أعلن الرئيس الأمريكي، جو بايدن، عن استضافة القمة الأمريكية – الأفريقية الثانية في واشنطن في الفترة من 13 إلى 15 ديسمبر 2022، والذي أكّد أن استضافة الولايات المتحدة للقمة مع قادة دول أفريقية تظهر الاهتمام الأمريكي بالقارة، لاسيما في ضوء أهمية تعزيز الشراكة بين الطرفين في القضايا الملحة.
وكانت الولايات المتحدة، في عهد الرئيس السابق، باراك أوباما، استضافت أول قمة أمريكية –أفريقية عام 2014 بمشاركة ما يقرب من 50 رئيس دولة أفريقية. وجاء الإعلان عن القمة الأمريكية لأول مرة منذ ثماني سنوات، ليكون كاشفاً عن حجم الاستقطابات التي تتعرض لها القارة الأفريقية، خاصة في ضوء الحرب الروسية – الأوكرانية.
مؤشرات تغير السياسة الأمريكية:
تعددت المؤشرات والدلائل على التغيرات التي تشهدها الاستراتيجية الأمريكية تجاه القارة الأفريقية في ظل إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن مقارنة بسلفه دونالد ترامب، وذلك على النحو التالي:
1- زيارات مكثفة لدول القارة: قام وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، بزيارة لعدد من الدول الأفريقية، وهي السنغال وكينيا ونيجيريا، في نهاية نوفمبر 2021، والتي جاءت قبل أيام قليلة من انعقاد قمة صينية – أفريقية "فوكاك"، والتي هدفت لتعزيز الشراكة الاستراتيجية بين الصين وأفريقيا.
ويلاحظ أن الجهود التي قادتها الولايات المتحدة لحشد الدول في جميع أنحاء القارة لعزل روسيا دبلوماسياً واقتصادياً فشلت، حتى الآن، وهو ما كان كاشفاً عن تراجع النفوذ الأمريكي. ومن المتوقع أن يسافر بلينكن للمرة الثانية إلى القارة في أوائل أغسطس 2022، ويزور جنوب أفريقيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية. وقد يكون الموقف من روسيا على أجندة زيارته لجنوب أفريقيا، كما من المتوقع أن يحاول بلينكن التوسط في التوترات بين الكونغو ورواندا بشأن دعم رواندا لحركة 23 مارس المتمردة المنخرطة في اشتباكات مستمرة مع الجيش الكونغولي.
وعلاوة على ما سبق، تتجه السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس جرينفيلد، إلى غانا وأوغندا خلال الفترة القادمة، وذلك عقب زيارة رئيسة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، سامانثا باور، إلى الصومال وكينيا خلال الفترة الماضية.
2- مبادرات موجهة للقارة الأفريقية: أعلن بايدن عن مبادرة "ازدهار أفريقيا" في منتصف 2021، وذلك من خلال طلب 80 مليون دولار من الكونجرس لتعزيز التجارة والاستثمار بين الولايات المتحدة وأفريقيا. كما تم تمديد قانون النمو والفرص في أفريقيا حتى عام 2025، وهو القانون الذي يمنح البلدان الأفريقية إعفاءً جمركياً لحوالي 6500 منتج إلى الولايات المتحدة.
وقدمت إدارة بايدن، خلال الأشهر العشرة الأولى من حكمه، أكثر من 50 مليون جرعة من لقاحات لفيروس كورونا إلى 43 دولة أفريقية، فضلاً عن إعلانها مجموعة متنوعة من الاستثمارات في مشاريع الصحة والتعليم والتكيف مع المناخ في أفريقيا.
وفي يونيو 2022، اقترح بايدن، في ألمانيا خلال قمة مجموعة السبع "مبادرة الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية والاستثمار" بقيمة 600 مليار دولار لبناء البنية التحتية في الدول النامية، حيث تهدف واشنطن إلى تقديم حوالي 200 مليار دولار أمريكي في إطار هذه المبادرة على مدى السنوات الخمس المقبلة من خلال المنح والتمويل واستثمارات القطاع الخاص، وهي المبادرة التي ينظر إليها على أنها تهدف لمواجهة مشروع الحزام والطريق الصيني، كما من المتوقع أن يتم تخصيص جانب من المبادرة للدول الأفريقية.
فقد أعلنت رئيسة الوفد الأمريكي المشارك في قمة الأعمال الأمريكية – الأفريقية في يوليو 2022، التي انطلقت في المغرب أن الولايات المتحدة ستستثمر مليارات الدولارات في أفريقيا بالتعاون مع القطاع الخاص، لتنمية القارة اقتصادياً.
ويلاحظ أن فرص نجاح المبادرة تبدو موضع شك، إذ إنها مجرد إعادة تسميه لمبادرة "إعادة بناء عالم أفضل"، التي أطلقتها مجموعة الدول السبع، في يونيو 2021، في بريطانيا ولكنها لم تمرر من قبل الكونجرس الأمريكي.
3- تعزيز النفوذ العسكري: تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز نفوذها العسكري بالقارة من خلال تمركز حوالي 6500 جندي أمريكي، وذلك لتدريب القوات المحلية للدول الحليفة، سعياً للقيام بعدد من المهام الأمنية، على غرار مكافحة الإرهاب.
وعلى سبيل المثال، أجرى الجيش الأمريكي مناورات "فلينتلوك"، وهو برنامج الولايات المتحدة التدريبي السنوي للقوات الأفريقية خلال الفترة من 20 وحتى 28 فبراير 2022 في ساحل العاج، وهو التدريب الذي شارك فيه 400 جندي على مكافحة الإرهاب، منتمين لحوالي عشر دول، أربع أفريقية، وهي الكاميرون والنيجر وساحل العاج وغانا، وست دول غربية، وهي بريطانيا وفرنسا وهولندا والنرويج وكندا إضافة إلى الولايات المتحدة.
دوافع تغير سياسات واشنطن:
تضافر عدد من العوامل، والتي بدورها أسهمت في تشكيل الاستراتيجية الأمريكية الحالية، والتي تبلور أبرز مؤشراتها في التالي:
1- استراتيجية بايدن للارتباط بأفريقيا: يرتكز الإطار العام للاستراتيجية الأمريكية في ظل إدارة بايدن على مبدأ عودة الولايات المتحدة للساحة العالمية على عكس الاستراتيجية الأمريكية في ظل الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، والتي كانت ترتكز على مبدأ أمريكا أولاً.
وعلى المستوى الأفريقي، تسعى إدارة بايدن لتعزيز شراكتها مع أفريقيا، لعودة النفوذ الأمريكي مرة أخرى بالقارة، على عكس سياسة التجاهل التي انتهجها ترامب نحو القارة. فقد اتسمت علاقة الرئيس الأمريكي السابق مع القارة الأفريقية بالتوتر، حيث أدى حظر السفر من عدد من الدول ذات الأغلبية المسلمة، بما في ذلك بعض الدول الأفريقية، إلى توتر العلاقات مع شركاء أمنيين مهمين مثل تشاد.
وترتكز الاستراتيجية الأمريكية لأفريقيا في ظل إدارة بايدن على تكريس الديمقراطية وحقوق الإنسان، فضلاً عن مكافحة الإرهاب، ومواجهة نفوذ روسيا والصين. وتجدر الإشارة إلى أن الإدارات الأمريكية السابقة قد تبنت أهدافاً مماثلة، ولكنها كانت تميل إلى تهميش القارة الأفريقية ما لم تكن هناك أزمة ملحة، سواء حرباً أهلية، أو تفشي وباء، أو اندلاع أعمال إرهابية.
2- الصراع الدولي على القارة: أصبحت القارة الأفريقية ساحة للتنافس الدولي بين القوى العالمية والإقليمية، والتي تجلت خلال الأزمة الروسية – الأوكرانية، عندما سعت الأطراف المتحاربة لمحاولة استقطاب الدول الأفريقية في صفها.
وانطلاقاً مما سبق، أدركت الإدارة الأمريكية أن عدم الانخراط الأمريكي بالقارة يعني بلا شك تزايد نفوذ الدول الأخرى. وعلى سبيل المثال، تشهد القارة تزايد النفوذ الروسي لمواجهة النفوذ الغربي، والذي تبلور من خلال زيادة حجم التبادل التجاري بين روسيا والدول الأفريقية بأكثر من 34% منذ بداية العام الجاري.
وعلاوة على ما سبق، شهدت مدينة سوتشي الروسية قمة روسية – أفريقية في يونيو 2022، حيث شارك الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في مباحثات ثنائية مع رئيس الاتحاد الأفريقي، رئيس السنغال ماكي سال، ورئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، موسى فقي محمد.
وقام وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، بجولة في عدة دول أفريقية (مصر، أوغندا، الكونغو، إثيوبيا) في يوليو 2022، والتي أشار خلالها لافروف في رسالة نشرت في صحف الدول الأفريقية إلى أن ادعاءات الدول الغربية بأن روسيا تصدر الجوع هي ادعاءات مزعومة، ولا أساس لها على الإطلاق.
أما بالنسبة للصين، فقد تزايدت العلاقات الوثيقة بينها وأفريقيا في السنوات الأخيرة، إذ إنها أصبحت أكبر شريك تجاري لأفريقيا. كما أنه بحلول 2019، تم تمويل واحد من كل خمسة مشاريع بنية تحتية أفريقية من قبل بكين، وواحد من كل ثلاثة مشاريع يتم بناؤها من قبل الصين. وفي نوفمبر 2022، استضافت السنغال منتدى التعاون الصيني – الأفريقي، والذي يعقد كل ثلاث سنوات، بحضور الرئيس الصيني، شي جين بينج، افتراضياً، حيث تعهد بتقديم تمويل للدول الأفريقية بقيمة 40 مليار دولار أمريكي، مع وعده بزيادة قيمة الواردات من أفريقيا إلى 300 مليار دولار أمريكي خلال الثلاث سنوات.
3- تصاعد أهمية الثروات الأفريقية: زادت أهمية أفريقيا بسبب الحرب الروسية – الأوكرانية وتبعاتها على أزمة الغذاء العالمية، حيث تمتلك القارة موارد طبيعية ومساحات واسعة وأراضي خصبة صالحة للزراعة والاستثمار في مختلف قطاعاتها، مما يمكن دول القارة من لعب دور مهم في مواجهة أزمة الغذاء العالمية، من خلال إمكانية أن تتحول إلى سلة غذاء للعالم في حال توظيف قدراتها.
ومن جهة ثانية، يمتلك عدد من الدول الأفريقية ثروات من الغاز الطبيعي على غرار نيجيريا، والتي تمتلك 3% من احتياطيات الغاز العالمية المؤكدة، لكنها لم تستغل أياً منها تقريباً. وتتجه الدول الأوروبية لتنويع مصادر الحصول على الغاز الطبيعي لتقليل اعتمادها على روسيا، بسبب الحرب الروسية – الأوكرانية. ولذلك عقدت إيطاليا في أبريل صفقات لشراء الغاز من أنجولا وجمهورية الكونغو، بينما كانت ألمانيا تتطلع لتأمين إمدادات جديدة من السنغال.
ووفقاً لصندوق النقد الدولي، كانت خمس من الدول العشر الأسرع نمواً، في عام 2019، في أفريقيا. كما تظل أفريقيا واحدة من أكثر الوجهات التجارية الواعدة بفضل سوقها الواسع غير المستغل وغلبة الشباب على تركيبتها السكانية، والذين من المتوقع أن يصلوا إلى أكثر من ملياري شخص بحلول عام 2050. وتعتبر الولايات المتحدة في الوقت الحالي في وضع غير مواتٍ للمنافسة على الفرص التجارية بالسوق الأفريقي مقارنة بالاتحاد الأوروبي والصين.
وفي الختام، تشهد القارة الأفريقية خلال الآونة الأخيرة حالة من توافد رؤساء ومسؤولين رفيعي المستوى من الدول الكبرى، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، حيث يسعى بايدن للتأكيد أمام المجتمع الدولي بشكل عام، والقارة الأفريقية بشكل خاص، على عودة الدولة الأمريكية للساحة الأفريقية لتكون أحد أطراف المعادلة السياسية الدولية بالقارة، خاصة في ضوء احتدام الحرب الروسية – الأوكرانية.