شهد العراق خلال الأيام الأخيرة تنافسًا واضحًا بين واشنطن وطهران للتأثير على السيناريوهات المطروحة بالنسبة لعملية تشكيل الحكومة العراقية، وذلك بالتزامن مع تكثيف قادة الكتل السياسية التي فازت في الانتخابات من جهودها لصياغة كتلة أغلبية.
عوامل محفزة:
استنادًا إلى أهم مؤشرات نتائج الانتخابات التشريعية العراقية، يمكن رصد عددٍ من العوامل التي تُذْكي الصراع الأمريكي الإيراني الحالي في عملية تشكيل الحكومة العراقية المقبلة، وذلك على النحو التالي:
1- أن 27 تحالفًا أو كتلة انتخابية قد شاركت في العملية الانتخابية وشملت 205 كيانات انتخابية، ولم يتمكن أيٌّ منها من الحصول على أغلبية تسمح له بتشكيل الحكومة. وينص القانون العراقي على أن الكتل المتحالفة بعد نتائج الانتخابات والتي تحوز على 50% + 1 من مقاعد البرلمان يكون لها الحق في تشكيل الحكومة.
2- استمرار حضور وتفوق نفس القوى السياسية التي تصدرت المشهد السياسي منذ الاحتلال الأمريكي، وكذلك الشخصيات القيادية التي تولت المناصب الرئيسية في الدولة العراقية، مع تغيير في الإطار السياسي الذي يعبر عنها، حيث فازت القوى القديمة بحوالي 85% من مقاعد البرلمان، ولم يتجاوز التغيير 15% من هذه المقاعد.
3- انقسام القوى الشيعية في تحالفات أربعة رئيسية، وانفراط تحالفاتها حتى الآن، مع استمرار تشتت الكتلة السنية، وعدم وجود كتلة كبيرة تعبر عنها، واستعادة الحزبين الكرديين لنفوذهما على حساب القوى المعارضة لهما في الإقليم.
4- عدم تبلور قائمة واحدة في الكتل الفائزة تعبر عن مكون سياسي معين، ولكنها تضم خليطًا من القوى السياسية، وهو ما يعني وجود تغير في الخريطة السياسية.
5- رغم تصدر ائتلاف "سائرون" بزعامة "مقتدى الصدر" للنتائج، إلا أنه يحتاج إلى تحالف واسع لصياغة الأغلبية، ومن المهم الإشارة هنا إلى أن هذا الائتلاف يضم الحزب الشيوعي العراقي الذي حصل على 13 مقعدًا.
6- أن ائتلاف "النصر" بزعامة "حيدر العبادي" يضم داخله عناصر أكثر ارتباطًا بإيران، خاصة بعض قيادات حزب الدعوة (السيد البياتي، والسيد أراس حبيب المعروف بأنه رجل المخابرات الإيرانية في العراق).
مؤشرات كاشفة:
يمكن رصد عددٍ من المؤشرات التي تكشف عن الصراع الأمريكي الإيراني الحالي في عملية تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، وذلك على النحو التالي:
1- الزيارة التي قام بها قائد فيلق القدس السيد "قاسمي سليماني" لبغداد مؤخرًا، والتي التقى خلالها كلًّا من زعيم ائتلاف الفتح "هادي العامري" وزعيم ائتلاف دولة القانون "نوري المالكي"، فضلًا عن زيارته إقليم كردستان، وذلك في محاولة منه لتهيئة تحالف يكون قريبًا من طهران، ولا يخرج عن العباءة الإيرانية، ولا يتناقض مع المصالح الإيرانية في العراق، كما شملت الاتصالات الإيرانية كافة الكتل الفائزة في الانتخابات بما فيها ائتلاف "سائرون" والكتل السنية المختلفة والشيعية المنضوية في التحالفات الأخرى.
ويُشار في هذا الإطار إلى أن إيران دعمت عملية إنشاء ائتلاف "الفتح المبين" الذي يتزعمه القيادي في الحشد الشعبي "هادي العامري"، والذي يأتي في المرتبة الثانية بعد رئيس الوزراء الحالي "حيدر العبادي" في المنافسة على منصب رئيس الوزراء العراقي بعد التئام البرلمان المقبل. ويُشار في هذا الإطار إلى أن هذا الائتلاف يضم كل فصائل الحشد الشعبي التابعة لطهران، وأهمها "بدر" و"عصائب أهل الحق"، بالإضافة إلى المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وبعض الأحزاب والكيانات الشيعية الصغيرة.
2- وضح الحرص الأمريكي على التأثير في عملية صياغة كتلة الأغلبية من خلال مجهودات "بريت ماكغورك"، وهو المندوب الأمريكي العابر للإدارات الأمريكية على حسب قول مجلة "الفورين بوليسي"، حيث يقيم في العراق منذ عام 2003، وشارك في كافة ترتيبات الدور الأمريكي في العراق، كما تولى قيادة التحالف الدولي لمحاربة "داعش" عام 2015. ويُلاحَظ بخصوص دوره الحالي في العراق ما يلي:
أ- أنه هو الذي زكّى "نوري المالكي" لدى واشنطن لتولي رئاسة الحكومة السابقة.
ب- أنه نجح خلال الأيام الأخيرة في إنهاء مقاطعة الأحزاب الكردية للمشاركة في الحكومة الجديدة، والتي كانت تشترط إعادة الانتخابات في محافظة كركوك.
ج- أنه شارك مع مستشارين فنيين وعناصر من السفارة الأمريكية في بغداد في حوارات مع كافة الكتل السياسية الفائزة.
ويُشار في هذا السياق إلى أن الولايات المتحدة سبق وحذرت في منتصف مارس الماضي على لسان وزير دفاعها "جيمس ماتيس" من نية طهران التأثير على نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية، حيث أشار إلى أن بلاده تمتلك أدلة مثيرة للقلق على أن إيران تحاول التأثير باستخدام أموال طائلة على المرشحين والأصوات في تلك الانتخابات.
3- التنافس الأمريكي الإيراني الحالي على تحسين العلاقة مع السيد "مقتدى الصدر" بعد فوزه في الانتخابات، خاصة وأنه لطالما كان رافضًا للدور الذي تقوم به كلٌّ من طهران وواشنطن في العراق على مدى السنوات الماضية. ويرتبط بهذا الأمر ما يلي:
أ- الأنباء التي تم تداولها مؤخرًا حول وجود اتصالات بين ائتلاف "سائرون" وواشنطن عبر وسطاء.
ب- نفي السفير الإيراني لدى بغداد "إيرج مسجدي" وجود خلافات بين "الصدر" وإيران، وإعراب الخارجية الإيرانية عن تفاؤلها بنتائج الانتخابات العراقية وفوز "الصدر" بها، ونفيها أن تكون هناك نوايا من ائتلاف "سائرون" لإخراج إيران من العراق.
صراع المحاور:
من الواضح أنه بالنظر إلى ما سبق فإن عملية تشكيل حكومة أغلبية في العراق سوف تكون مجالًا لصراع المحاور والتنافس والعداء الأمريكي الإيراني المتصاعد، وهو ما يمكن أن يدفع إلى مزيدٍ من الاستقطاب. وبهذا الخصوص نشير إلى ما يلي:
- أنه رغم الجهود الأمريكية فإن إيران تمتلك أوراق ضغط ومساومة في مجمل العملية السياسية في العراق تفوق ما لدى الولايات المتحدة بهذا الخصوص.
- أن ما أعلنه وزير الخارجية الأمريكي "مايك بومبيو" بخصوص النفوذ الإيراني في العراق ضمن الشروط الأمريكية الـ12 بشأن التطبيع مع إيران، خاصة شرط التعامل باحترام مع الحكومة العراقية وعدم عرقلة حل التشكيلات الشيعية المسلحة ونزع سلاحها؛ يتجاهل حقيقة أن هذه القوى العسكرية قد اندمجت في الجيش العراقي وأصبحت كتلة سياسية تتشارك في البرلمان.
ويعد الحافز الرئيسي للتنافس الأمريكي الإيراني في عملية تشكيل الحكومة العراقية هو خضوع تلك العملية لتفاهمات وتوافقات طائفية ومذهبية، ولطالما كان هذا الأمر هو المدخل للأدوار الخارجية في الشأن الداخلي العراقي.
ومن المتوقع أن تكثف طهران من صراعها الضمني مع واشنطن في العراق خلال الفترة المقبلة، خاصة أنها دائمًا ما تحرص على توظيف الملف العراقي في ملفاتها العالقة مع الولايات المتحدة وعلى رأسها أزمة برنامجها النووي.
كما ستواصل واشنطن جهودها الهادفة إلى وصول شخصية شيعية معتدلة في رئاسة الحكومة العراقية لمنع تصاعد النفوذ الإيراني في العراق إلى مدى أبعد. ويبدو أنها مقتنعة برئيس الوزراء الحالي "حيدر العبادي"، وتعتبره بعض الأوساط الأمريكية "رجل واشنطن في بغداد".
ويتضح كذلك أن السيد "مقتدى الصدر" وإن كان غير مُرَحَّبٍ به من إيران بدرجة كبيرة، إلا أنه لا يمثل لها خطًّا أحمر، خاصة أن الكتل التي ستتحالف معه لن تذهب معه بعيدًا فيما يتعلق بالموقف من إيران.