لم يكن إعلان الرئيس مسعود بارزانى رئيس إقليم كردستان العراق إجراء استفتاء حول استقلال الإقليم يوم 25 سبتمبر الحالى هو الأول، فقد سبق له أن أعلن الترتيب لإجراء مثل هذا الاستفتاء عده مرات، كان آخرها عام 2014 ولكنه لأسباب مختلفة لم يجر، وجاء إعلانه الأخير ليطرح من جديد القضية الكردية فى العراق، والعلاقة بين الحكومة المركزية فى بغداد، ورئاسة الإقليم فى أربيل، وكذلك قضية المناطق المتنازع عليها بين الطرفين، وهى المناطق التى يطالب الكرد بضمها للإقليم وتأكيد البارزانى أن الاستفتاء سوف يتضمنها. والسؤال هنا، لماذا الآن جاء إعلان السيد/ مسعود بارزانى الاستفتاء وأهدافه؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تتطلب النظر فى العلاقة بين بغداد وأربيل منذ بداية الاحتلال الأمريكى للعراق، وإسقاط النظام العراقى السابق وصيغة التحالف، خاصة الشيعى الكردي، الذى أسهم فى ذلك ونجح فى صياغة وثائق النظام السياسى الجديد، خاصة الدستور العراقى الدائم والذى أقر فيدرالية الدولة العراقية.
وقد نجح الكرد فى تضمين الدستور العراقى ما يخدم مصالحهم كقومية وأقرت لهم الأطراف السياسية العراقية ذلك. ورغم ذلك ظلت العلاقة بين بغداد وأربيل مرتبكة طوال السنوات الماضية، خاصة أن القيادات الكردية تريد استثمار ما أقرته لها تلك المواثيق فى تثبيت مصالحها والانطلاق لتحقيق مزيد من المكاسب وصولاً إلى الدولة الكردية المستقلة، وبغداد تناور وتساوم دون حسم لقضايا الخلاف التى من أهمها تطبيق المادة 58 والمادة 140 من الدستور العراقى وكلاهما يتعلقان بالمناطق المتنازع عليها، خاصة محافظة كركوك البترولية، ومناطق فى محافظات نينوى وصلاح الدين وغيرها وتتضمن إجراءً وتعدادا سكانيا ثم استفتاء لسكانها إما بالانضمام إلى إقليم كردستان أو البقاء خارجه، ولم تُفعل المادتان وتم تأجيل ذلك منذ عام 2007 حتى الآن وهو الأمر الذى يستند إليه الأكراد فى عدم تنفيذ الحكومة العراقية التزاماتها الدستورية تجاههم، وفى الحقيقة فإن الموقف الكردى على هذا المستوى والذى بدا مهادناً إلى حد كبير ترافق مع إجراءات لتثبيت النفوذ داخل تلك المناطق وإعادة تسكين آلاف العائلات وهو ما غير من الواقع الديموغرافى حسب بعض المراقبين فى تلك المناطق.
وارتبط توقيت إعلان الاستفتاء كذلك بوجود استياء شعبى كبير لدى سكان الإقليم من تعامل الحكومة المركزية معهم وصعوبة الحياة الاقتصادية المترتبة على ذلك والامتناع عن سداد رواتب المتقاعدين وقوات البشمرجة العسكرية، وزاد من ذلك الأداء السييء لحكومة السيد المالكى رئيس الوزراء السابق والذى أفرز مناخاً مذهبياً غير مسبوق فى العراق وأثر سلبياً على صيغة التحالف الشيعى الكردى. ورغم إجراء بعض الحوارات بين مسئولين أكراد ومسئولين فى الحكومة العراقية، فإن سقف هذا الحوار ظل محكوماً بنوع من الاحتقان والتوتر دون تقديم بدائل قابلة للنقاش. كما أن توقيت الإعلان قد ارتبط بعوامل داخلية فى إقليم كردستان أدركتها الحكومة المركزية فى بغداد وتراهن عليها لمنع هذا الاستفتاء ومن أهم هذه العوامل، رفض قوى وأحزاب كوردية مؤثرة لتوقيت الاستفتاء ومطالبتها بحل الأزمة السياسية فى الإقليم كأولوية وتفعيل المؤسسات الدستورية والحد من ديكتاتورية رئيس الإقليم المنتهية ولايته، كما أدركت الحكومة فى بغداد أن إعلان السيد/ بارزانى ارتبط فى جانب منه بالمزايدة على أكراد سوريا (المرتبطين بعبدالله أوجلان) والذين حققوا مكاسب عسكرية وسياسية بمساندة أمريكية تؤثر سلبياً على طموحه للزعامة الكردية ويسحبون من رصيده، كما تُدرك كذلك أن الواقع والبيئة الإقليمية ليست مواتية لانفصال الإقليم حاليا.
الواضح إذن أن هناك أسباباً داخلية وأزمة كبيرة فى إقليم كردستان دفعت السيد/ مسعود بارزانى لإعلان الاستفتاء للقفز على هذه الأزمة وتحقيق مكاسب تستعيد له ولحزبه نفوذاً على حساب القوى السياسية الأخري. وفى التقدير، أن الأزمة الكردية بأبعادها الحالية تشير إلى عدد من الحقائق التى يتعين على الحريصين على دولة العراق والاستقرار فى المنطقة الاهتمام بها خاصة:
أنه من الضرورى أن تُولى الحكومة العراقية قضية المواطنة أولوية وأهمية على حساب الطرح المذهبى وأن يكون لمقتضيات الشراكة تقدير أكبر فى إطار الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان.
أن حلم إقامة الدولة الكردية المستقلة سوف يبقى قائماً وقد عبر عن ذلك بوضوح السيد/ جلال طالبانى شفاه الله فى لقاء شرفت به معه عام 2004 حيث قال إن الظروف الإقليمية والدولية لن تسمح لنا بإقامة الدولة الكردية المستقلة حالياً ونحن ندرك ذلك ونخشى من تجربة سابقة يمكن أن تجهض هذا الحلم لكن سوف نسعى لتوفير البنية الأساسية لهذه الدولة وعلى الأجيال القادمة استثمار ذلك لإقامة هذه الدولة.
أن هناك مواد فى الدستور العراقى سوف تكون مجالاً للنزاع خاصة المادة 140 الخاصة بالمناطق المتنازع عليها, وسوف تكون مجالاً للتجاذب خلال الفترة المقبلة. وبصفة عامة يمكن القول إن الطرف الكردى والسيد/ مسعود بارزانى بالتحديد قد استهدف من مبادرته بإعلان الاستفتاء محاولة الالتفاف على الأزمة الداخلية فى الإقليم، وتحقيق أكبر قدر من المكاسب من الحكومة المركزية. ولا شك أن هناك مؤشرات كبيرة على عدم إجراء الاستفتاء فى موعده رغم التأكيدات الكردية، وسوف يرتبط التأجيل المتوقع لهذا الاستفتاء، بالاستناد إلى تأكيدات أطراف إقليمية ودولية، لتفهم المطالب الكردية فى مراحل مقبلة وللتفرغ لإنهاء المعارك مع تنظيم داعش خاصة فى مناطق التماس مع الإقليم. من ناحية أخرى فرغم تصاعد نغمة متشددة فى تصريحات رئيس الحكومة العراقية تجاه الموقف الكردى والتهديد بالتدخل العسكرى عند الضرورة، فإن مثل هذه التصريحات سوف تبقى فى إطار تسجيل المواقف للاستهلاك المحلى والمزايدة بين الأحزاب والقيادات خاصة الشيعية المتنافسة، ومع توقع توجه هذه الأزمة نحو المهادنة والتأجيل، إلا أنه من الواضح أن الجانب الكردى سوف يربط استجابته لمطالب الدول والأطراف المعنية بالأزمة بتحقيق مكاسب فيما يتعلق بقضايا محددة فى علاقته بالحكومة المركزية, وعلى رأسها المناطق المتنازع عليها، والميزانية المخصصة للإقليم خاصة أن قوات البشمرجة (القوات العسكرية الكردية) تتمركز وتنتشر فى معظم هذه المناطق ويصعب مغادرتها حالياً دون تحقيق مكاسب قومية كانت تسعى لتحقيقها منذ سنوات، الأمر الذى يُنذر بنوع من المواجهة والتوتر، خاصة مع فصائل وقوات الحشد الشعبى الشيعية ذات الارتباط بإيران والتى تمثل نوعاً من الكيان المستقل داخل الجيش العراقي، وتنتشر فى مناطق تماس مع القوات العسكرية الكردية.
هكذا نرى أن إعلان الاستفتاء لم يخلق أزمة سياسية فى العراق بقدر ما كشف عن عمق الأزمة التى يعانيها العراق وانعكاس ذلك على مستقبل الدولة العراقية، ورغم أن موقف الأطراف الإقليمية خاصة إيران وتركيا سوف يبقى عاملاً حاسماً فى تهدئة تلك الأزمة أو تصعيدها، إلا أن العراق والمشكلة الكردية سوف يبقى مجالاً لتنافس تلك الأطراف وتحقيق مصالحها التى بالضرورة ستكون على حساب الدولة العراقية، المهم أن كل ذلك يجرى فى غياب دور إيجابى عربى.
*نقلا عن صحيفة الأهرام