أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)

صعود ألماني:

خارطة السباق الجيوسياسي الدولي حول الابتكارات البيئية

04 سبتمبر، 2024


عرض: هبة محيي

لا يُعَد موضوع "حماية البيئة" حديث العهد على الساحة الدولية؛ إذ تم طرح أول أجندة معنية بالبيئة في مؤتمر الأمم المتحدة في ستوكهولم عام 1972. إلا أن تطور الأزمات الدولية، كتداعيات جائحة كورونا والصراع الروسي الأوكراني أعاد هذا الموضوع بقوة إلى العالم؛ إذ اعتنت العديد من الدول، ومنها ألمانيا، بإصدار المبادرات والقوانين الداعمة لحماية البيئة مثل: قانون زيادة كفاءة الطاقة الألماني، وتعديل استراتيجية الاستدامة الألمانية لعام 2021، وعلى الصعيد الأوروبي برزت الصفقة الخضراء الأوروبية 2020.

وكوسيلة حديثة فعالة لتحقيق الأهداف البيئية، فقد تم ربطها بالعمليات الابتكارية. في هذا الإطار، نشرت الوكالة الألمانية الاتحادية للبيئة تقريراً في عام 2024 حول دور التوجه الألماني الابتكاري للمحافظة على البيئة مع مقارنته بالجهود الدولية. ويكشف التقرير عن خارطة السباق الجيوسياسي الدولي المتصاعد حول العمليات الابتكارية في مجال حماية البيئة، ثم موقع ألمانيا في هذا السباق. ويقصد هنا بالعمليات الابتكارية كل من مجالي البحث والتطوير وبراءات الاختراع. واعتمد التقرير في تقييمه على بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) حول الإنفاق الحكومي في مجالي البحث والتطوير لحماية البيئة والاستهلاك الكفء للطاقة.   

العمليات الابتكارية البيئية: 

تنقسم العمليات الابتكارية، وفقاً لتقرير الوكالة الألمانية، إلى شقَّين أحدهما، البحث والتطوير المرتبط بزيادة مخزون المعرفة لتحقيق الأهداف الاقتصادية بتكاليف أقل، والآخر براءات الاختراع التي ستنتج بالضرورة عن الاعتناء بمجال البحث والتطوير. وتظهر الحاجة الماسة إلى العمليات الابتكارية في ضوء التغيرات الهيكلية للأهداف البيئية؛ إذ كان يتم التركيز سابقاً على المشكلات الأولية المتعلقة بالعناصر البيئية، كالنفايات، والمياه، والتربة، والضوضاء. ومؤخراً انصرفت الأذهان إلى أهمية استخدام مصادر الطاقة المتجددة، ثم تلاها الاتجاه المعنِي بتحقيق كفاءة استخدام الطاقة، واستحداث أساليب تخزين الطاقة الحديثة لاستخدامها في المستقبل.

وبحسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تم تقدير الإنفاق الحكومي على البحث والتطوير في مجال حماية البيئة من قبل دول المنظمة بما يقرب من 9 مليارات دولار أمريكي عام 2021، وهو ما يُعد زيادة طفيفة عن معدل الإنفاق لعام 2020 البالغ 8.6 مليار دولار أمريكي، بعد انخفاض سنوي في عام 2019؛ أي أن معدل الإنفاق اتخذ منحنى متصاعداً وَفق زيادة طفيفة خلال الفترة من 2010 إلى 2021. لكن عند مقارنة المخصصات المالية في مجال البحث والتطوير المختص بحماية البيئة بالمخصصات المالية للبحث والتطوير عموماً؛ يصل التقرير إلى نتائج مخيبة للآمال نوعاً ما؛ إذ شكل إنفاق البحث والتطوير البيئي نسبة 2.3% من إجمالي إنفاق البحث والتطوير في عام 2021.

ومرت معدلات الإنفاق في دول الاتحاد الأوروبي بعدة مراحل؛ إذ انخفضت نسبة الإنفاق الحكومي في مجال البحث والتطوير المختص بحماية البيئة مقارنة بنسبة المخصصات العمومية للبحث والتطوير من 2.8% (2010) إلى 2.4% (2019). ثم ما لبثت أن زادت النسبة مرة أخرى عام 2021 لتعود إلى 2.8%. الجدير بالذكر أن هناك العديد من دول الاتحاد الأوروبي التي لم تقلص حجم مخصصاتها في مجال البيئة، كألمانيا واليونان والبرتغال. واستمر ذلك الاتجاه التصاعدي للمخصصات في تلك الدول؛ إذ تخطت متوسط الإنفاق في الاتحاد الأوروبي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ففي عام 2021 بلغت مخصصات ألمانيا (3.4%)، واليونان (3.7%)، والبرتغال (4.3%).

 وعند التطرق إلى المخصصات المالية في مجال الطاقة، يذكر تقرير الوكالة الألمانية أنه قد بلغ إنفاق البحث والتطوير لدول الاتحاد الأوروبي نسبة 5% من إجمالي إنفاق البحث والتطوير. وعليه فإن الأبحاث المعنية بالطاقة تحظى بمكانة فوق المتوسطة مقارنة بالأبحاث المعنية بالبيئة، ولا يقتصر الاهتمام بالأبحاث المختصة بالحقل الطاقوي على الاتحاد الأوروبي فقط؛ بل يمتد ليشمل الولايات المتحدة الأمريكية واليابان؛ إذ تولي الأخيرة اهتماماً كبيراً بالطاقة خاصة مع اهتمامها بالطاقة النووية. 

وتُعنى الأبحاث المختصة بحماية البيئة بالمجالات الآتية: إدارة الموارد المائية، معالجة التربة والمياه الجوفية والمياه السطحية، إدارة النفايات وإعادة تدويرها، حل مشكلات الضوضاء والتلوث السمعي، إعادة تدوير البلاستيك والمعادن. وبالنسبة للجهود البحثية في مجال الطاقة، فقد تم توجيه الجهود ناحية تطوير استراتيجيات الطاقات المتجددة؛ إذ اتجهت معظم الدول في الفترة من 2019 إلى 2021 إلى تكثيف الأبحاث المتعلقة بالطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، والطاقة الحيوية، فقامت ألمانيا مثلاً بتوجيه مخصصات إنفاقها في البحث والتطوير على النحو التالي: الطاقة الشمسية بنسبة 41%، تلتها طاقة الرياح بنسبة 31%، والطاقة الحيوية بنسبة 20%.

ويُعد البحث والتطوير في مجال حماية البيئة ذا أهمية بالغة لألمانيا؛ نظراً لتعثر الانتقال الطاقوي ونقص الغاز الناتج عن الحرب الروسية الأوكرانية؛ لذا، شهدت المشروعات البحثية زخماً ملحوظاً؛ إذ تضاعفت المشروعات البحثية في الفترة من 2009-2011 إلى 2019-2021 بنسبة 90%، مع زيادة أكبر بشكل متزامن في حجم المشروعات والتمويل بنسبة 120%، وقد شكل مجال الطاقة نحو 46% من المشروعات البحثية التي بدأت حديثاً في الفترة الحالية. وقد تم إطلاق المشروعات البحثية ذات التركيز البيئي بشكل متزايد من قبل الشركات الخاصة.

 وقد أولت الجامعات الألمانية اهتماماً بتوفير التمويل للمشروعات البحثية؛ غير أن ميزانيات التمويل كانت قليلة مقارنة بالمشروعات الصناعية، ولم تتخل الحكومة الفدرالية أيضاً عن دورها التمويلي؛ إذ تمكنت من توسيع موقعها القيادي كجهة ممولة للبحث بشكل كبير (من 67% إلى 96%) من خلال زيادة التمويل من متوسط سنوي قدره 1.1 مليار يورو إلى 2.9 مليار يورو.

سباق براءات الاختراع:

تمثل حصص براءات الاختراع مؤشراً مهماً على إسهامات الدول والمنظمات الدولية في المجالات التكنولوجية المعنية بتحقيق الأهداف البيئية، وقد عمد تقرير الوكالة الألمانية إلى التركيز على براءات الاختراع المعنية بحماية المناخ وإنتاج السلع الصديقة للبيئة في الفترة بين عامي 2016 إلى 2020؛ للوقوف على الإسهامات الحالية للدول والكيانات الاقتصادية. وتكشف الإحصاءات عن منافسة شرسة بين الأربع دول الكبار في براءات الاختراع: اليابان والصين والولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا؛ إذ يسهم ذلك التكتل بأكثر من 50% من طلبات براءات الاختراع في الفترة المذكورة سابقاً. فتتميز الصين في مجال حماية المناخ والمجالات الفرعية المرتبطة به، بينما تتسيد اليابان مجال الاستخدام الكفء للطاقة، أما الولايات المتحدة الأمريكية فتأتي أولاً في أنظمة تحويل الطاقة، وفي الوقت نفسه، تحتل ألمانيا المرتبة الرابعة في تقنيات حماية المناخ، وفي باقي الأقسام تحتل المرتبة الثالثة.

بالتطرق إلى دول الاتحاد الأوروبي، يشير التقرير إلى بروز العديد من الدول بجانب ألمانيا، كالدنمارك وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا، كدول ذات حصص عالية نسبياً في براءات الاختراع في مجال حماية المناخ والأقسام الفرعية المرتبطة به. وتسهم منطقة الاتحاد الأوروبي بنحو 37% من حصص براءات الاختراع في تقنيات حماية المناخ. وعند التعرض للتقنيات البيئية المفصلة لا يوجد اختلاف كبير عن النتائج السابقة؛ إذ تُعد الولايات المتحدة واليابان الدولتان الرائدتان، بينما تفوقت الصين على ألمانيا لتأتي في المرتبة الثالثة، أما اليابان فتحتل الصدارة في مجال تنقية الهواء والحماية من الضوضاء؛ من حيث حصص براءات الاختراع.

وتحتل الولايات المتحدة الصدارة في مجالات معالجة المياه العادمة، وإدارة المياه، وإدارة النفايات، وإجمالي تقنيات إعادة التدوير ونظام إدارة المواد، في حين تمتلك الصين أكبر حصص براءات الاختراع في مجال الترميم وإدارة النفايات، بينما تأتي ألمانيا في مقدمة مجال إعادة تدوير المعادن. وبالنسبة لمجال السلع الصديقة للبيئة؛ فتأتي ألمانيا أيضاً في الطليعة، وينطبق ذلك على مجال تنقية الهواء، الذي يتأثر بصناعة المركبات وماينتج عنها من عوادم ومواد ملوثة للبيئة، وينبع دور ألمانيا الرائد في المجال من كون صناعة المركبات صناعة راسخة في ألمانيا.

 تعكس الإحصاءات السابقة التوزيع الديمغرافي والجيوسياسي لبراءات الاختراع. بينما لا تعكس النسبة المئوية لبراءات الاختراع في مجال البيئة مقارنة ببراءات الاختراع في كافة المجالات ككل. وعند التعرض لهذه النسبة أو ما يسمى بالمؤشر النسبي لبراءات الاختراع في مجال حماية البيئة يتم التوصل إلى نتائج مختلفة تماماً فيما يتعلق بمراكز الدول الرائدة؛ إذ تأتي ألمانيا في مقدمة الدول، فبالمقارنة مع الدول الأخرى التي لديها أعداد عالية من طلبات براءات الاختراع في مجال التكنولوجيا البيئية، ولاسيما الولايات المتحدة، واليابان، وكوريا، والصين، تمتلك ألمانيا نسباً عالية جداً من المؤشر النسبي لبراءات الاختراع (20%) في مجال حماية البيئة.

 مع ذلك، لا تُعد ألمانيا من الدول الأكثر تخصصاً في التكنولوجيا البيئية؛ إذ تأتي دول أخرى أكثر تخصصاً في المقدمة كالدنمارك، وإسبانيا، وأستراليا، والنرويج، وقد زادت نسبة تخصص الاتحاد الأوروبي كمنطقة اقتصادية عالمية مهمة في مجال التكنولوجيا البيئية بصفة مستمرة منذ عام 2006، وفي الفترة الأخيرة من 2016 إلى 2020 كان التخصص في الاتحاد الأوروبي أكثر وضوحاً منه في ألمانيا.

الصعود الألماني الابتكاري:  

توصل التقرير إلى اعتبار ألمانيا من أهم الفاعلين الرئيسيين في مجال البحث والتطوير؛ إذ تجاوزت النسب المخصصة للإنفاق 3.4%؛ أي أكثر من متوسط إنفاق الدول في الاتحاد الأوروبي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، بيد أنها يجب أن تواصل جهودها لتحقيق الأهداف المرجوة ولمنافسة الفاعلين الكبار كالولايات المتحدة واليابان والصين. وبالنسبة لأعداد طلبات براءات الاختراع تُعد ألمانيا من الدول الرائدة عالمياً؛ إذ تحتل المركز الرابع عالمياً مسبوقة بالدول ذات الإسهامات العملاقة في المجال، الولايات المتحدة الأمريكية واليابان والصين.

وتتفوق ألمانيا في أعداد براءات الاختراع الموجهة نحو الحماية المناخية، ولكن مع مواجهة بعض القصور في مجالي إدارة المياه وإدارة النفايات. وفي مجال الاقتصاد الدائري تتمتع ألمانيا بميزة تنافسية في تخصص إعادة التدوير للمعادن، فهي تمتلك أعلى نسبة عالمية من نسب براءات الاختراع في المجال 18%، وقد حققت أيضاً تقدماً ملحوظاً في عدد براءات الاختراع في مجال إعادة تدوير البلاستيك؛ استجابة لاستراتيجية الاتحاد الأوروبي للبلاستيك.

ختاماً، لا يتسم السباق الابتكاري في مجال حماية البيئة بالتوازن بين الفاعلين الدوليين الكبار؛ إذ توجد بالفعل أقطاب رائدة في المجال، ولكن وفقاً لديناميكية المنافسة لا يمكن ضمان الاستمرار في الحفاظ على الصدارة؛ ما لم تزد الجهود في مجالي البحث والتطوير وبراءات الاختراع وتوجيهها نحو خدمة الأهداف البيئية والطاقوية؛ الأمر الذي يعني أن الظفر بالصدارة الابتكارية سيظل تحدياً دائماً لألمانيا وكل الدول جمعاء. 

المصدر:

Umweltbundesamt, Innovationsmotor Umweltschutz: Forschung und Patente in Deutschland und im internationalen Vergleich‏, Umweltbundesamt, April, 2024.