لم تقابل إيران الانتقادات الدولية التي وُجِّهت لها بسبب انتهاكاتها للاتفاق النووي وأدوارها السلبية في المنطقة من خلال شن حملة مضادة ضد الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية فحسب، بل إنها تعمدت الإعلان عن إنتاج صاروخ باليستي جديد يصل مداه إلى ألف كيلو متر، وهو صاروخ "دازفول" (أرض-أرض)، الذي تدعي أن قدرته التدميرية مضاعفة، رغم أن معظم ما كشفت عنه إيران من صواريخ باليستية لم يتعرض لاختبارات حقيقية تثبت صحة مثل تلك الادعاءات.
ورغم أن تلك الخطوة، التي كشف عنها في 7 فبراير 2019، ليست جديدة، حيث سبق أن تعاملت إيران مع هذا النمط من الانتقادات بالسياسة المتشددة نفسها، إلا أن ما يُكسبها مزيدًا من الأهمية هو التوقيت الذي تم فيه الإعلان عنها، على نحو يشير إلى أنها لا تنفصل عن الضغوط الدولية التي يتوقع أن تتصاعد حدتها في الفترة القادمة، والخلافات المتزايدة مع الدول التي ما زالت تُعوِّل على استمرار العمل بالاتفاق النووي، وتحديدًا الدول الأوروبية.
دوافع مختلفة:
ربما يمكن تفسير إقدام إيران على الإعلان عن تلك الخطوة في هذا التوقيت تحديدًا في ضوء اعتبارات عديدة، يتمثل أبرزها في:
1- استباق قمة وارسو: ترى إيران أن خلافاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية سوف تكون أحد العناوين الرئيسية للقمة الدولية التي سوف تنعقد في بولندا يومى 13 و14 فبراير الجاري، على نحو رجحت معه اتجاهات عديدة داخل طهران أن يؤدي ذلك إلى تصعيد حدة الضغوط التي تتعرض لها، بشكل يتوازى مع العقوبات الأمريكية المفروضة عليها، والتي يتوقع أن تنتج تداعيات قوية على اقتصادها مع منتصف العام الجاري، لا سيما في حالة ما إذا لم تجدد الإدارة الأمريكية المهلة التي منحتها للدول الثماني المستوردة للنفط الإيراني من أجل الاستمرار في شراءه.
وقد بذلت إيران جهودًا حثيثة استباقًا للمعطيات التي يمكن أن تفرضها تلك القمة، حيث حاولت ممارسة ضغوط قوية على الدول الأوروبية من أجل العزوف عن المشاركة فيها، باعتبار أن ذلك يمكن أن يخصم من ثقلها وما يمكن أن تخرج به من نتائج ورسائل موجهة إليها في الأساس.
لكن هذه الجهود لم تدفعها إلى تبني سياسة أكثر مرونة قد تساعدها في تحقيق هذا الهدف، بل إنها ما زالت مصرة على الاستمرار في اتخاذ الخطوات الاستفزازية نفسها التي تعزز التقارب في السياسات الأمريكية والأوروبية تجاهها، وهو ما بدا جليًا في إعلانها عن الصاروخ الجديد، الذي توازى مع تعمدها السماح بتغطية إعلامية واسعة للزيارة التي قام بها قائد الحرس الثوري محمد علي جعفري وقائد القوة الجوفضائية امير علي حاجي زاده إلى المصنع الذي أنشأته تحت الأرض لإنتاج الصواريخ الباليستية، وهى خطوة تسعى من خلالها إلى توجيه رسالة مفادها أنها لن تتراجع عن سياستها في مواجهة تلك الضغوط التي تتوقع أن تتزايد ضدها في الفترة القادمة.
واللافت في هذا السياق، هو أن الكشف عن بعض القواعد والمصانع الخاصة بالصواريخ الباليستية ليس جديدًا، حيث تستند إيران إلى هذه الآلية تحديدًا في حالة ما إذا كانت تواجه ضغوطًا إقليمية أو دولية قوية، بسبب خلافاتها مع القوى المعنية بأزمات منطقة الشرق الأوسط.
وكانت إيران قد كشفت عن إحدى قواعدها الصاروخية التي أسستها تحت الأرض في 5 يناير 2016، عندما تصاعدت حدة التوتر في العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية التي هددت في ذلك التوقيت بفرض عقوبات خاصة ببرنامجها للصواريخ الباليستية، حيث قام رئيس مجلس الشورى علي لاريجاني بجولة داخل تلك القاعدة التي كانت تضم صواريخ يصل مداها إلى 1700 كيلو متر.
2- الرد على الدول الأوروبية: رغم أن الدول الأوروبية ما زالت حريصة على استمرار العمل بالاتفاق النووي، على نحو بدا جليًا في قرارها بإنشاء آلية الأغراض الخاصة لمواصلة التعاملات التجارية مع إيران في ظل العقوبات الأمريكية، إلا أنها ما زالت مصرة في الوقت ذاته على تأكيد رفضها استمرار إيران في تبني السياسة المتشددة نفسها، خاصة فيما يتعلق ببرنامجها للصواريخ الباليستية.
وانعكس ذلك في الدعوة التي وجهتها فرنسا إلى إيران، في 11 يناير 2019، والتي طالبتها فيها بالتوقف عن كل الأنشطة المرتبطة بالصواريخ الباليستية القادرة على حمل أسلحة نووية، وذلك على خلفية إعلان إيران عن اعتزامها إطلاق قمرين صناعيين يعتمدان على برنامج الصواريخ الباليستية في الأساس، وهو ما لم تتمكن من تحقيقه بعد أن فشلت التجربتان اللتان تم إجراءهما في هذا الصدد.
إذ قالت انييس فون دير المتحدثة باسم وزارة الخارجية الفرنسية أن "فرنسا تُذكِّر بأن البرنامج الصاروخي لا يتفق مع قرار مجلس الأمن رقم 2231"، مطالبة إيران بالتوقف عن كل الأنشطة الخاصة بهذا البرنامج.
ومن دون شك، فإن هذه الانتقادات الفرنسية تعيد إلقاء الضوء مرة أخرى على الجدل الذي تثيره إيران باستمرار حول موقف الاتفاق النووي من برنامجها للصواريخ الباليستية، لا سيما أنها ما زالت مصرة على أن التجارب التي تجريها على تلك الصواريخ لا تمثل انتهاكًا له، باعتبار أن صواريخها ليست "مصممة" لحمل أسلحة نووية، وهو المبرر الذي ترفضه كل من الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، وربما يكون سببًا، في المرحلة القادمة، يدفع الدول الأخيرة إلى إجراء تغيير في سياستها باتجاه تدعيم الخطوات التي تتخذها واشنطن تجاه طهران.
وبالطبع، فإن ما يعزز هذا الاحتمال هو التوتر الذي طرأ على العلاقات بين الأخيرة والدول الأوروبية بعد اتهامها بالتورط في محاولات تنفيذ عمليات إرهابية ضد بعض قادة وكوادر المعارضة الإيرانية الموجودة على الأراضي الأوروبية بل وفرضها عقوبات ضد إيران لهذا السبب.
3- رسائل داخلية: كان لافتًا أن النظام الإيراني حرص على الإعلان عن تلك الخطوة بالتزامن مع الاحتفالات التي ينظمها بمناسبة الذكرى الأربعين للثورة الإيرانية عام 1979، حيث يسعى إلى توجيه رسائل إلى الداخل بأنه ما زال يحافظ على الثوابت التي اعتمد عليها من البداية، وخاصة ما يتعلق بترويجه لرفض الاستجابة لضغوط القوى الخارجية، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية.
ويسعى النظام عبر ذلك إلى توسيع نطاق القاعدة التي يعتمد عليها في الداخل، خاصة في مواجهة الاحتجاجات المستمرة بسبب تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية على ضوء إمعانه في مواصلة "مغامراته" الخارجية على حساب احتواء تداعيات تلك الأزمات.
لكن هذه المساعي لا يبدو أنها سوف تحقق نتائج تذكر في هذا الصدد، خاصة أن استمرار الاحتجاجات رغم كل الإجراءات التي يتخذها النظام للتعامل معها يوحي بأن ثمة إدراكًا داخل إيران بأن الأزمات الحقيقية التي تواجهها إيران تعود إلى سياسات النظام، خاصة ما يتعلق باستنزافه مواردها في دعم دوره في الخارج وتطوير برنامج الصواريخ الباليستية وانتهاك الاتفاق النووي.
فضلاً عن أن محاولات النظام تجديد مواقفه التي يعتبرها "عدائية" ضد الولايات المتحدة الأمريكية، على غرار ما ذكره المرشد الأعلى علي خامنئي، في 8 فبراير الجاري، الذي قال أن "شعار الموت لأمريكا سوف يبقى طالما استمرت في سياستها الحالية"، لن تنفي في الوقت نفسه أن النظام نفسه كان حريصًا، خلال العقود الأربعة الماضية، على الوصول لتفاهمات وصفقات مع واشنطن حول ملفات عديدة، كان آخرها الاتفاق النووي نفسه الذي انسحبت منه الأخيرة في 8 مايو 2018.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن إمعان إيران في انتهاج هذه السياسة سوف يدفع القوى الدولية إلى تصعيد حدة ضغوطها عليها، وربما فرض مزيد من العقوبات، التي يمكن أن تعزز من احتمال عدم استمرار العمل بالاتفاق النووي، على نحو قد يعيد أزمة البرنامج النووي الإيراني إلى مربعها الأول من جديد.