رغم اتساع نطاق الخلافات بين إيران وفرنسا خلال الفترة الأخيرة بسبب التباين في التعامل مع بعض القضايا الرئيسية، على غرار التدخلات الإيرانية في المنطقة والبرنامج الصاروخي الإيراني، والتي وصلت إلى حد توجيه تهديدات إيرانية مباشرة لباريس بتأثير ذلك سلبيًا على العلاقات الاقتصادية بين الطرفين، إلا أن ذلك لا ينفي أن حكومة الرئيس حسن روحاني، وليس إيران بشكل عام، تبدو حريصة على عدم الوصول بهذه الخلافات إلى درجة غير مسبوقة قد يصعب معها احتواء تداعياتها السلبية، في الوقت الذي تتعرض فيه إيران لضغوط دولية وإقليمية قوية.
من هنا ربما يمكن تفسير حرص الحكومة على عقد الجولة الرابعة من المحادثات السياسية مع فرنسا، في باريس في 20 ديسمبر الجاري، بمشاركة عباس عراقجي مساعد وزير الخارجية الإيراني للشئون الدولية والعضو البارز في فريق التفاوض النووي، وهى المحادثات التي تعقد كل ستة أشهر بناءً على مذكرة التفاهم التي وقعت بين الطرفين خلال زيارة الرئيس حسن روحاني إلى باريس في يناير 2016.
وتوازى ذلك مع تأكيد المتحدث باسم وزارة الخارجية بهرام قاسمي، في 25 ديسمبر، على أنه لا توجد شروط مسبقة لزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لإيران، التي وضعت على جدول أعمال الدولتين حسب تصريحاته، داعيًا المسئولين الأوروبيين إلى "عدم الوقوع في شرك السياسات الأمريكية الخاطئة".
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إن حكومة روحاني ترى أن السبب في التوتر الحالي مع فرنسا يكمن في المواقف المتشددة التي تتخذها المؤسسات النافذة في النظام، وخاصة الحرس الثوري، المسئول عن إدارة البرنامج الصاروخي والتدخلات الإيرانية في الخارج.
أهداف مختلفة
اتجاه حكومة روحاني إلى تفعيل الحوار السياسي مع فرنسا، خاصة حول العلاقات الثنائية على المستويات السياسية والاقتصادية، يمكن تفسيره في ضوء اعتبارات عديدة، يتمثل أبرزها في إدراك الحكومة للتداعيات السلبية المحتملة التي قد يفرضها تصاعد حدة التوتر في علاقاتها مع فرنسا، خاصة على صعيد دعم الجهود التي تبذلها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من أجل تكوين حشد دولي قوي مناهض للتدخلات الإيرانية في المنطقة وللانتهاكات الإيرانية المستمرة للاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه في منتصف يوليو 2015.
إذ أن هذا التوتر يمكن أن يدفع باريس، تدريجيًا، نحو اتخاذ مزيد من الخطوات التي تتوافق مع السياسة الأمريكية، التي تقوم على ضرورة وقف تدخلات إيران في المنطقة ودعمها للتنظيمات الإرهابية وفرض قيود على برنامجها الصاروخي وممارسة ضغوط قوية لدفعها إلى الالتزام حرفيًا بالاتفاق النووي وعدم البحث عن مبررات للاستمرار في انتهاكه والالتفاف عليه.
وقد انعكس هذا التحول المحتمل في مؤشرات عديدة كان آخرها تأكيد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في 24 ديسمبر 2017، على ضرورة مواجهة أنشطة إيران التي تسببت في زعزعة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، في تعقيبه على قيام ميليشيا الحوثيين باستهداف العاصمة السعودية الرياض بصواريخ باليستية ثبت أنها إيرانية الصنع، حيث شدد في هذا السياق على ضرورة مواجهة الدور التخريبي الذي تقوم به إيران في المنطقة.
شبح انسحاب "توتال"
فضلاً عن ذلك، فإن الحكومة ما زالت تعمل على تجنب تأثير تلك الخلافات على العلاقات الاقتصادية بين الطرفين، والتي بدأ مستواها في التصاعد خلال الفترة التالية على الوصول للاتفاق النووي، حيث ترى أن هذه الخلافات يمكن أن تفرض ضغوطًا على الشركات الفرنسية التي بدأت في العودة إلى طهران مرة أخرى عقب رفع العقوبات الدولية المفروضة عليها في 16 يناير 2016، على غرار شركة "توتال" التي وقعت في 3 يوليو 2017 على اتفاق ثلاثي لتطوير المرحلة الحادية عشر من حقل "بارس الجنوبي"، بالتعاون مع شركة "سي إن بي سي" الصينية و"بتروبارس" الإيرانية.
وهنا، فإن أوساطًا سياسية واقتصادية داخل طهران لم تعد تستبعد إمكانية تكرار سيناريو ما بعد فرض العقوبات الدولية على إيران والتي دفعت "توتال" وغيرها من الشركات الدولية إلى الانسحاب من السوق الإيرانية، بشكل سوف ينتج، في الغالب، تداعيات سلبية عديدة على إيران.
ولذا، سارعت حكومة روحاني إلى اتخاذ خطوات من أجل تجنب مواجهة هذا السيناريو، من خلال محاولة تحييد العلاقات الاقتصادية عن الخلافات الخاصة بالبرنامج الصاروخي والتدخلات الإقليمية، إذ تعمدت الرد على التهديدات التي وجهها مستشار المرشد للعلاقات الدولية على أكبر ولايتي إلى فرنسا بعدم التدخل في مثل هذه الملفات في حالة ما إذا كانت حريصة على مصالحها الاقتصادية، عبر عقد الجولة الجديدة من الحوار السياسي، التي سعت عن طريقها إلى إقناع فرنسا بضرورة الاستمرار في دعم الاتفاق النووي وعدم الاقتراب من مواقف الإدارة الأمريكية إزاء الملفات الخلافية الأخرى.
فيتو محتمل
ومن دون شك، فإن الحكومة تضع في اعتبارها احتمال عودة الملف النووي إلى مجلس الأمن من جديد في حالة ما إذا توقف العمل بالاتفاق النووي، لأى سبب كان، وبدأت الولايات المتحدة الأمريكية في تكون حشد دولي مؤيد لإعادة فرض عقوبات دولية على إيران، التي ستعود أزمة ملفها النووي، في هذه الحالة، إلى مربعها الأول من جديد الذي كانت عليه قبل الوصول للاتفاق النووي، خاصة مع استعدادها لإعادة تنشيط برنامجها النووي مرة أخرى للوصول إلى المستويات التي كان عليها قبل الصفقة النووية.
وهنا، فإن الحكومة ترى أن المصالح الاقتصادية مع بعض القوى الدولية يمكن أن تحول دون تكوين هذا الحشد الدولي المناوئ لطموحاتها النووي والإقليمية، خاصة في حالة ما إذا توافقت تلك القوى مع الأطراف الأخرى التي تتبنى سياسة قريبة من حسابات إيران، على غرار روسيا التي ما زالت ترى أن الاتفاق النووي لا بديل له في المرحلة الحالية وتدعو إلى الفصل بينه وبين القضايا الخلافية الأخرى، مثل البرنامج الصاروخي الذي ترى أن إجراء إيران تجارب لتطويره لا يمثل انتهاكًا للاتفاق النووي.
عقبات متعددة
مع ذلك، فإن هذه الجهود التي تبذلها حكومة روحاني سوف تواجه عقبات عديدة، ينصرف أهمها إلى الضغوط العديدة التي تواصل بعض المؤسسات الأخرى النافذة في الدولة ممارستها من أجل الاستمرار في تبني سياسة متشددة فيما يتعلق بالبرنامج الصاروخي والتدخلات الإقليمية، بشكل سوف يوجه رسالة للقوى الدولية بأن الحكومة لا تمتلك القدرة على إجراء تغيير في تلك السياسية باتجاه يستوعب المطالب الدولية الخاصة بالتوقف عن التجارب الصاروخية وعن التدخل في الشئون الداخلية لدول المنطقة.
وبدا هذا الاتجاه المتشدد جليًا في تصريحات مساعد قائد الحرس الثوري العميد محمد رضا نقدي، في 24 ديسمبر الجاري، التي قال فيها أن "فكر الثورة الإسلامية هو الذي حرر غزة وأنزل شعوب اليمن ولبنان إلى الساحة"، في إشارة إلى أن إيران كان لها دور كبير في التطورات التي شهدتها هذه الدول والمناطق خلال الفترة الماضية.
كما انعكس في إصرار المرشد علي خامنئي والحرس الثوري على عدم إبداء مرونة في ملف الصواريخ الباليستية رغم الدعوات المتكررة التي وجهتها قوى دولية عديدة لإيران في هذا السياق، معتبرين أن ذلك سوف يوجه رسائل خاطئة إلى الداخل والخارج، وسيمهد لتصاعد حدة الضغوط المفروضة عليها بسبب الملفات الخلافية الأخرى وخاصة الاتفاق النووي والدور الإقليمي، بما يعني أن جهود حكومة روحاني للحفاظ على علاقات قوية مع فرنسا تواجه صعوبات لا تبدو هينة وقد لا تحقق أى نجاح يذكر في النهاية.