحرية والتغيير"، في 17 يوليو الجاري، بحضور وسطاء من الاتحاد الإفريقي وإثيوبيا بعد محادثات طويلة بين الطرفين، والتي أعقبت وتزامنت مع تواصل الاحتجاجات في عدة مدن للمطالبة بتسليم السلطة لحكومة مدنية بعد تنحية الرئيس السابق عمر البشير. وقد وصف نائب رئيس المجلس العسكري محمد حمدان "حميدتي" الاتفاق بأنه "لحظة حاسمة وتاريخية لكل الشعب السوداني".
وتجدر الإشارة إلى أن الاتفاق يستغرق ثلاثة أعوام وثلاثة أشهر، وينص على تكوين مجلس سيادي يتشكل من 5 مدنيين و5 عسكريين وشخصية مدنية يتم التوافق عليها بين الطرفين، ويرأس أحد أعضاء المجلس العسكري المجلس السيادي خلال 21 شهرًا من الفترة الانتقالية، ثم تنتقل الرئاسة إلى أحد أعضاء المجلس من المدنيين خلال الـ18 شهرًا الباقية. ويتضمن الاتفاق 21 بندًا موزعين على 6 فصول هي: المبادئ المرشدة، والترتيبات الانتقالية، والمجلس التشريعي، ولجنة التحقيق، ومهام المرحلة الانتقالية، والمساندة الإقليمية والدولية.
وبوجه عام، تشير الأدبيات في حقل النظم المقارنة فضلاً عما تعكسه الممارسات في بعض الدول العربية إلى أن هناك مجموعة من العوامل التي تسهم في عرقلة اتفاقات تقاسم السلطة، يمكن تناولها على النحو التالي:
فقدان الثقة:
1- تزايد فجوة عدم الثقة بين الأطراف السياسية: وهو ما يمكن أن يطلق عليه "الأساس القاعدي" لمعضلة عدم التوافق السياسي، لا سيما أن الخبرات التاريخية في المنطقة العربية تشير إلى أزمة الثقة Trust Gap بين الأنظمة الحاكمة وقوى المعارضة، بحيث تتبلور التباينات بين الطرفين شيئًا فشيئًا، إلى أن تصل إلى حد التناقض، مما يؤدي إلى ظهور الأزمات وتصاعد التوترات وتجدد الاحتقانات. ويظل هذا الهاجس قائمًا حتى تظهر الإجراءات العملية لإبداء حسن النوايا بين الأطراف الحاكمة وبعضها، وفقًا للنهج المرحلي، على نحو يؤدي إلى الانتقال من انهيار الثقة إلى ضعف الثقة إلى استعادة الثقة إلى بناء الثقة إلى تمتين الثقة بينها.
ووفقًا لما يطرحه عالم السياسة فرنسيس فوكوياما، تعد الثقة شرطًا رئيسيًا لإيجاد مجتمع اقتصادي سياسي متماسك، ومن خلال الثقة يمكن تقليص ما يطلق عليه الاقتصاديون "تكاليف المعاملات"، أى تكاليف التفاوض والإرغام والإكراه والتي تمثل مصدرًا للنزاع وعدم الاستقرار. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى بيان الأمم المتحدة في 7 أغسطس 2018 الذي قال أن "الأمين العام أنطونيو غوتيريش يحض جميع الأطراف على العمل بحسن نية وإظهار التزامهم تجاه التطبيق الكامل للاتفاق في أقرب وقت ممكن". لذا، فإن أبرز تحدي يواجه الأطراف الموقعة على اتفاق تقاسم السلطة في السودان هو توافر الثقة بينهم لتنفيذ الاتفاق. وسيتكرر هذا الوضع في حالة سوريا إن توافرت رغبة لدى أطراف الصراع للتوصل إلى صيغة توافقية بعد مرور أكثر من ثماني سنوات على الصراع.
نقاط غامضة:
2- بقاء عدد من القضايا العالقة دون حسم: يظل بقاء بنود عدة في اتفاقات تقاسم السلطة غامضًا، ربما عن قصد، وعرضة للتأويل، أحد الإشكاليات المحورية. ومن أبرز تلك القضايا ما يتعلق بمنح رئيس وأعضاء المجلس العسكري الانتقالي في السودان حصانات مطلقة.
وفي هذا السياق، قال إسماعيل التاج المتحدث باسم تجمع المهنيين السودانيين (أبرز مكونات تحالف الحرية والتغيير) في 16 يوليو الجاري: "نرفض الحصانة المطلقة التي طرحها المجلس العسكري"، موضحًا: "رأينا في تجمع المهنيين أن هذا النص سيهدم الوثيقة الدستورية (اتفاق تقاسم السلطة) وما جاء فيها من حقوق لأن المادة الرابعة تؤكد على خضوع الجميع لحكم القانون". هذا فضلاً عن وضع بعض الجماعات المسلحة التي لم تشارك في الحكم، في ظل دعوات دولية تنادي بإيجاد طريقة تمكن تلك الجماعات من المشاركة في نقاش أوسع حول كيفية إدارة وحكم السودان خلال المرحلة الانتقالية وما بعدها.
ولعل عدم نجاح طرفى الصراع في جنوب السودان في حل عدد من المسائل الحساسة هو الذي أدى إلى إرجاء تشكيل حكومة الوحدة، والتي كان يفترض أن تتكون في 12 مايو الماضي. ومن أبرز هذه القضايا العالقة تشكيل جيش موحد والاتفاق على كيفية إدارة الأمن في العاصمة. ولعل ما يثبت صحة هذا التحليل أن حدة المعارك في جنوب السودان تراجعت بشكل كبير منذ توقيع اتفاق السلام الأخير لكنها لم تتوقف.
انقسامات فصائلية:
3- عدم مشاركة بعض المجموعات المعارضة في الاتفاقات: فأحد العوامل التي قد تؤدي إلى تعثر تنفيذ اتفاق تقاسم السلطة بجنوب السودان الموقع بين حكومة الرئيس سيلفا كير وزعيم المتمردين رياك مشار (نائب الرئيس)، في 25 يوليو 2018، يتمثل في امتناع مجموعات معارضة أصغر عن التوقيع على الاتفاق بدعوى أن الأخير "لا يعالج جوهر المشكلة"، لا سيما في ظل فشل اتفاق مماثل بشأن تقاسم السلطة وقع في عام 2015. وعلى مدى السنوات (2015-2018) تزايدت عمليات القتل على أساس عرقي بخلاف جرائم الاغتصاب، بما يعطي مؤشرًا على تعثر جهود إحلال السلام في البلاد. ووفقًا لتقديرات صادرة عن الأمم المتحدة، أسفرت الحرب الأهلية في جنوب السودان عن سقوط 10 آلاف قتيل، فضلاً عن نزوح 1,7 مليون شخص.
وينطبق ذلك أيضًا على بعض الفصائل المتمردة في السودان التي وجهت انتقادات بشأن اتفاق تقاسم السلطة بين المجلس العسكري الانتقالي والحركات السياسية المعارضة، حيث وصف فصيل من حركة تحرير السودان، بقيادة عبدالواحد نور، في 6 يوليو الجاري، الاتفاق بأنه "خيانة للثورة"، في حين قال فصيل آخر من الحركة، بقيادة اركو مناوي، أنه "يجب التوصل إلى اتفاق سلام مع الجماعات المتمردة قبل الشروع في عملية الانتقال المخطط لها". وهنا تجدر الإشارة إلى انقسام حركة تحرير السودان، التي كانت تقاتل القوات المتمردة في إقليم دارفور بغرب السودان، إلى فصيلين متنافسين منذ عام 2014، بحيث انضم مناوي إلى ائتلاف سياسي مع المحتجين، بينما رفض نور المشاركة في الائتلاف.
إرث ضاغط:
4- ثقل تركة النظم السياسية السابقة: تواجه بعض دول المنطقة مشكلات مزمنة، مما يعرقل ترتيبات الحكم بشكل لا يمكن تصوره. ويعد من أبرز تلك المشكلات المصاعب الاقتصادية. وفي هذا السياق، أكد المستشار الخاص للأمين العام للأمم المتحدة وموفده إلى السودان نيكولاس هايسوم في تصريحات لصحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية، في 16 يوليو الجاري، على أن "لدى العسكريين القدرة على نقل البلاد إلى مكان أفضل" أو "إلى أزمة كارثية إذا حاولوا التشبث بالسلطة"، ورأى أن "أمام السودانيين الآن فرصة رائعة ليس فقط للتعامل مع الأزمة السياسية الراهنة، بل أيضًا مع المشاكل وخطوط التصدع التي أثرت على هذا البلد العربي الإفريقي لأكثر من خمسين عامًا".
نماذج غائبة:
5- غياب الخبرات التاريخية العربية النموذجية: لا توجد حالات مستقرة يمكن القياس عليها من جانب الأطراف التي تتقاسم السلطة في بعض الدول، وفي أعقاب التحولات التي شهدتها دول المنطقة بعد عام 2011، تجدد الاهتمام بنظام تقاسم السلطة ولكن الخبرات العربية غير مشجعة، وأبرزها تجربتى لبنان والعراق، فيما يطلق عليه "الديمقراطية التوافقية". ولا توجد مؤشرات توحي بأن النموذج اللبناني للطائفية أو التوافقية السياسية يمكن أن يمثل إطارًا لتسوية النزاعات في الدول العربية المأزومة، لا سيما أن نظام الطائفية السياسية في لبنان يعاني ذاته من أزمة وهو ما يفسر معارضة قطاع من السوريين لفكرة التوصل إلى "طائف سوري".
فضلاً عن أن تقاسم السلطة بين المجموعات المتنافسة في العراق لم يفرض نظامًا مستقرًا بل قاد إلى إشكالية في العلاقة بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان العراق، وبرزت أيضًا إشكالية تقرير المصير والانفصال في الثلث الأخير من عام 2017، على نحو يشير إلى بعض أشكال التسوية التي لا تصمد لفترة طويلة. كما أن الثقافة التوافقية مفقودة في غالبية الدول العربية، وهو ما يجعل عملية السلام التي تشهد مساومات سياسية حول الوصول إلى السلطة "مؤقتة"، والتي عادة ما تسفر عن مزيد من الاتفاقات.
مشكلة مزمنة:
خلاصة القول، إن معضلة التوافق وإعادة التوازن السياسي من خلال توفير "خريطة جديدة للسلطة" تعاني منها عدة نظم سياسية في المنطقة العربية، لمعالجة الصراعات العنيفة وأبرزها السودان وجنوب السودان وجزر القمر ولبنان والعراق، على نحو يجعل مخرجات الاتفاق السياسي بين أطراف الحكم غير مستقرة وقابلة للاختراق في أية لحظة. لذا، أكد نيكولاس هايسوم في التصريحات السابق ذكرها على أن "الفترة الانتقالية في السودان ستكون هشة وتحتاج حماية الجيش".