عرض: دينا محمود
يشكِّل الصراع الروسي الأوكراني نقطة تحول جيوسياسية في إعادة تشكيل تدفقات الطاقة في منطقة البحر الأسود، خاصة في ظل العقوبات الاقتصادية المتبادلة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، فبينما فرض الأول عقوبات اقتصادية وتجارية على موسكو لعرقلة مجهودها الحربي، لجأت الثانية إلى عقوبات مضادة على قطاع الغاز الأوروبي. ومع ذلك فإن العديد من التبادلات التجارية ما زالت مستمرة؛ إذ توظف روسيا الثغرات التشريعية في نظام العقوبات وتستمر في تصدير المواد الخام إلى الدول الأوروبية، واستيراد السلع من دول الاتحاد الأوروبي، ولاسيما ألمانيا.
من هنا، تأتي أهمية التقرير الصادر عن مرصد أمن تدفقات الطاقة والمواد (OSFME) في إبريل 2024، لدراسة التأثير الاقتصادي للصراع الروسي الأوكراني في إعادة تشكيل تدفقات الطاقة والتجارة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا خاصة في منطقة البحر الأسود؛ إذ يناقش مشروعات تنويع مصادر تدفقات الطاقة إلى البلدان الأوروبية من أجل تعويض العجز في واردات النفط والغاز الروسية، كما يتناول استراتيجية روسيا في التحايل على العقوبات الأوروبية؛ بإيجاد حلول وطرق بديلة لتصدير المواد الخام من خلال الرهان على دور تركيا البارز كمركز طاقة إقليمي، ويختتم التقرير بطرح المخاطر التي قد تؤثر في عمليات استخراج الغاز من الحقول البحرية المكتشفة حديثاً قبالة سواحل أوكرانيا وبلغاريا ورومانيا وتركيا، خاصة "حقل نبتون ديب".
إعادة توجيه تدفقات الطاقة:
1- مكانة البحر الأسود في التجارة الأوروبية الروسية (قبل 2022): يشكل البحر الأسود إحدى مفترقات الطرق الاستراتيجية الرئيسية للقارة الأوراسية، بين أوروبا والبلقان وروسيا والقوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط، ويمثل بؤرة تتعايش فيها القوى الكبرى والمتوسطة ذات الطموحات الجيوسياسية المتنافسة كروسيا وتركيا، فقد تعززت العلاقات بين أنقرة وموسكو في السنوات الأخيرة، على الرغم من التوترات القوية الناجمة بشكلٍ خاص عن خلافاتهما بشأن الأزمات الجيوسياسية الإقليمية.
وأدت التوترات الجيوسياسية الناجمة عن الأزمات الروسية الأوكرانية في الأعوام 2006 و2009 و2014 ثم بداية الحرب في عام 2022، إلى تصاعد وعي الاتحاد الأوروبي باعتماده الشديد في مجال الطاقة على روسيا، وأصبحت قضية أمن الطاقة جوهر اهتمام السياسة الأوروبية. وخلال هذه الفترة، أدى فشل "مشروع نابوكو الأوروبي" إلى إنشاء ممر الغاز لجنوب أوروبا، بقيادة أذربيجان وتركيا وبدعم من الاتحاد الأوروبي؛ ما أتاح الفرصة لتركيا لتصبح منطقة عبور استراتيجية.
وشهدت الفترة ما بين عامي 2000 و2020، تحولاً تدريجياً في مركز عبور الغاز من أوكرانيا، التي استضافت أراضيها حوالي 70% من عبور الغاز الروسي إلى الاتحاد الأوروبي في بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، نحو تركيا؛ إذ تم بناء خطوط الأنابيب (BTC، BTE، Blue Steam، TANAP، TurkStream) على أراضيها في غضون 20 عاماً. ومن هنا، أصبحت تركيا في قلب عملية إعادة تشكيل تدفقات الطاقة، وخاصة الغاز نحو أوروبا.
2- استراتيجية الطاقة الأوروبية الجديدة: قبل اندلاع الصراع الروسي الأوكراني في فبراير 2022، كانت موسكو المُورد الرئيسي للطاقة للاتحاد الأوروبي؛ إذ استورد منها الأخير نحو 45% من الغاز و27% من النفط و46% من الفحم في عام 2021. وبلغت قيمة صادرات الطاقة الروسية حوالي 300 مليار يورو، وكانت المَصدر الرئيسي للدخل لموسكو، وبلغ الطلب الإجمالي على الغاز في الاتحاد الأوروبي حوالي 400 مليار متر مكعب سنوياً، منها 150 مليار متر مكعب من روسيا، معظمها عبر خطوط الأنابيب. لكن من أجل تقويض المجهود الحربي الروسي في أوكرانيا، أعلن الاتحاد الأوروبي أنه سيخفض بشكل كبير وارداته من الطاقة من موسكو خلال عام 2022، وأنه سيضع حداً لها بحلول عام 2027، مع فرض حزمة من العقوبات على الواردات من روسيا من النفط والفحم عن طريق البحر.
وبعد مرور عامين على الصراع الروسي الأوكراني، تنوعت مصادر واردات الاتحاد الأوروبي من الطاقة وانخفضت حصة الغاز الروسي بشكلٍ كبير. فخلال عام 2022، انخفضت حصة الواردات الروسية إلى 80 مليار متر مكعب، لتصل إلى 43 مليار متر مكعب في عام 2023، وشهد اعتماد الاتحاد الأوروبي على الغاز الروسي انخفاضاً حاداً من 45% من حصة السوق الأوروبية في عام 2021 إلى 15% في عام 2023. وفي بداية عام 2024، لم يتبق من الطرق الخمسة الرئيسية لإمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا سوى طريقين فقط قيد التشغيل: خط أنابيب الغاز "تُرك ستريم"، الذي يعبر البحر الأسود ليصل إلى تركيا، وخط أنابيب الغاز "فراتيرنيتيه"، الذي يمر عبر أوكرانيا. ولسد العجز في الغاز الروسي، يعمل الاتحاد الأوروبي على تعزيز علاقاته مع شركائه التقليديين، ولاسيما مع النرويج، التي تمثل 30% من واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز في عام 2023، أو مع أذربيجان، التي زادت صادراتها من الغاز إلى الاتحاد الأوروبي بأكثر من 46% منذ عام 2021.
3- الممر الأوسط، مشروع نقل متعدد الوسائط في آسيا الوسطى لتجاوز الشبكات الروسية: إن بلدان جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، الغنية بالهيدروكربونات والمعادن، على غرار اليورانيوم في حالة كازاخستان، هي بلدان غير ساحلية جغرافياً في قلب القارة الأوراسية. ولتصدير مواردها إلى أوروبا، تعتمد البلدان المنتجة على شبكات البنية التحتية التي بنيت خلال الحقبة السوفيتية والتي تمر عبر روسيا.
وفي ظل حزم العقوبات المتعاقبة التي أثرت في الاقتصاد الروسي، ترغب البلدان المصدرة في آسيا الوسطى في تنويع طرق تصديرها وتطوير مشروع ممر آسيا الوسطى، بدعم من الصين والاتحاد الأوروبي، وهو ممر نقل بري وبحري متعدد الوسائط، يسمح بنقل المواد الخام والسلع الاستهلاكية من الصين إلى أوروبا؛ إذ يمتد من ساحل الصين مروراً بكازاخستان إلى ميناء أكتاو على ساحل قزوين في كازاخستان، ويتم نقل البضائع عبر بحر قزوين إلى أذربيجان، ومن هناك، تعبر عبر جنوب القوقاز والبحر الأسود إلى أوروبا. وقد زاد حجم التجارة بين دول آسيا الوسطى والاتحاد الأوروبي بشكل كبير منذ بداية الصراع الروسي الأوكراني. فخلال عام 2022، زاد حجم البضائع العابرة عبر هذا الطريق بمقدار 2.5 مرة ليصل إلى 1.5 مليون طن. ويُفترض أن يصل لحوالي 4 ملايين طن خلال عام 2024، و10 ملايين طن على المدى المتوسط.
ومن خلال دعم هذا المشروع الجيوسياسي الكبير سياسياً واقتصادياً، لا يهدف الاتحاد الأوروبي إلى إعادة إطلاق الروابط البرية مع الصين فحسب، بل يهدف أيضاً إلى تطوير ممر يسمح له بتجاوز الشبكات الروسية من خلال الموانئ؛ بما يتطلب تحديث البنية التحتية للسكك الحديدية والطرق والموانئ من أجل زيادة قدرتها التصديرية. ففي فبراير 2024، أعلنت وزارة الطاقة في كازاخستان التي تعبر أربعة أخماس نفطها الخام الأراضي الروسية عبر اتحاد خط أنابيب بحر قزوين، الذي تملك موسكو 31% منه، أنها تتفاوض مع أذربيجان لزيادة حجم صادراتها من النفط إلى 3 ملايين طن من النفط سنوياً عبر خط أنابيب "باكو-سوبسا".
استراتيجية التحايل الروسية:
1- تركيا كمركز لإعادة تشكيل تدفقات الطاقة: تعمل العقوبات الغربية المفروضة على النفط الخام والمنتجات النفطية الروسية، فضلاً عن الانخفاض الحاد في صادرات الغاز الروسي إلى الاتحاد الأوروبي، على تعزيز الموقع الجغرافي الاستراتيجي لتركيا في مجال الطاقة. ففي عام 2022، سجلت الصادرات الروسية إلى تركيا ارتفاعاً استثنائياً، مدفوعاً بقطاع الطاقة، بنسبة 103.1% مقارنة بعام 2021؛ لتصبح بذلك المُورد الرئيسي لتركيا، متقدمة على الصين.
ويؤكد هذا التطور بعض الاتجاهات الرئيسية التي ظهرت منذ بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وأهمها: تأكيد دور تركيا "كمركز طاقة" إقليمي لموقعها الجيوستراتيجي ودورها المتنامي على الساحتين الإقليمية والدولية. فبالنسبة لعلاقتها مع روسيا، تُعد تركيا شريكاً استراتيجياً في مجال الطاقة ويسمح الصراع الروسي الأوكراني لأنقرة بتعزيز شراكتها الاقتصادية والاستراتيجية مع موسكو من خلال وضع نفسها كوسيط متميز يسمح لروسيا بالتحايل على نظام العقوبات الغربية عبر الأراضي التركية.
ورداً على العقوبات الغربية على النفط الروسي، نفذت روسيا استراتيجية للتحايل على العقوبات الغربية يؤدي فيها البحر الأسود وتركيا دوراً رئيسياً. ويؤثر الحظر النفطي الغربي، الذي دخل حيز التنفيذ في ديسمبر 2022، في ثلثي صادرات النفط الروسية؛ إذ يحدد الحظر سعر البرميل الروسي عند 60 دولاراً ويمنع الشركات الموجودة في الاتحاد الأوروبي ودول مجموعة السبع وأستراليا من تقديم الخدمات اللازمة لنقل النفط عن طريق البحر من روسيا.
في الواقع، يسمح نظام التهرب من العقوبات لروسيا بتصدير كل إنتاجها تقريباً دون أية رقابة بمساعدة تركيا؛ بحكم موقعها الجغرافي؛ وبسبب سيطرتها على مضيقي البوسفور والدردنيل. فمنذ بداية الحرب في أوكرانيا، ضاعفت تركيا كمية النفط الخام المستوردة من روسيا، لتصل إلى مستوى قياسي بلغ 400 ألف برميل يومياً في نوفمبر 2023 (حوالي 14% من شحنات النفط البحرية الروسية). وأصبحت تركيا الوجهة الثالثة لصادرات النفط الخام الروسي بعد الهند والصين والأولى من حيث المنتجات النفطية.
كما تنشر موسكو استراتيجية غاز مقسمة إلى ثلاثة خطوط رئيسية: أولاً: بدءاً من عام 2021، بدأت روسيا في خفض حجم الصادرات إلى الاتحاد الأوروبي؛ ثانياً: منذ بداية غزو أوكرانيا، تزايدت استراتيجية الحد من الصادرات إلى أوروبا، مع الالتزام بدفع ثمن الواردات بالروبل ومواجهة العقوبات الاقتصادية المضادة ضد الغرب، والتي استهدفت قطاع الغاز؛ ثالثاً: برز تسارع بعد الغزو في تنويع موارد الغاز الطبيعي المسال الروسي ووجهات التصدير؛ إذ تتجه روسيا نحو شركاء جدد، أبرزهم الصين.
2- البلقان كمنفذ للغاز الروسي إلى أسواق وسط وشرقي أوروبا: ويهدف مشروع ممر الغاز العمودي في البلقان، الذي بدأ في عام 2016، إلى تطوير تدفقات الغاز الإقليمية ثنائية الاتجاه على طول محور الشمال/ الجنوب. ويتضمن ذلك ربط اليونان بدول أوروبا الشرقية؛ بهدف الحد من سيطرة روسيا على طرق إمدادات الغاز إلى أوروبا، وخلق فرص جديدة للتعاون والمنافسة بين الدول المنتجة للغاز؛ وهذا أمر جيد بالنسبة لتركيا؛ إذ يعزز إيراداتها وموقعها الاستراتيجي وإمكانية الوصول إلى الغاز، وكذلك بالنسبة لروسيا؛ لأنه يجعل من السهل التهرب من مسألة المنشأ، فمن الصعب تحديد الغاز على أنه روسي؛ إذ تسمح لموسكو ببيع منتجاتها النفطية المكررة إلى الدول الأوروبية مع إخفاء مصدرها.
وقد أسهم الصراع الروسي الأوكراني في تسريع تطوير الممر العمودي، ويسعى تطوير هذا الممر بشكل أساسي إلى زيادة قدرة نقل التدفق العكسي على خط أنابيب عبر البلقان. وينقل الأخير، بسعة 27 مليار متر مكعب/السنة، الغاز الروسي إلى البلقان وتركيا عبر أوكرانيا ومولدوفا ورومانيا. إن تشغيل خط أنابيب "تُرك ستريم" في عام 2020، والذي يُعد جزءاً من استراتيجية روسيا لتجاوز طريق العبور الأوكراني، يجعل خط الأنابيب عبر البلقان متاحاً لنقل الغاز من البنية التحتية من الجنوب إلى الشمال التركي واليوناني. ومع ذلك، فإن قدرة النقل من الجنوب إلى الشمال عبر خط الأنابيب عبر البلقان لا تزال بعيدة عن 27 مليار متر مكعب، وتوجد اختناقات على طول هذا الطريق.
وختاماً، تجدر الإشارة إلى أنه في التقرير المعنون بـ"تحليل مخاطر البنى التحتية الحيوية البحرية الأوروبية"، الذي نشره مرصد أمن تدفقات الطاقة والمواد في يناير 2024، وقع الاختيار على حقل غاز يسمح باستغلال حقلي "دومينو1" و"بيليكان ساوث" في منطقة "نبتون ديب"، الواقعة قبالة سواحل رومانيا في المياه العميقة، والتي هي حالياً في مرحلة التطوير. ويكشف هذا التحليل عن ارتفاع المخاطر الجيوسياسية، في سياق الحرب الروسية الأوكرانية، ومن الممكن أن تصبح رومانيا، وهي عضو في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، مع تشغيل "نبتون ديب"، ثاني أكبر مُنتج للغاز في الاتحاد الأوروبي.
وفي حين يهدف "نبتون ديب" إلى الوقف الكامل لواردات الهيدروكربونات الروسية بحلول عام 2027 وهو التاريخ المخطط لبدء تشغيله؛ فإن المنصة البحرية الرومانية يمكن أن تشكل هدفاً للتخريب الروسي، عبر هجوم سيبراني، ناهيك عن المخاطر القانونية، وخاصة تلك المتعلقة بترسيم الحدود البحرية، والتي تتفاقم بسبب الصراع والرغبة الروسية في التوسع الإقليمي. كما أن المخاطر المناخية مرتفعة أيضاً، فتضاعف العواصف وزيادة شدتها أو تملح مياه البحر التي تولد فقاعات الميثان والانهيارات الأرضية تحت الماء يمكن أن تسبب أضراراً كبيرة للبنية التحتية البحرية لاستغلال الغاز ونقله؛ مما يتسبب في كوارث بيئية خطرة. باختصار، سواء على المستوى الجيوسياسي أم الجيواقتصادي أم مستوى الطاقة، فإن التطورات المستقبلية تتميز بمستوى عالٍ من عدم اليقين. ومن المتوقع أن تزداد الأهمية الجيوستراتيجية للبحر الأسود، الواجهة البحرية بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، بشكل أكبر في السنوات المقبلة.
المصدر:
Noémie Rebière, Sami Ramdani, Luca Baccarini, “Guerre russo-ukrainienne: la région de la mer Noire au cœur de la reconfiguration des flux énergétiques”, OSFME, Avril 2024.