أخبار المركز

مناخ غير مواتٍ:

لماذا تم إرجاء الانتخابات المحلية في مناطق الإدارة الذاتية في شمالي سوريا؟

25 يونيو، 2024


أُجِّلت الانتخابات المحلية لمناطق شمالي وشرقي سوريا، والخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، حتى أغسطس 2024، بحسب بيان أدلت به الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمالي وشرقي سوريا، في وقت سابق من يونيو الجاري؛ وذلك استجابة لمطالب الأحزاب والتحالفات السياسية المشاركة في العملية الانتخابية، وحرصاً على تنفيذ العملية الانتخابية بشكل ديمقراطي بحسب بيان أصدرته الإدارة.

والجدير بالذكر أن الدعوة لعقد الانتخابات المحلية في مناطق سيطرة "قسد" كانت قد أتت بعد أن أصدرت الإدارة الذاتية في ديسمبر 2023 ما يُسمى بـ"العقد الاجتماعي الجديد"، والذي يُعد بمثابة دستور يُنظم إدارة مناطق سيطرة الإدارة الذاتية؛ إذ يشمل العقد الجديد تغيير هيكلية مؤسسات الإدارة بما في ذلك المحليات، واتصالاً بذلك فقد أصدرت الإدارة في إبريل الماضي، قانون المحليات (البلديات) المؤلف من 62 مادة، ويتضمن القانون الجديد تحديد مهام البلديات وصلاحياتها، التي تشمل قضايا خدمية وقانونية.

عقبات ماثلة:

على الرغم من إعلان حكومة الإدارة الذاتية أن تأجيل الانتخابات قد جاء بناءً على طلب الأحزاب المُشاركة، فإن هناك عدداً من العوامل الأخرى بعضها إقليمي ودولي والآخر داخلي ومحلي قد دفع في اتجاه تأجيل الانتخابات في مناطق الإدارة الذاتية، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

1. اعتراض تركي: أعلنت تركيا، منذ البداية، مُعارضتها الواضحة لأية انتخابات قد تُجرى في مناطق سيطرة "قسد"؛ إذ أشار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 15 يونيو 2024، إلى أن وزير خارجيته هاكان فيدان، بحث بالتفصيل خلال زيارته مؤخراً إلى موسكو، مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين موضوع الانتخابات في مناطق الأكراد في سوريا. كما صرّح أردوغان من قبل بأنه يتابع عن كثب التحركات التي وصفها بـ"العدائية" من قوات سوريا الديمقراطية "قسد" ضد وحدة أراضي تركيا، فضلاً عن سوريا، بذريعة الانتخابات، مؤكداً أن تركيا لن تسمح لمنظمة انفصالية بإقامة "دولة إرهابية"، كما أشار أردوغان إلى أنه سيتوجب على تركيا فعل "ما هو مطلوب" من أجل منع الانتخابات، في إشارة إلى فعل عسكري تركي مُحتمل ضد مناطق سيطرة الإدارة الذاتية.

ويأتي الموقف التركي مفهوماً في ضوء اعتبار "قسد" –ومن ثم الإدارة الذاتية في مناطق شرقي سوريا بوصفها الامتداد السياسي للأولى- منظمة إرهابية؛ ومن ثم، ووفقاً للمنطق التركي فإن أية انتخابات في مناطق سيطرة "قسد" ستعني تهديداً مباشراً للأمن القومي التركي، ويأتي هذا بالأساس مدفوعاً بثلاثة عوامل رئيسية؛ الأول، هو أن أية انتخابات في مناطق شمال شرقي سوريا قد تُعطي شرعية سياسية وشعبية لـ"قسد" ومن ثم، فإن ذلك يفرض لها وجوداً سياسياً شرعياً قائماً على إرادة شعبية؛ ومن ثم الانتقال بـ"قسد" من مجرد قوات شبه عسكرية تسيطر على مساحة جغرافية في شمالي وشرقي سوريا بحكم الأمر الواقع، إلى سلطة سياسية ومدنية تباشر عملها بناءً على تفويض شعبي وتمتلك مقومات الدولة أو جزءاً منها.

العامل الثاني؛ هو أن أية عملية انتخابية تمنح شرعية لـ"قسد" وحكومة الإدارة الذاتية ستجعل أي عمل عسكري تركي ضد هذه القوات في المستقبل أمراً من الصعوبة بمكان (من الناحية السياسية على الأقل)؛ إذ إن تركيا في العادة تشير إلى أن "قسد" لا تمثل الشعب السوري، وهي سلطة أمر واقع، إلا إنه من خلال الانتخابات فإن "قسد" ستحصل على شرعية شعبية قد تُعقد خطط تركيا بشن هجوم عسكري عليها.

العامل الثالث؛ وهو أن الخبرة التاريخية دوماً ما تشير إلى أن تركيا تتحسب من قيام دولة كردية على حدودها في البلدان المجاورة، وينبع ذلك بشكلٍ أساسي من الخبرة التركية السلبية في التعامل مع الحركة الانفصالية المسلحة لحزب العمال الكردستاني؛ ومن ثم، فإن تركيا تخشى من أن أية دولة كردية أو حتى ما يشبه الدولة (حالة مناطق الإدارة الذاتية) سيؤدي إلى تأثير قد يمتد إلى داخل تركيا ذاتها من خلال حراك كردي يطالب بالاستقلال أو في أحسن الأحوال تشكيل حاضنة شعبية من الأكراد الأتراك لحزب العمال الكردستاني.

2. فتور أمريكي: على الرغم من أن الولايات المتحدة تُعد أبرز حلفاء "قسد" في المنطقة، فإنها أبدت شكوكاً حول خطوة إجراء الانتخابات؛ إذ أشار نائب المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، فيدانت باتيل، إلى أن "أية انتخابات تجري في سوريا يجب أن تكون حرّة ونزيهة وشفافة وشاملة وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2254"، مشيراً إلى أن واشنطن لا تعتقد أن "الظروف مُتوفرة لإجراء مثل هذه الانتخابات".

ويمكن فهم الموقف الأمريكي في ضوء عدد من العوامل لعل أهمها هو القلق الأمريكي من أن هذه الانتخابات قد تُعطي زخماً على المستوى السياسي للإدارة الذاتية في شمالي وشرقي سوريا؛ ومن ثم، فإن ذلك سوف يؤدي إلى البدء في تكوين أجهزة ومؤسسات سياسية وعسكرية وبيروقراطية تتماثل مع مؤسسات الدولة السورية؛ ومن ثم، فإن ذلك سيمنح الإدارة الذاتية القدرة والخبرة اللازمة لإدارة هذه المناطق الخاضعة لسيطرتها. وفي هذا السياق فإن التخوف الأمريكي يأتي في المقام الأول من خشية أن تتحول هذه المؤسسات التي قد تنتج عن الانتخابات والخبرة التي ستحصل عليها "قسد" في إدارة هذه المناطق إلى مطالب انفصالية مُستقبلية عن الدولة السورية في سيناريو مماثل لحالة استفتاء انفصال إقليم كردستان العراق في 2017؛ وهو الأمر الذي سيضع الولايات المتحدة في حرج؛ لأنها تشدد على وحدة الأراضي السورية والحل السياسي السوري الجامع.

فضلاً عن ذلك، فإن الولايات المتحدة تتحسب من تحركات تركيا المحتملة رداً على الانتخابات؛ إذ تشير التقديرات إلى أن الولايات المتحدة قد بعثت بتحفظاتها لمسؤولين في الإدارة الذاتية، فالولايات المتحدة ترى أن مثل هذه الانتخابات ستعزز بشكلٍ كبير احتمالية شن تركيا عملاً مسلحاً في شمال شرقي سوريا ضد المسلحين الأكراد المتحالفين معها، وهي في ذلك تحاول أن تتجنب عملية تركية عسكرية قد تبدد مساعي الولايات المتحدة خلال الفترة الماضية في الضغط على تركيا من أجل عدم شن عملية عسكرية في شمالي سوريا والعراق. 

بناءً على ما سبق، فإن "قسد" تتحسب أيضاً من أن المضي قدماً في الانتخابات سيضر العلاقات مع الولايات المتحدة التي تُعد الداعم الرئيس لقوات سوريا الديمقراطية على المستوى المادي والعسكري، فوفقاً للتقديرات فإن "قسد" تحصل على دعم أمريكي عن طريق قانون تفويض الدفاع الوطني (NDAA) وصندوق التدريب والتجهيز لمكافحة داعش (CTEF)؛ إذ تُشير التقديرات إلى أن "قسد" حصلت في 2023 على ما يقرب من 165 مليون دولار من الولايات المتحدة من أجل مكافحة تنظيم الدولة، فضلاً عن وجود الولايات المتحدة كفاعل رئيس في عدد من المشروعات الخدمية والاستثمارية في مناطق سيطرة "قسد".

3. رفض محلي: فضلاً عن المعارضة الإقليمية والدولية للانتخابات في مناطق سيطرة "قسد"، فإن أطراف المعادلة السياسية في سوريا قد أبدت اعتراضها على إجراء الانتخابات المُزمع تنظيمها في شمال شرقي سوريا، إذ أعلن الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية اعتراضه على إجراء هذه الانتخابات من الأساس، وأكّد عدم شرعيتها واصفاً إياها بأنها محاولة لنسف العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة، وتهدف إلى الالتفاف على قرارات مجلس الأمن ذات العلاقة بسوريا، مُؤكداً خطورة هذه الانتخابات على وحدة سوريا أرضاً وشعباً، فضلاً عن تعقيدها للحل السياسي وزعزعة أمن واستقرار المنطقة.

أما الحكومة السورية في دمشق، فإنها لم تعلق على انتخابات مناطق "قسد" بصورة رسمية، إلّا أن مصدراً سورياً صرّح لجريدة الوطن السورية بأن الانتخابات تُعد مشروعاً انفصالياً؛ وهو أمر مرفوض رفضاً قاطعاً من قبل دمشق، كما أشار المصدر نفسه إلى أن الإدارة الذاتية لا تمتلك سلطة شرعية للقيام بانتخابات في المناطق التي تسيطر عليها، وأن الانتخابات الوحيدة الشرعية المُعترف بها هي انتخابات الإدارة المحلية التي جرت تحت سلطة الدولة السورية. 

ويأتي موقف الائتلاف السوري مفهوماً في ضوء التنافس مع "قسد" على تمثيل السوريين؛ إذ يرى الائتلاف نفسه البديل عن الحكومة السورية في دمشق؛ ومن ثم، فإن ظهور كيان جديد مدعوم بشرعية الانتخابات يهدد أُسس وجوده وبقاءه كممثل بديل عن الشعب السوري، أما الحكومة السورية فيمكن فهم موقفها في ضوء عاملين؛ الأول، هو اعتبارها السلطة الوحيدة والشرعية في الدولة؛ ومن ثم، فإن أية انتخابات أو تحركات سياسية تتم من دون رضا دمشق تُعد غير شرعية؛ ومن ثم مرفوضة؛ الأمر الآخر هو أن انتخابات مناطق "قسد" قد جاءت في خضم استعداد دمشق لتنظيم الانتخابات النيابية الخاصة بمجلس الشعب؛ إذ يبدأ المرشحون الآن في مباشرة حملاتهم الانتخابية، وترى دمشق أن انتخابات "قسد" قد تشوش على العملية الانتخابية في دمشق وباقي أنحاء سوريا، وأيضاً قد تأتي هذه الانتخابات كمنافس لشرعية الحكومة السورية وتطرح تساؤلات عن قدرتها على إجراء الانتخابات النيابية في مناطق سيطرة "قسد".

4. عوائق سياسية وتنظيمية: على المستوى الداخلي؛ تواجه الإدارة الذاتية تحديات جمّة تؤثر بشكلٍ حقيقي في قدرتها على تنظيم وإجراء الانتخابات، فعلى المستوى التنظيمي واللوجستي؛ فإن الإدارة تواجه تحديات تتعلق بقدرتها على تنظيم الانتخابات، تتضمن بشكلٍ أساسي تجهيز المقار الانتخابية وإيصال البطاقات الانتخابية لجميع سكان مناطق سيطرة "قسد" في شمال شرقي سوريا. وعلى المستوى الانتخابي والسياسي؛ فإن الفترة المُخصصة للحملات الانتخابية للقوى السياسية في شمال شرقي سوريا فترة قصيرة ولا توفر الوقت المطلوب للحشد والتعبئة السياسية للمرشحين، بجانب ما سبق، فإن "قسد" تخشى من أن تنظيم هذه الانتخابات في الوقت الحالي قد يكون مُضراً بشرعتها، ولاسيما في ظل وجود استياء شعبي من قوات "قسد" خصوصاً في مناطق دير الزور والرقة وريف حلب بعد الاشتباكات المسلحة بين عشائر عربية وقوات "قسد" في 2023، فضلاً عن أن التقديرات تُشير إلى أن بعض السكان في مناطق شمال شرقي سوريا قد رفضوا تسلم بطاقاتهم الانتخابية؛ الأمر الذي يوحي بضعف المشاركة الشعبية؛ ومن ثم إحاطة العملية الانتخابية بشبهة عدم الشرعية وعدم التمثيل، علاوةً على ذلك التخوف من ضعف مشاركة المنظمات الدولية ومراقبتها للعملية الانتخابية.

5. تصدع كردي: فضلاً عما سبق، فإن الصف الكردي يشهد تصدعاً أيضاً على خلفية الانتخابات في مناطق سيطرة "قسد"، فقد أشار المجلس الوطني الكردي السوري، في بيان له في 27 مايو 2024، إلى أن الانتخابات البلدية تجري في بيئة غير مُحايدة ومحسومة النتائج وتفتقر إلى الشرعية، مُعلناً مقاطعة الانتخابات، بينما أشار عضو اللجنة السياسية لحزب "يكيتي" الكردستاني- سوريا، إسماعيل رشيد إلى أن مضي الإدارة الذاتية في الانتخابات دون أخذ المواقف الرافضة بعين الاعتبار يولد أوضاعاً كارثية وتداعيات خطرة على المناطق الكردية في سوريا حال إجراء الانتخابات، ولاسيما أن حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) وارتباطه مع حزب العمال الكردستاني (PKK) يعطي ذريعة لتركيا بالتدخل في المناطق الكردية.

وفي التقدير، يمكن القول إن مستقبل الانتخابات في مناطق سيطرة "قسد" سيكون مرهوناً في المقام الأول بالمؤثريْن السوري والتركي، ففي ظل استمرار التهديد التركي بعمليات عسكرية كرد على أية انتخابات مُحتملة يكون خيار الانتخابات غير ذي جدوى في مناطق سيطرة "قسد"، كما أن الدعم الأمريكي وحده لن يؤتي ثماره، فحتى إذا ما دعمت الولايات المتحدة مثل هذه الانتخابات في المستقبل، فإن مثل هذا الدعم ما لم يقترن بضغط سياسي على الحكومة التركية لثنيها عن القيام بعمل عسكري ضد مناطق سيطرة "قسد" لن يكون ذا فائدة تذكر.

وبناءً على ما سبق، فإن فرص إجراء هذه الانتخابات ترتبط بقدرة "قسد" على إقامتها في ظل رضا من قبل حكومة دمشق بوصفها السلطة الشرعية المعترف بها دولياً؛ ومن ثم إضفاء صفة الشرعية على الانتخابات المحلية، إلّا أن ذلك يُعد من الصعوبة بمكان، ولاسيما في ظل الرفض السوري لأية إجراءات قد تُعزز النزعة الاستقلالية لـ"قسد" في مناطق سيطرتها، كما أن احتمالية وجود تقارب سوري تركي في المستقبل قد تُعقد وتُقلل من فرص تنظيم الانتخابات في مناطق سيطرة "قسد".

ويبقى خياران حاليان أمام "قسد"، إما عدم إجراء الانتخابات؛ ومن ثم الاستمرار كسلطة أمر واقع فرضت عن طريق الإرادة العسكرية؛ ومن ثم عدم ترسيخ شرعية شعبية تدعم وجودها على الساحة السياسية، وإما الدخول في مشاورات مع الحكومة السورية في دمشق، والتوصل إلى تفاهمات مُشتركة من بينها إمكانية إجراء الانتخابات الحالية كجزء من الانتخابات المحلية التي تُجرى في عموم سوريا بإشراف مُشترك من قبل الحكومة السورية في دمشق والإدارة الذاتية.