تحرير راوة، آخر بلدة عراقية مهمة كان يُسيطر عليها تنظيم «داعش»، في 17 الشهر الجاري، يبشّر بانتهاء مرحلة بالغة الخطورة في تاريخ بلدٍ عاش ثلاث حروب مدمّرة كبرى منذ عام 1980 وصراعات مسلّحة لا تتوقّف. ولكن بدلاً من تدشين مرحلة جديدة من السلم والاستقرار، يواجه العراق صراعاً أكثر تعقيداً وربما مصيرياً. فعلى مدار ثلاث سنوات، منذ الصعود المثير لتنظيم «داعش» واستيلائه على مدينة الموصل في شمال البلاد، أخفَت الحملة العسكرية لدحره التحديات الكبرى الثلاثة التي تهدّد حقيقةً تماسك وسلامة الدولة العراقية من داخلها.
أول هذه التحديات هو الواقع البالغ الإشكالية للمؤسسات الرئيسية للدولة، التي تعاني من معدّلات مرتفعة من الفساد والفئوية السياسية، وتُثبِت تكراراً عجزها الوظيفي. وقد ظهر ذلك جليّاً في الانهيار المفاجئ للقوات المسلحة الذي سمح لعدد صغير من مقاتلي «داعش» الدولة بالاستيلاء على الموصل في حزيران (يونيو) 2014، بيد أن عيوباً مشابهة تُصيب أجهزة قطاع الأمن التابعة لوزارة الداخلية، كما أن استخدام رئيس الوزراء السابق نوري المالكي القوات المسلحة ووحدات مكافحة الإرهاب كرأس حربة للتدخل في الحكم المحلّي وللإطاحة بمجالس إدارة محافظات عدّة، زاد من تقويض عمل مؤسسات الدولة. فالخطوات العلاجية التي قادتها الولايات المتحدة منذ عام 2014 لإعادة بناء وتدريب الجيش العراقي تركّزت على وحدات نخبة مختارة فحسب، ولم يكن لها تأثير في تحقيق تحوُّل جذري في قطاعي الدفاع والأمن الداخلي، ولا على إصلاح نمط العلاقات العسكرية- المدنية التي تثبت أضرارها في عهد المالكي.
أما التحدي الرئيسي الثاني الذي يواجه العراق، فهو الفشل المستمر لمؤسسات الدولة المعنية، وللطبقة السياسية المسؤولة عن إدارة الهيئات التنفيذية والتشريعية العليا، في توفير المنافع والخدمات العامة الأساسية. تتأثر بذلك شرائح وأطياف المجتمع العراقي كافة. بل إن أسوأ معدّلات الفقر المدقع والبطالة هي في المحافظات الثلاث ذات الأكثرية الشيعية الواقعة جنوب بغداد، على رغم النظرة الرائجة التي ترى أن العراق تحكمه حكومة شيعية. وبحسب خبراء اقتصاديين ونواب برلمانيين، لم يتم بناء مستشفى واحد ولا محطة توليد كهرباء واحدة بين عامي 2003 و2013، على رغم إنفاق 500 بليون دولار من الأموال العامة، كما يؤكد أرفع المسؤولين الماليين والنفطيين في البلاد أن مبلغ 300 بليون دولار تم صرفه إلى المتعهدين والمقاولين لقاء مشاريع لم يُنجَز واحد منها. وعلى القدر نفسه من الخطورة، أخفقت الحكومة تماماً، باستثناءات قليلة، في دعم القطاع الخاص وتطويره وتنويع الاقتصاد، بل حقّقت تراجعاً في ما يخص التقليل من اعتماد خزينة الدولة الشديد على الريع النفطي.
أخيراً وليس آخراً، يواجه العراق تحدي تحقيق المصالحة السياسية الحقيقية بين أطياف المجتمع، ما يصيب العديد من المعلّقين بالإشارة إليه. غير أن التركيز الشائع على مصالحة العرب السنّة من المواطنين وإعادة دمجهم في إطار دولة مركزية تديرها حكومة لا يثقون بها، يحول دون ملاحظة أن الشروخ والانقسامات داخل كل طيف لا تقلّ عمقاً وتشكّل تهديداً لا يقلّ أهميةً لجدوى العراق كدولة قطرية وطنية. فالخلافات السياسية بين العرب السنّة أو بين العرب الشيعة محتدّة بالقدر نفسه في ما بينهما، في ما يتعلق بالطبيعة والهوية المنشودة للدولة: هل تكون إسلامية أم علمانية، وحدوية أم فيديرالية، أقرب إلى إيران أم إلى الدول العربية الأخرى، أم على الحياد. ويمكن القول إن العراق عاد إلى الترابط المقوّض للاستقرار بين تحالفاته الإقليمية واصطفافاته الداخلية، والذي اتّسمت به حياته السياسية المضطربة حتى عام 1970. ويزيد من الأخطار احتمال عودة الخصومة المكشوفة بين حكومتي بغداد وإقليم كردستان، وفتح الباب أمام المزيد من التدخلات الخارجية.
لقد ساهمت هذه المشكلات مجتمعة في نشوء وصعود تنظيم «داعش»، كما لاحظ الكثيرون، ولكنها تتجاوز بكثير «المسألة السنّية» في العراق. بيد أن كافة المحاولات لطرح تلك التحديات على بساط البحث والمعالجة الفعلية باءت بالفشل منذ البدء أمام المقاومة المُتَمَتْرِسة من داخل الحكومة المركزية والبرلمان– على رغم تبنّيهما رسمياً خطة الإصلاح التي أعلن عنها رئيس الوزراء حيدر العبادي في عام 2015– ومن قبل الأحزاب السياسية المؤثّرة والميليشيات المتنفِّذة وجماعات المصالح المبطّنة في مؤسسات الدولة الرئيسية. «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»: بات ذلك الشعار الذي استخدمه الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر لتعبئة الدعم العربي أثناء حرب الاستنزاف ضدّ إسرائيل بين 1968 و1970، ذريعة تمّ اللجوء إليها في أعقاب سقوط الموصل بيد تنظيم «داعش» في عام 2014 لصرف الأنظار عن التحديّات المحدقة بالدولة العراقية.
الأهم من معركة الموصل، إذن، هي المعركة المقبلة لحسم مسألة السلطة في بغداد، مركز الدولة. إذ لا يزال الخطر الذي يشكّله تنظيم «داعش» أو جماعات عربية سنّية أخرى ماثلاً، فقد وقع 1500 هجوم مسلح تقريباً في 16 مدينة في العراق وسورية في الفترة بين تحرير المدينة وشهر نيسان (أبريل) الماضي. إلا أن العواقب الأخطر على المدى الأبعد هي تلك التي ستنتج من الصراع بين الفصائل السياسية التي يغلب عليها الطابع الشيعي، خصوصاً أنه سيدور داخل المؤسسات السيادية للدولة وللسيطرة عليها. ويجسِّد تشريع هيئة «الحشد الشعبي» بقانون صادر عن البرلمان في تشرين الثاني (نوفمبر) 2016، الذي حوّلها إلى جزء من القوّات المسلحة، نموذجاً في مقدّمة ذلك المسار.
قد لا يتحوّل ذلك الصراع إلى العنف، ولكن لا يمكن إنكار أخطار ذلك الاحتمال. فالعنف بات نمطاً ووسيلة لخوض السياسة في العراق، كما في بلدان عربية عدّة، إن لم يكن شكلها الأهم. وفي أقل تقدير، بات امتلاك سبل العنف والقوة المنظَّمة هو الشرط الضروري لدخول الميدان السياسي، ما يسمح للجماعات المسلحة الأصغر حجماً بالتنافس مع الأحزاب السياسية الأكبر بكثير واللوائح الانتخابية التي حصلت على أكبر النسب من أصوات المقترعين سابقاً، بل وحتى تهميشها. ومع تمثيل ميليشيات عدّة في البرلمان الحالي، فإن عَسْكَرَة السياسة– والتي تتعزَّز بسبب عودة أخطار نشوب النزاع حول الحدود المستقبلية لإقليم كردستان وداخل مناطق الحكم الذاتي– قد تنعكس بزيادة نفوذها في أعقاب الانتخابات العامة المزمع إجراؤها في أيار (مايو) 2018. لن يكرِّر التاريخ نفسه، ولكن نمط الصراعات الفئوية التي شلّت الجيش العراقي وأدّت إلى عدّة انقلابات عسكرية في الخمسينات والستينات من القرن الفائت قد انتشر الآن في أرجاء جهاز الدولة وصار سمة عامة.
في نهاية المطاف، فإن تعدُّد التنافسات السياسية وميوعة التحالفات التي يشهدها العراق حالياً قد يقلِّلان من خطر اندلاع النزاع المسلح. ويمكن أيضاً أن تساهم جهود القوى الخارجية، وبخاصة الولايات المتحدة والدول الرئيسية في مجلس التعاون الخليجي وتركيا وحتى إيران– وإن لأسباب متباينة تماماً– في احتواء الأزمة. بيد أنه حتى في حال تجنّب العنف الشامل، فإن الاستقطاب السياسي الحاد يجعل الإصلاحات الضرورية– في المجالات الإدارية والاقتصادية والسياسية– صعبة الإنجاز، إن لم نقل مستحيلة. وفي غيابها، سيظلّ العراق في الطريق المسدود الخانق، غير قادر على توفير الحوكمة الفاعلة ولا التنمية، وبالتالي غير مستقر وغير آمن.
*نقلا عن صحيفة الحياة