أخبار المركز
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)
  • هالة الحفناوي تكتب: (ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟)
  • مركز المستقبل يصدر ثلاث دراسات حول مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي
  • حلقة نقاشية لمركز المستقبل عن (اقتصاد العملات الإلكترونية)

فجوة التكلفة:

لماذا تصاعدت موجات إفلاس مزودي الكهرباء في أوروبا؟

29 ديسمبر، 2021


قفزت أسعار الكهرباء بالجملة في أوروبا بشكل غير مسبوق في النصف الثاني من عام 2021، بما جعل كثيراً من مزودي الكهرباء بالقارة غير قادرين على الاستمرار في السوق، خاصة مع عدم إمكانيتهم تمرير أسعار الطاقة المرتفعة للمستهلكين النهائيين، في شكل زيادات في تعريفات خدمات الكهرباء؛ بل اضطر كثير من مزودي الكهرباء الأوروبيين لتقديم طلبات إفلاس للهيئات التنظيمية المحلية. 

وتؤكد الأزمة الحالية، والمستمرة على الأرجح في عام 2022، أهمية إدخال المشرعين الأوروبيين تعديلات على نموذج الأسواق الكهربائية المحررة القائمة، بحيث تضمن إعطاء الموردين مزيداً من المرونة في تعديل تعريفات خدمات الكهرباء، أو حتى تحديد شروط إضافية أكثر صرامة من الناحية المالية والتشغيلية لطبيعة المشاركين في أسواق الكهرباء.

كرة الثلج:

واجه موردو الكهرباء- والمقصود بهم الشركات التي تشتري الكهرباء من المنتجين ثم تعيد بيعها للمستهلكين- في القارة الأوروبية مصاعب تشغيلية ومالية شديدة، مع صعود أسعار الطاقة العالمية، لاسيما الغاز الطبيعي، في عام 2021؛ على نحو اضطر جانب منهم في دول أوروبية مثل بريطانيا وألمانيا وهولندا والتشيك وبلجيكا وفنلندا لتقيم طلبات إفلاس للهيئات التنظيمية المحلية. 

وفي بريطانيا وحدها، تداعى نحو 24 مورداً للكهرباء ما بين في حالات إفلاس أو نقل إدارة الشركات مؤقتاً للحكومة البريطانية. وامتدت الأزمة لتضم دولاً أوروبية أخرى وبعدد 5 حالات إفلاس في هولندا، و3 في ألمانيا، و5 في التشيك، وواحدة في بلجيكا ومثلها في فنلندا، وذلك فقاً لبيانات جمعتها وكالة "بلومبرج" حتى شهر ديسمبر 2021.

وبخلاف المنطقة الأوروبية، عانى موزعو الكهرباء في قارة آسيا من مأزق مالي واسع أيضاً، وسط ارتفاع أسعار الغاز المصدر الرئيسي لتوليد الكهرباء هناك. ففي سنغافورة، على سبيل المثال، أفلس خمسة من أكبر موردي الكهرباء في البلاد، ويشاركون بحصة تصل إلى 9% من إجمالي الطلب المحلي على الكهرباء، مما يدل في المجمل على اتساع نطاق تلك الأزمة ليس فقط على المستوى الأوروبي، وإنما العالمي أيضاً. 


 نموذج أعمال مُقيد:

منذ تسعينيات القرن الماضي، تم تحرير أسواق الكهرباء في أوروبا، وانتقل نظام الكهرباء من هيكله المركزي التي تتحكم به الشركات الحكومية إلى نظام لامركزي يعتمد بشكل أكبر على شركات القطاع الخاص سواء في عمليات الإنتاج أو توزيع خدمات الكهرباء، مع وجود هيئة حكومية أو ما يُعرف بـــ "مشغل" يضطلع بتحديد قواعد إدارة السوق، وتحديد التعريفات للمشتركين.

ووفق القواعد الأوروبية، يقوم موردو الكهرباء بشراء وبيع الطاقة بناءً على عقود آجلة، والتي تمثل أساساً لتسعير خدمات الكهرباء للمستهلكين النهائيين. ويتم عملية تبادل الكهرباء بين المنتجين والموردين وفقاً لعطاءات خاصة في منصات مخصصة لتداول الكهرباء. وتعكس أسعار الكهرباء بالجملة في تلك المنصات اعتبارات مستقبلية مختلفة، مثل التوقعات بشأن الدورة الاقتصادية والإنتاجية، وتكاليف الوقود وغيرها.

بينما يتم تحديد الأسعار النهائية بالنسبة للمستهلكين بالاتفاق مع الجهات الحكومية، ويتم وضع سقف للأسعار بغرض حماية المستهلكين من الارتفاعات القوية لأسعار الكهرباء بالجملة. وتتفاوت القواعد المنظمة لعملية تعديل تعريفات الكهرباء للمستهلكين من دولة أوروبية إلى أخرى. فمثلاً، تسمح تشريعات بعض الدول مثل بريطانيا بمراجعة أسعار الكهرباء مرتين في السنة، وبالمثل في هولندا، يرتبط المستهلكون بعقود طاقة لمدة تتراوح من سنة إلى 5 سنوات، ويمكن للموردين إمكانية تغييرها كل 6 أشهر، وذلك بعد نظر الجهات في عوامل مثل تطورات أسعار الجملة، أو ضخ الشركات لاستثمارات إضافية في شبكات نقل الكهرباء.

وقد نشأت الأزمة الأخيرة نتيجة أن بعضاً من الموردين لم يتمكنوا من نقل الزيادات المتتالية لأسعار الكهرباء بالجملة للمستهلكين النهائيين، والتي وصل سقفها إلى نحو 400 يورو لكل ميجاوات في بعض الدول الأوروبية في ديسمبر 2021. وظهرت المشكلة بوضوح لدى صغار ومتوسطي الموردين الأوروبيين ذوي الملاءة المالية الضعيفة، حيث لم يعد بإمكانهم تغطية التكاليف التشغيلية، ومن ثم اضطروا إلى إعلان إفلاسهم. وجدير بالذكر أن صغار ومتوسطي الموردين يشكلون، على سبيل المثال، حوالي 30% من سوق الكهرباء البريطاني.

تحولات داخلية وخارجية:

أدت ظروف داخلية وخارجية إلى ارتفاع أسعار الكهرباء بالجملة في القارة الأوروبية منذ بداية عام 2021، ويمكن توضيح أبرزها على النحو التالي:

1- نمو الطلب الأوروبي على الكهرباء: اقترب الطلب الأوروبي على الكهرباء من مستوياته ما قبل جائحة كورونا. وفي النصف الأول من 2021، كان الطلب على الكهرباء بدول الاتحاد الأوروبي أعلى بنسبة 6% (أو ما يُعادل 74 تيراواط ساعة) مما كان عليه في النصف الأول من عام 2020، لكنه لا يزال منخفضاً بنسبة 0.6% فقط مقارنة بالنصف الأول من عام 2019. وبفعل موجات الطقس البارد في أوروبا، انتعش الطلب على الكهرباء بشكل أكبر في النصف الثاني من 2021، مع تزايد احتياجات التدفئة. 

2- صيانة المحطات الكهربائية في أوروبا: واجهت الكثير من الدول الأوروبية ظروفاً صعبة فيما يتعلق بإنتاج الكهرباء في الفترة الأخيرة؛ إما بسبب ضعف إمدادات الوقود اللازم لتشغيل المحطات الكهربائية، أو لأسباب تتعلق بصيانة المحطات الكهربائية. فعلى سبيل المثال، أوقفت فرنسا في ديسمبر 2021 نحو 4 مفاعلات نووية لإجراء عمليات صيانة دورية في محطتي شوز وسيفو، والتي سوف تمتد حتى أواخر يناير 2022، الأمر الذي سيزيد من اعتماد فرنسا على الغاز والفحم وحتى النفط، المرتفعة أسعارها.

3- إمدادات الغاز أقل من مستوى الطلب: تعتمد أوروبا على الغاز الطبيعي في توليد نحو ربع طاقتها الكهربائية، وهي توازي تقريباً الطاقة المولدة عبر الطاقة النووية، بينما تبلغ ضعف مساهمة الرياح في توليد الطاقة. وفي العام الحالي، شهدت تدفقات الغاز إلى أوروبا انخفاضاً مقارنة بعام 2019.

وكانت إمدادات الغاز القادمة من النرويج وروسيا إلى شمال أوروبا أقل من متوسط عام 2019. وعلى الرغم من أن روسيا أوفت بالكميات المتعاقد عليها التي تحددها العقود طويلة الأجل مع المستهلكين الأوروبيين، فإن صادراتها قصيرة الأجل من الغاز انخفضت بشكل كبير عن مستواها في عام 2019. ونتيجة لذلك، انخفض مستوى تخزين الغاز بمواقع التخزين في الدول الأوروبية وبريطانيا بما نسبته 63% في أوائل ديسمبر 2021، ومقارنة بنسبة 75% في أكتوبر الماضي، وفقاً لبيانات Gas Infrastructure Europe.

وفي الأشهر الأخيرة، وجهت الولايات المتحدة اتهامات لروسيا بأنها تتعمد تخفيض إمدادات الغاز إلى أسواق الاستهلاك في أوروبا، مع تأخر السلطات الأوروبية في الموافقة على تشغيل خط أنابيب الغاز الطبيعي "نورد ستريم 2" والذي تم الانتهاء منه، حيث لم تحصل أوروبا بعد على ضمانات روسية بشأن استمرار تدفقات الغاز إليها عبر الأراضي الأوكرانية، بعد تشغيل خط الأنابيب الجديد. 

4- تقلبات توليد الطاقة المتجددة: تراجعت قدرات توليد الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة في بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا وبريطانيا، على فترات متفاوتة منذ أوائل عام 2021 لأسباب مناخية، حسب بعض التفسيرات. وانخفضت قوة الرياح التي تهب عبر شمال أوروبا بنسبة تصل إلى 15% في المتوسط في 2021، وفقاً للبيانات التي جمعتها "فورتكس"، وهي مجموعة مستقلة لنمذجة الطقس. ويرجع تيار من العلماء أسباب ذلك إلى ظاهرة مناخية تُسمى "السكون العالمي".

الخروج من المأزق:

من دون شك، فإن الوضع المتأزم لقطاع الكهرباء في أوروبا سيفرض آثاراً اقتصادية جانبية، منها رفع تكاليف الإنتاج، وتغذية التضخم الذي وصل بالفعل بمنطقة اليورو إلى أعلى معدلاته التاريخية عند 4.9% في نوفمبر 2021. كما سيفاقم بدوره من مشاكل اضطراب سلاسل الإمدادات العالمية، حيث اضطرت بعض المنشآت الصناعية والتجارية الأوروبية لخفض الإنتاجية بعد ارتفاع أسعار الكهرباء في الفترة الأخيرة، ولعل أكثر المتضررين في ضوء التطورات الأخيرة هي الشركات كثيفة الاستخدام للطاقة في الأسمدة والألمنيوم والحديد.

كذلك، تضيف تلك الأزمة أعباءً مالية جديدة على الحكومات والمستهلكين الأوروبيين، حيث يُرجح أن تتدخل الحكومات لإنقاذ ودعم الشركات المتعثرة، أو حتى تقديم إعانات للمستهلكين. فمثلاً، سوف تتحمل الحكومة البريطانية تكاليف قدرها 1.7 مليار جنيه إسترليني (2.2 مليار دولار)، من أجل إنقاذ شركة "بالب إنيرجي" (Bulb Energy)، وهو مبلغ من المقرر تعويضه من خلال زيادات في فواتير كهرباء الأسر خلال الأعوام المقبلة.

وعلى جانب العرض، ستحاول أوروبا جاهدة للحصول على إمدادات إضافية من الغاز الطبيعي من موردين آخرين بخلاف روسيا، من أجل تهدئة أسواق الكهرباء. وتعتبر الولايات المتحدة أحد شركاء أوروبا المُحتمل تدخلها لإنقاذ أسواق الاستهلاك الأوروبية. وبالفعل، توجهت نحو 10 سفن على الأقل مُحملة بشحنات غاز مُسال إلى أوروبا في 24 ديسمبر 2021، وأخرى في طريقها للوصول؛ على نحو سوف يساعد في تعويض التدفقات المنخفضة من روسيا، وهو ما يمثل أيضاً مكسباً أمريكياً نحو تعزيز حصتها من الغاز المُسال في أوروبا. وفي عام 2020، استوردت أوروبا نحو 25.6 مليار متر من الغاز المُسال الأمريكي، ما يعادل 22.6% من إجمالي الواردات الأوروبية.

لكن تلك الإمدادات الإضافية لن تخلق هدوءاً في أسواق الكهرباء الأوروبية إلا في حدود ضيقة ومؤقتة، في ظل الطب الأوروبي المرتفع على الغاز. وقد يتطلب الأمر من الحكومات الأوروبية النظر في إعادة هيكلة سوق الكهرباء تحسباً لمخاطر ارتفاع أسعار الوقود المُشغل للمحطات مستقبلاً. إذ تثبت الأزمة الحالية أنه على الرغم من تحرير أسواق الكهرباء؛ فإنه يتعين تعديل القواعد التنظيمية، بحيث يُمنح مزودو الكهرباء المرونة الكافية لزيادة أسعار الكهرباء للمستهلكين، إذا كان ذلك ضرورياً لتجنب الإفلاس، أو حتى وضع شروط إضافية تتعلق بمتانة الأوضاع المالية والتشغيلية للموردين في أسواق الكهرباء.

ختاماً، يمكن القول إنه في ضوء الأزمة الأخيرة سوف تتجه بعض أسواق الكهرباء الأوروبية إلى مزيد من تركز المشاركين فيها، بعد خروج عدد من الموردين، وهو ما ستكون له رمزية من حيث بقاء الكيانات الأكثر صلابة في مواجهة الأزمات المالية ومن ثم دعم استقرار إمدادات الكهرباء حالياً ومستقبلاً، لكنه سيقلل بطبيعة الحال من المنافسة من جهة أخرى.