أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

عوائق التمدد:

مرتكزات النفوذ الصيني المتصاعد في شمال إفريقيا

17 أكتوبر، 2019


عرض: جهاد عمر الخطيب-  باحث مساعد بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

يؤكِّد الرئيس الصيني "شي جين بينغ" باستمرار على التزام سياسة بلاده الخارجية تجاه القارة الإفريقية بـ"اللاءات الخمس"، وهي: لا تدخُّل في أساليب التنمية للدول، ولا تدخُّل في شئونها الداخلية، ولا فرض لإرادة الصين، ولا ربط للمساعدات بأي شروط سياسية، ولا سعي لتحقيق مكاسب سياسية أنانية. وقد مثَّل هذا الخطاب السياسي عنصر جذب للدول الإفريقية، وفي القلب منها دول إقليم شمال إفريقيا، مما مهَّد الطريق أمام نفوذ صيني آخذ في التصاعد داخله. 

يستند النفوذ الصيني في القارة الإفريقية إلى مقاربة تستند على الجمع بين قوتها الاقتصادية الصاعدة وشراكاتها التجارية، والعمل على زيادة مبيعات الأسلحة لدولها على نحو يجعل من ترسيخه خلال السنوات القادمة أمرًا تحذِّر منه بعض المراكز البحثية الأمريكية والأوروبية على اعتبار أنَّ "فك الارتباط" مع دول منطقة الشرق الأوسط قد أفضى في أحد تداعياته المباشرة إلى فتح المجال واسعًا أمام القوى الدولية الصاعدة، وفي مقدمتها الصين، كي تملأه، سيما وأن مصالحها تتناقض مع المصالح التقليدية الأمريكية والأوروبية في المنطقة.

وفي هذا السياق، يسلِّط موجز السياسات الصادر عن معهد بروكنجز في سبتمبر المنقضي تحت عنوان "الصين تنادي: تقييم النفوذ الصيني المتنامي في شمال إفريقيا"، والذي جرى إعداده من قِبل الزميل في برنامج السياسة الخارجية بالمعهد "عادل عبدالغفار" والباحثة المساعدة الأولى بالمركز "آنا جاكوبس"، الضوء على مرتكزات القوة الناعمة والصلبة الصينية في دول شمال إفريقيا، فضلًا عن رصد العقبات التي تقف حجر عثرة أمام تعزيز التعاون بين الجانبيْن، وآليات مجابهتها.

منظور براجماتي:

ارتأت الورقة أنَّ الخبرة التاريخية المشتركة والمتمثِّلة في وقوع الصين ودول شمال إفريقيا تحت نير الاستعمار الأجنبي قد اضطلعت بدور مهم في توطئة العلاقات بين الجانبيْن اللذين تبادلا الدعم الأيديولوجي المستند على قاعدة أساسية ألا وهي حق شعوب دول العالم الثالث في تقرير مصيرها ونيْل استقلالها، وكانت أولى تجلِّياته في الدعم الصيني لحركات التحرُّر الوطني في دول شمال إفريقيا. 

قدَّمت الورقة أبرز الأمثلة على هذا الدعم الأيديولوجي المتبادل بين الصين ودول شمال إفريقيا. ومنها دعم بكين لكفاح الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي. ولم يكن هذا الدعم أيديولوجيًّا فقط بل تُرْجِم إلى دعم عسكري ودبلوماسي؛ فكانت الصين أول دولة غير عربية تعترف باستقلال الجزائر.

بيْدَ أنَّ هذه المثالية أو الرومانسية الثورية التي كانت سمتًا غالبًا على السياسة الخارجية الصينية إزاء دول شمال إفريقيا تحوَّلت في أواخر القرن المنقضي إلى منظور براجماتي محض تحركِّه الاعتبارات والمصالح الاقتصادية والاستراتيجية. وكان السياق الدولي في مطلع القرن الحالي محفِّزًا لمنظور صيني أكثر براجماتية إزاء العلاقات مع دول شمال إفريقيا؛ إذ سيطرت حالة من الركود على الاقتصاد الدولي، وشهد العالم في عام 2008 أزمة مالية بدأت في الولايات المتحدة وسرعان ما انتقلت عدواها إلى الدول الأوروبية والدول النامية. 

وفي خضم هذا السياق الاقتصادي المأزوم، لم يتأثَّر الاقتصاد الصيني كثيرًا بتداعيات الأزمة المالية العالمية، وحافظ على معدلات نمو مرتفعة للناتج المحلي الإجمالي، التي وصلت إلى 9.5% في عام 2011. ومن هنا، التفتت دول شمال إفريقيا إلى ضرورة تنويع أسواقها وشركائها الاقتصاديين عوضًا عن الاعتماد التقليدي على التجارة والاستثمار القادميْن من الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا. وقد أفضى هذا المُدرَك إلى تعميق التعاون الاقتصادي بين دول شمال إفريقيا والصين.

لم تكتفِ الصين بالظروف الاقتصادية الدولية الداعمة لشراكات اقتصادية مع دول شمال إفريقيا، بل أطلقت في عام 2013 مبادرة "حزام واحد.. طريق واحد" لتصبح هدفًا رئيسًا تدور في فَلَكِه جُلّ تحرُّكات سياستها الخارجية في عهد الرئيس "تشي جين بينج".

وبحسب التقديرات التي جرى تضمينها في الورقة، تبلغ تكلفة المبادرة قرابة التريليون دولار، وتشمل ما يربو على 80 دولة بما يشكِّل نحو 36% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وقد انتهجت الصين مقاربة دبلوماسية الشراكة لحشد دعم دول الشمال الإفريقي، ومن ثم إضفاء ثقل سياسي واقتصادي على مبادرة "الحزام والطريق".

وفي هذا الصدد، دشَّنت الصين شراكات استراتيجية شاملة مع عدد من دول شمال إفريقيا، شملت عشرات مذكرات التفاهم، وتعهُّدات صينية بمنح تلك الدول قروضًا إنمائية واستثمارات في البنى التحتية في إطار المبادرة.

مرتكزات النفوذ:

ألقت الورقة، في قسم كبير منها، الضوء على توظيف الصين نفوذها الاقتصادي والعسكري الصاعد في استراتيجية متكاملة تحكم تحرُّكات سياستها الخارجية الرامية إلى توطين نفوذها في إقليم شمال إفريقيا.

وفيما يلي أبرز مرتكزات النفوذ الصيني في شمال إفريقيا:

أولًا- القوة الناعمة الصينية:

ترى الورقة أنَّ مظاهر القوة الناعمة الصينية، وإنْ كانت في غالبيتها ذات طبيعة اقتصادية، إلا أنَّ بكين استطاعت أنْ تقدِّم نموذجًا فريدًا لنفوذ اقتصادي "ناعم" يعتمد على الدبلوماسية الاقتصادية كمقاربة تُغَلِّب الجزرة على العصا، بمعنى تغليب المكافأة والمنح على العقاب. 

يعتمد الجانب التجاري للنفوذ الصيني في شمال إفريقيا على الشرعية المتنامية للنموذج التنموي الذي تتبنَّاه بكين، وهو نموذج يقوم على مبدأ "عدم التدخُّل" على عكس النموذج الغربي الليبرالي الذي يجعل من القيم الديمقراطية والمبادئ الليبرالية ذريعة لشرعنة التدخُّل في الشئون الداخلية لدول الإقليم والمنطقة بأكملها. 

وقد سلَّطت الورقة الضوء على ثلاثة مظاهر للقوة الناعمة الصينية في دول شمال إفريقيا، هي على النحو التالي:

١- التجارة: إذ تعزِّز الصين تبادلاتها التجارية مع دول شمال إفريقيا. وفي هذا المقام، أشارت الورقة إلى حجم المبادلات التجارية بين الجانبيْن. فعلى سبيل المثال، غدت بكين أكبر شريك تجاري للجزائر، متجاوزة بذلك فرنسا في عام 2013. وأضحت مصدر الجزائر الأول من الواردات التي بلغت قيمتها نحو 7.85 مليارات دولار في عام 2018.

٢- الاستثمار والبنى التحتية: تكثِّف الشركات الصينية نشاطاتها في الجزائر، على سبيل المثال، في قطاعات الطاقة والإسكان والتشييد. فثمة مشروعات عدة دُشِّنت باستثمارات صينية، منها: أوبرا الجزائر، وجامع الجزائر، وفندق شيراتون، وغيرها.

٣- حركة الأفراد: لا تكتفي بكين بتدشين وتمويل المشروعات في دول شمال إفريقيا، إذ تعمل أيضًا على دعم التبادلات على مستوى الأفراد. ويُقْصد بهذه التبادلات تعزيز معدلات انتقال الأفراد للعمل والسياحة والدراسة أو غيرها من الأغراض، وكلها تعزِّز التبادل الثقافي بين الصين ودول شمال إفريقيا. فالجزائر، على سبيل المثال، تستضيف ما يربو على 50 ألف عامل صيني. كما تنامت أعداد السائحين الصينيين إلى عدد من دول شمال إفريقيا، ناهيك عن انتشار المعاهد والمراكز الثقافية الصينية في هذه الدول.

ثانيًا- القوة الصلبة:

أفسح النفوذ الاقتصادي الصيني، الآخذ في التصاعد، المجال واسعًا أمام تعميق التعاون الأمني والعسكري مع دول شمال إفريقيا. وبحسب التقديرات التي أوردها مشروع "قوة الصين"، الذي أطلقه مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، تمثِّل الدول الإفريقية الوجهة الأولى والرئيسية للأسلحة الصينية. وتمثِّل صادرات الأسلحة حوالي 42% من إجمالي الصادرات الصينية إلى القارة الإفريقية.

عقبات على الطريق:

رغم نبرة التفاؤل التي سيطرت على الورقة في معرض حديثها عن النجاح الذي حقَّقته الصين في تعضيد نفوذها بدول شمال إفريقيا، إلا أنَّ الباحثَيْن رصدا ثلاث عقبات تقف أمام تعزيز التعاون بين الجانبيْن، هي: 

أولًا- "دبلوماسية الديون" أو "الاستعمار الجديد" التي تنتهجها الصين في تعاملها مع دول العالم الثالث في جنوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. وقد اعْتُبرت دول مثل باكستان وسريلانكا والإكوادور بمثابة نماذج بارزة على أزمة الديون الصينية والمشروعات الفاشلة. ودلَّلت الورقة على ذلك بسد كوكا كودر سينكلير الذي شُيِّد بالإكوادور بقرض صيني بلغت قيمته 19 مليار دولار، حيث واجه إشكاليات تشغيلية هيكلية قبيْل افتتاحه كنتاج لغياب الاهتمام بإجراء دراسات حول تأثيراته البيئية قبل البدء في تدشينه. 

وتضمنت الورقة تحذيرات من تنامي أزمة الديون الصينية في شمال إفريقيا. ففي تقرير حول "دين مبادرة الحزام والطريق لعام 2018"، حذَّر باحثو مركز التنمية العالمية من أزمة الديون الصينية الكارثية في ثماني دول، هي: جيبوتي، وطاجيكستان، وقيرغيزستان، ولاوس، والمالديف، ومانغوليا، وباكستان، ومنتينيجرو.  

ثانيًا- أزمة الشفافية وفضائح الفساد التي تضر بسمعة الشركات الصينية العاملة في مجال البناء والتشييد. وتلقي الورقة الضوء على الاتهامات التي وُجِّهت إلى شركة بناء السكك الحديدية الصينية CRCC في الجزائر، وذلك لإحجامها عن دفع رواتب تقدَّر قيمتها بحوالي 4.4 ملايين دولار.

ثالثًا- تحدِّيات ممارسة أنشطة الأعمال، إذ أبدى المسئولون الصينيون قلقًا متزايدًا إزاء الإجراءات الروتينية في بعض دول شمال إفريقيا، التي تعطِّل من سير الأعمال وتدفُّق الاستثمارات، رغم بعض الخطوات الجيدة على طريق تحسين المناخ الاستثماري.

وقد اخْتُتِمت الورقة بتقديم توصيات للتغلُّب على العقبات سالفة الذكر تتلخص في ضرورة أنْ تتسم المفاوضات مع الجانب الصيني بشأن الحصول على قروض إنمائية أو تمويل المشروعات في مجال البنية التحتية أو غيره بقدر كبير من الشفافية لتجنُّب تكرار فضائح الفساد التي تضر بسمعة العديد من الشركات الصينية. بالإضافة إلى ضرورة تفعيل دور التجمعات والتكتلات الإقليمية، كإحياء اتحاد المغرب العربي، على سبيل المثال، لتجنُّب التعامل مع بكين بشكل فردي؛ فهذا التكتل من شأنه إضفاء ثقل سياسي لدول شمال إفريقيا أثناء عملية التفاوض.

وفي الأخير، أكَّدت الورقة ضرورة أنْ يعي صانعو القرار في الولايات المتحدة وغرب أوروبا أنَّ الفراغ الذي خلَّفه انسحابهم من منطقة الشمال الإفريقي تملؤه القوى الصاعدة، وفي مقدمتها الصين لتبنيها نموذجًا للشراكة يقوم على مبدأ "الربح للجميع" دون مشروطية سياسية، وكذلك التخلي عن النموذج الفوقي الذي يُميِّز السياسة الخارجية الغربية إزاء دول العالم النامي بصفة عامة، مع التمسك بعدم التدخُّل في الشئون الداخلية. ولكن هناك بعض التحليلات ترى أن هذا مجرد خطاب سياسي دعائي قد يتغيَّر بمرور الوقت.

وتنتهي الورقة إلى القول بأنَّه رغم ما أقامته الصين من روابط سياسية وشراكات اقتصادية مع دول شمال إفريقيا، إلا أنَّها لم تترسَّخ بعد، لكن الظروف تظل مواتية لتوطئة وتعميق تلك الروابط مستقبلًا.

المصدر:

Adel Abdel Ghafar and Anna L. Jacobs, “Beijing calling: Assessing China’s growing footprint in North Africa”, Brookings Institution September 2019.