أخبار المركز
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (المعضلة الروسية: المسارات المُحتملة لأزمات الانتخابات في جورجيا ورومانيا)
  • إسلام المنسي يكتب: (جدل الوساطة: هل تخلت سويسرا عن حيادها في قضايا الشرق الأوسط؟)
  • صدور العدد 38 من دورية "اتجاهات الأحداث"
  • د. إيهاب خليفة يكتب: (الروبوتات البشرية.. عندما تتجاوز الآلة حدود البرمجة)
  • د. فاطمة الزهراء عبدالفتاح تكتب: (اختراق الهزلية: كيف يحدّ المحتوى الإبداعي من "تعفن الدماغ" في "السوشيال ميديا"؟)

استراتيجية التكيف:

كيف تمنع واشنطن تحويل التنافس مع الصين الي حرب

16 سبتمبر، 2020


عرض: إيمان فخري - باحثة دكتوراه بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة

بدأت العلاقات الأمريكية-الصينية في التدهور في عهد الرئيس "دونالد ترامب"، حيث بدأت الولايات المتحدة حربًا تجارية مع الصين، وكثّفت المنافسة التكنولوجية مع بكين من خلال محاولة عرقلة الشركات الصينية الرائدة (وخاصة شركة هواوي الرائدة في تكنولوجيا الجيل الخامس للاتصالات). كما تنامى التنافس الجيوسياسي بين البلدين، حيث أعلنت استراتيجية الأمن القومي لإدارة "ترامب" عام 2017 عن عودة منافسة القوى العظمى بين الولايات المتحدة والصين.

وفي هذا الإطار، أصدرت دورية "المصلحة الوطنية" (the National Interest) تقريرًا حول مسار وطبيعة العلاقات الأمريكية-الصينية، خاصة في ظل أزمة فيروس كورونا. 

وينطلق كاتبُ التقرير من ثلاث فرضيات أساسية؛ الفرضية الأولى تتمحور حول وجود عاملين أساسيين يشكلان طبيعة مستقبل العلاقات الصينية الأمريكية، العامل الأول هو الجغرافيا السياسية "Geopolitics"، أما العامل الثاني فهو الأيديولوجيا الليبرالية الأمريكية، وأن السبيل الوحيد لتخفيض التوتر بين البلدين والحيلولة دون تحوله إلى حرب بين الجانبين، هو إدارة هذين العاملين بشكل رشيد وفقًا لمبادئ السياسة الواقعية.

 أما الفرضية الثانية فهي تتعلق بأن الولايات المتحدة والصين تخوضان بالفعل حربًا باردة، على غرار الحرب الباردة التي ميزت العلاقات الأمريكية-السوفيتية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. 

في حين أن الفرضية الثالثة تدور حول أن أزمة فيروس كورونا لم تكن هي المحرك الأهم لتدهور العلاقات الثنائية، بل إن سيطرة البعد الأيديولوجي كان هو السبب وراء التدهور السريع في العلاقات الأمريكية-الصينية.

تداعيات فيروس كورونا 

تشهد العلاقات الأمريكية-الصينية مرحلة شديدة التوتر في ظل أزمة فيروس كورونا، حيث يُلقي كلا البلدين باللوم على الآخر حول انتشار الفيروس وكيفية إدارة الأزمة. وبدأت إدارة "ترامب" في التصعيد مع الجانب الصيني، من خلال حث الشركات الأمريكية على إعادة توجيه سلاسل التوريد الخاصة بها بعيدًا عن الصين.

كما اتّخذت إدارة "ترامب" بعض الإجراءات الانتقامية ضد بكين، بما في ذلك تقليل مبيعات أشباه الموصلات الأمريكية إلى الصين، والحد من استخدام المعدات الصينية في شبكة الكهرباء الأمريكية، والحد من الاستثمارات في بكين من خلال خطة توفير الادخار، وهو برنامج تقاعد وادخار للموظفين الفيدراليين، فضلًا عن حظر "تشاينا تليكوم" من شبكات الاتصالات الأمريكية.

ووصل الأمر إلى أن "ترامب" وكبار مستشاريه يبحثون عن وسائل لإجبار الصين على تعويض واشنطن ماليًّا، عن الأضرار التي لحقت بالاقتصاد الأمريكي بسبب الوباء. وكان من بين الأفكار المطروحة -في هذا الصدد- حجب مدفوعات الفائدة لبكين على حيازتها من سندات الخزانة الأمريكية، ولكن ذلك من شأنه أن يجازف بمكانة الدولار كعملة احتياطية للنظام الدولي. وتم طرح مقترح لإلغاء الحصانة السيادية للصين حتى يمكن مقاضاتها في المحاكم الأمريكية لاسترداد الأضرار الاقتصادية الناجمة عن الوباء، وهو أيضًا مقترح غير قابل للتطبيق نظرًا لتعارضه مع المبادئ الأساسية للقانون الدولي.

جذور الحرب الباردة الجديدة 

منذ انتهاء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، انقسمت السياسة الخارجية الأمريكية فيما يتعلق بالصين إلى معسكرين؛ الأول هم الصقور المتخوفون من الصعود الصيني، والمعسكر الثاني هم المؤيدون للانخراط الأمريكي في علاقات تعاون مع الصين، حيث يعتقد أنصار المعسكر الثاني أن اندماج بكين في المؤسسات الدولية والاقتصاد الدولي سيعززان التحرر الاقتصادي، وفي النهاية التحرر السياسي في الصين. 

أما الصقور فيرون أن الصعود الصيني يمثل تهديدًا للمصالح الأمريكية على الأصعدة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، وبشكل متزايد أيضًا على الصعيد الأيديولوجي. وقد كان البنتاغون دائمًا متشددًا بشأن الصين؛ إلا أن هذا التشدد قد قابلته رغبة مجتمع رجال الأعمال الأمريكيين في التوسع الاقتصادي بالصين.

وبناء عليه، فقد تنوعت سياسات الإدارات الأمريكية تجاه الصين في إطار هذين المعسكرين. ففي حين كانت إدارات "كلينتون" و"أوباما" أكثر ميلًا نحو الانخراط مع الصين. فقد اتخذت إدارتا "جورج دبليو بوش" و"ترامب" نهجًا أكثر تشددًا تجاه بكين. 

كما سعت إدارة جورج دبليو بوش إلى الحفاظ على القطبية الأحادية من خلال إثناء الصين عن تحديث جيشها. ووجهت واشطن تحذيرًا لبكين مفاده أن سعيها لتطوير قدراتها العسكرية سيعمل على تهديد جيرانها في آسيا والمحيط الهادئ. كما صرّح دونالد رامسفيلد -وزير الدفاع الأمريكي آنذاك- بأن أي تحركات من جانب الصين لتعزيز قدراتها العسكرية هي بالضرورة إشارة إلى نوايا الصين العدوانية، وذلك لأنه "لا توجد دولة تهدد الصين".

إلا أن الوضع خلال إدارة "ترامب" قد تغير بشكل دراماتيكي، فقد تلاشى -إلى حد كبير- وجود المعسكر الذي يدعم الانخراط في علاقات تعاونية مع الصين. ويُعزَى ذلك إلى أن اتّباع سياسة المشاركة والانخراط تجاه بكين لم يؤدِّ إلى حدوث تغيير سياسي في الصين كما كان يأمل أنصار هذا المعسكر.

لذا يؤكد كاتب المقال أن خيبة الأمل المتزايدة تجاه سلوك الصين هي نتيجة لسذاجة مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية. فلم تكن هناك أي مؤشرات تدعم الافتراض الأمريكي بأن بكين ستغير نموذج نموها الاقتصادي، أو نظامها السياسي، وأن تصبح أكثر تقاربًا مع الولايات المتحدة لمجرد السماح لها بالانخراط والاندماج في الاقتصاد العالمي. ونتيجة لذلك أصبحت الحرب الباردة وزيادة التوترات بين الجانبين أمرًا لا مفرّ منه.

مؤشرات الحرب الباردة الأمريكية-الصينية

في هذا السياق، بدأ يتشكل إجماع في الساحة السياسية الأمريكية حول نشوب حرب باردة مع الصين، وهو إجماع يشبه في كثيرٍ من النواحي الإجماع الذي تميزت به السياسة الأمريكية خلال الفترة من 1946-1947. ويمكن استقراء مؤشرين رئيسيين للحرب الباردة الأمريكية-الصينية، كما يلي: 

المؤشر الأول وهو المتعلق بالأيديولوجيا: حيث يؤكد التقرير أنه بينما تلعب الجغرافيا السياسية والاقتصاد وأزمة فيروس كورونا دورًا في تدهور العلاقات الصينية-الأمريكية؛ إلا أن بروز الأيديولوجيا بشكل متزايد لدى الجانب الأمريكي كعامل رئيسي لتحديد طبيعة العلاقة مع الصين، كان له تأثير سلبي على مسار العلاقات الثنائية، حيث تم تكريس النزاع الأمريكي-الصيني بشكل متزايد على أنه صدام بين أيديولوجيتين لا يمكن التوفيق بينهما، وهو نفس ما مميز العلاقات بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة في الحرب الباردة. 

وتجلّى ذلك في خطاب "مايك بومبيو" وزير الخارجية الأمريكي الذي ألقاه في 24 يوليو الماضي، حيث أعاد استخدام أقسى خطابات الحرب الباردة الأولى، وذكر أن الرئيس الصيني هو "مؤمن حقيقي بأيديولوجيا شمولية مفلسة"، وأكد أنه ما لم تضغط الولايات المتحدة على الصين، فإن الحزب الشيوعي الصيني "سوف يقوض حريتنا". بل وأكد "بومبيو" أنه بالنسبة له لا وجود للصين كدولة، فالواقع الوحيد هو الحزب الشيوعي الصيني، الذي يمثل "التهديد الرئيسي في عصرنا الحالي".

ويشير التقرير إلى أن العقوبات الأمريكية الأخيرة على الصين بخصوص انتهاكات حقوق الإنسان في هونج كونج وتجاه أقلية المسلمين الإيغور؛ يمكن قراءتها في إطار إدارة الولايات المتحدة لصراعها مع الصين على أنه صراع أيديولوجي بين دولة تعتمد أيديولوجيتها على احترام حقوق الإنسان ودولة أخرى تنتهك هذه الحقوق. 

 وقد أوضح التقرير أن خطورة الارتكاز على الأيديولوجيا في العلاقات بين البلدين، تكمن في سهولة شيطنة الآخر، وبالتالي سيكون من الصعوبة بمكان اللجوء إلى الوسائل الدبلوماسية لتقريب الاختلافات.

كما أشار كاتب التقرير إلى أن الاعتماد على العنصر الأيديولوجي في إدارة الصراع مع الصين هو انعكاس لليبرالية الهجومية (offensive liberalism) والمدرسة الويلسونية (Wilsonianism) في السياسة الخارجية الأمريكية، والتي ترى في جوهرها أن العالم ينقسم إلى دول "جيدة" (ديمقراطيات) ودول "سيئة" (دول غير ديمقراطية)، وتعتبر الأخيرة غير قابلة للإصلاح بسبب أنها دول تتسم بالعدوانية والرغبة في التوسع، وبالتالي فإن الحل الوحيد لإحلال السلام هو تغيير نظام هذه الدول.

وما يؤكد اعتماد إدارة "ترامب" على هذه المدرسة في السياسة الخارجية هو تأكيد "مايك بينس"، نائب الرئيس الأمريكي، أن الدول التي تقمع شعوبها، عادة ما لا تتوقف عند هذا الحد. فضلًا عن خطابات "بومبيو" المتكررة التي يتحدث فيها عن ضرورة تغيير النظام الصيني ليصبح متوافقًا بشكل أكبر مع القيم الليبرالية الأمريكية.

إضافة إلى ما سبق، يطرح التقرير إمكانية أن الجمهوريين قد يرون أن أفضل طريقة لإعادة انتخاب "ترامب" لفترة رئاسية ثانية هي الترويج لأن الولايات المتحدة منغمسة في صراع أيديولوجي مع الصين الشيوعية.

المؤشر الثاني لاحتدام الحرب الباردة بين البلدين هو ازدياد وتيرة الصراع حول التواجد في القارة الآسيوية: فقد أكدت إدارة "ترامب" عزمها الحفاظ على الهيمنة الأمريكية في شرق آسيا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، ووصفت واشنطن نفسها بأنها قوة مقيمة في هذه المناطق. كما رفضت الولايات المتحدة رسميًّا مطالبات الصين الإقليمية في بحر الصين الجنوبي.

أمّا عن استراتيجية "ترامب" لمجابهة النفوذ الصيني في هذه المناطق، فتتلخص في: الحفاظ على التفوق العسكري الأمريكي، وتعزيز التحالفات والشراكات الإقليمية الأمريكية، وتعزيز القدرات العسكرية لحلفائها الإقليميين. وكجزء من هذه الاستراتيجية، يعمل البنتاغون على تطوير صاروخ باليستي جديد متوسط المدى مخصص لأن يتم نشره في شرق آسيا ردًّا على التواجد العسكري الصيني في المنطقة.

فكما يقول التعبير الصيني الشائع: "لا يمكن أن يعيش نمران على جبل واحد"، وكما سبق أن قال "وين دي" الإمبراطور الصيني فإنه "عندما يظهر إمبراطوران في وقت واحد، يجب تدمير أحدهما".

لذا فالوضع الإقليمي في آسيا مرشح للتوتر بشكل أكبر، خاصة في ظل عدم وجود أية مؤشرات تدل على أن الولايات المتحدة مستعدة لأن تشارك مكانتها الدولية وهيمنها مع الصين أو أي دولة أخرى في هذه المرحلة. 

ختامًا، يوضح التقرير أن صعود الصين واتّباعها نموذجَ رأسمالية الدولة يمثلان التحدي الاقتصادي والجيوسياسي الأكثر أهمية الذي واجهته الولايات المتحدة منذ عقدين. وأنه إذا كانت الولايات المتحدة تريد حقًّا تجنب الاصطدام المباشر مع الصين، فسيتعيّن عليها اعتماد سياسة تتكيف مع صعود الصين.

وفي ضوء أن كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري يتفقان على ضرورة تغيير نهج السياسات الأمريكية تجاه الصين ليصبح أكثر تشددًا؛ فقد عبّر كاتب التقرير عن قلقه من أن ذلك قد يدفع قيادات كلا الحزبين إلى التنافس حول اتخاذ موقف أكثر تشددًا حيال الصين، مما سيجعل من الصعب الالتزام بالبراغماتية أثناء الحديث عن إدارة العلاقات مع الصين، وبالتالي سيكون من الصعب على الولايات المتحدة التراجع عن الصراع مع الصين، وقد يتطور الصراع من حرب باردة إلى حرب ساخنة بين الطرفين.

المصدر: 

Christopher Layne, How America Can Stop Its Rivalry with China From Spinning Into War, National Interest , August 13, 2020.