أخبار المركز
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)
  • هالة الحفناوي تكتب: (ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟)
  • مركز المستقبل يصدر ثلاث دراسات حول مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي
  • حلقة نقاشية لمركز المستقبل عن (اقتصاد العملات الإلكترونية)

الشريك الخصم:

لماذا تحافظ ألمانيا على تقاربها مع الصين؟

10 أكتوبر، 2023


أكد وزير المالية الألماني كريستيان ليندنر، في مطلع أكتوبر 2023، خلال اجتماعه مع نائب رئيس مجلس الدولة الصيني خه لي فنغ، بمدينة فرانكفورت الألمانية، أهمية تطوير العلاقات الاقتصادية بين برلين وبكين وتعزيز أوجه التعاون المُشترك تجاه بعض القضايا المهمة، وخاصة فيما يتعلق بمكافحة الفقر وتغير المناخ.

مُؤشرات مهمة:

ثمّة مُؤشرات تُدلل على تبني ألمانيا سياسة خارجية تهدف بشكل رئيسي لتعزيز علاقاتها الثنائية مع الصين بشكل يؤكد تطور التقارب الحاصل في العلاقات الألمانية الصينية، ومن أبرزها ما يلي:

1- تأييد السياسات الصينية: أعلنت ألمانيا تأييدها للموقف الصيني الداعم لإطار إعادة هيكلة ديون مجموعة العشرين للدول الأكثر فقراً، وذلك بعدما استجابت الحكومة الصينية للمطالب التي رفعتها بعض الدول ومنها ألمانيا بتسريع عملية إعادة هيكلة الديون الصينية على الدول الإفريقية والآسيوية غير القادرة على سداد ديونها للصين، الأمر الذي يؤكد فاعلية الدور الصيني في السياسة العالمية، ولاسيما على الصعيد الاقتصادي، ويعكس هذا الموقف رغبة ألمانيا في الحفاظ على علاقاتها القائمة مع الصين وتعزيز فرص التعاون بينهما لتبادل الاستثمارات والعمليات التجارية بما يسهم في تعظيم المكاسب الاقتصادية لكل منهما.

2- الدفاع عن المصالح الاقتصادية للصين: وتمثل ذلك بشكل واضح في رفض ألمانيا لاقتراح الاتحاد الأوروبي الخاص بفرض رسوم على السيارات الكهربائية التي يتم استيرادها من الصين والتي مثلت حوالي 43% من موارد السيارات الكهربائية في الدول الأوروبية لعام 2021، وفي حين أعربت الصين عن قلقها بشأن الرسوم الجمركية المتحركة التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على السيارات الكهربائية الصينية التي تستقبلها السوق الأوروبية، فقد أبدى المستشار الألماني أولاف شولتس عدم اقتناعه بالمقترح الأوروبي في هذا الخصوص، رافضاً الاعتماد على الإجراءات الحمائية التي يتخذها الاتحاد لحماية صناعة السيارات الأوروبية في ظل ما تواجهه من منافسة محتدمة من قبل السيارات الصينية الأقل سعراً، وفي ذلك مؤشر مهم على تبني ألمانيا مواقف أكثر مرونة، وذلك بخلاف موقف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، حيث يتبنيان سياسات خارجية أكثر صرامة في التعامل مع القضايا محل الخلاف مع  الصين، وذلك تحت مسمى حماية المصالح الأوروبية والأمريكية، ومواجهة سياسات الإغراق التي تتبعها الصين في الأسواق الأوروبية والأمريكية.

3- زيارات مُتبادلة: كان من أهمها على الإطلاق زيارة رئيس الوزراء الصيني لي تشيانغ لبرلين في شهر يونيو 2023، ولقائه مع المستشار الألماني أولاف شولتس، وقد اكتسبت هذه الزيارة أهمية خاصة نظراً لأنها كانت الزيارة الخارجية الأولى التي قام بها رئيس الوزراء الصيني منذ توليه منصبه في شهر مارس 2023، إذ عكست هذه الزيارة الأهمية الكبيرة التي توليها بكين لبرلين، وقبل ذلك قام المستشار الألماني شولتس بزيارة لبكين في شهر نوفمبر 2022، بغرض تعزيز العلاقات الاقتصادية الحيوية مع بكين.

دوافع التقارب:

أثار التطور الإيجابي المُتسارع في العلاقات الثنائية بين ألمانيا والصين، التساؤلات حول دوافع ألمانيا من هذا التقارب المُتنامي مع الصين، ولاسيما على المستوى الاقتصادي، وفي هذا السياق؛ يمكن تفسير ذلك من خلال مجموعة من الأهداف التي تسعى برلين لتحقيقها، ومن أهمها ما يلي:

1- تعظيم المكاسب الاقتصادية: تدرك ألمانيا أهمية تطوير علاقاتها الاقتصادية مع الصين ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم، حيث تمثل الصين أكبر شريك تجاري لألمانيا، وأصبحت ألمانيا الشريك التجاري الخامس للصين على المستوى العالمي، وتمثل السوق الصينية مُتنفساً للمنتجات الألمانية وخاصة الشركات الألمانية العاملة في مجال تصنيع السيارات (فولكس فاغن – بي أم دبليو – مرسيدس) والتي ارتفع حجم مبيعاتها في السوق الصينية ليصل إلى حوالي 40%، كما ضخت شركة فولكس فاغن استثمارات بقيمة مليار يورو في مقاطعة أنهووي الصينية.

وفيما يتعلق بالاستثمارات الصينية في ألمانيا فقد نجحت الشركات الصينية في دخول السوق الألمانية ومن أبرزها شركة "BAIC" والمستثمر الصيني "Li Shufo" حيث أصبحا شريكين في شركة مرسيدس الألمانية لصناعة السيارات وكلاهما يمتلك 10% من أسهم الشركة. وفي المقابل نجحت كبرى الشركات الألمانية العاملة في قطاع البتروكيماويات "BASF SE" في ضخ استثماراتها في الصين (في موقع فيربوند بمدينة تشانجيانغ في مقاطعة قوانغدونغ بجنوبي الصين) بقيمة تصل إلى حوالي 10 مليارات يورو في عام 2030، بغرض تعويض خسائرها الناجمة عن ارتفاع تكلفة الطاقة والقواعد البيئية الصارمة في أوروبا، وفي ذلك مؤشر مهم على حرص ألمانيا على تحقيق عائدات مالية تسهم في تعزيز اقتصادها الوطني من خلال تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع الصين.

2- تأمين إمدادات الطاقة: حيث أصبحت الصين مصدراً مهماً بالنسبة لألمانيا لتأمين الاحتياجات الداخلية من الطاقة الصينية، وذلك بعد أن أثرت الحرب الأوكرانية في الإمدادات الروسية من الغاز للدول الأوروبية بسبب موقفها الرافض للغزو الروسي لأوكرانيا وفرضها عقوبات على موسكو، كما تعتمد ألمانيا على الخلايا الشمسية الصينية، وأيضاً بطاريات السيارات الكهربائية "CATL" التي تنتجها الصين في مصنعين خارجها أحدهما في ألمانيا، وبالتالي تمثل الصين مصدراً لتأمين احتياجات ألمانيا من الطاقة.

3- تنويع الشركاء: يعكس التقارب الألماني الصيني توجهات السياسة الخارجية الألمانية التي تتبناها الحكومة الألمانية الحالية والتي تهدف إلى تنويع الشركاء الدوليين، بما يحقق قدراً من التوازن في العلاقات الألمانية مع مُختلف دول العالم، ولاسيما القوى الكبرى مثل روسيا والصين، وترى ألمانيا أن تنويع الشركاء الدوليين يتيح لها فرصة تنويع المصالح الاقتصادية ودرء المخاوف الأمنية.

4- تعزيز الدور الدولي لألمانيا: ففي الوقت الذي تتصاعد فيه حدة التوتر السياسي بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، تتزايد درجة التقارب بين ألمانيا والصين ولاسيما على الصعيد الاقتصادي بشكل رئيسي، وأيضاً على الصعيد السياسي من خلال محاولة ألمانيا أداء دور الوسيط بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية في عدد من الملفات الخلافية بين الطرفين وعلى رأسها قضايا حقوق الإنسان وتايوان، حيث ترى ألمانيا أن هذه القضايا أو الأزمات تمثل فرصة مواتية لتعزيز الدور الألماني على المستوى الدولي من خلال محاولة تسوية هذه الأزمات أو على أقل تقدير الحيلولة دون مزيد من التصعيد سواءً بين أطراف هذه الأزمات أم الأطراف الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين.

تحديات قائمة:

رغم التقارب في العلاقات الثنائية بين ألمانيا والصين، فإن هناك عدداً من العقبات أو المحاذير التي قد تؤثر سلباً في نمط العلاقات القائم بين الدولتين، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

1- ضغوط داخلية: يواجه المستشار الألماني أولاف سولتش انتقادات من المعارضة السياسية داخل المجتمع الألماني بسبب ما تصفه بالاعتماد المبالغ فيه لألمانيا على واردات الطاقة الصينية، ومواصلة عمليات التبادل التجاري مع الصين، بشكل قد يؤدي إلى مزيد من التبعية الاقتصادية الألمانية للصين، ومن ثم التأثير سلباً في التحرك الألماني على الصعيد الدولي، وامتدت هذه الانتقادات إلى الائتلاف الحاكم داخل ألمانيا بسبب تبني شولتس سياسة خارجية تقوم على التوجه شرقاً نحو الصين، وانتقد الائتلاف زيارة شولتس للصين في شهر نوفمبر 2022، وظهرت حدّة هذه الانتقادات الداخلية عندما زادت انتقادات المعارضة للسماح بشركة الشحن الصينية العملاقة كوسكو بشراء حصة في محطة حاويات ميناء هامبورغ الألماني، حيث طالبت ست وزارات في الحكومة الألمانية المستشار شولتس بعدم إتمام هذه الصفقة، وهو ما دفعه للسماح للشركة الصينية بشراء حصة أصغر مما كان متفقاً عليه، وذلك استجابة للانتقادات الداخلية في هذا الخصوص، وبالتالي تمثل هذه الانتقادات ضغوطاً داخلية متصاعدة قد تؤثر سلباً بشكل كبير في التقارب الألماني الصيني.

2- الاستراتيجية الألمانية الجديدة تجاه الصين: في شهر يونيو 2023، وصفت ألمانيا الصين بأنها شريك لها، إلا أنها في نفس الوقت تُعد طرفاً منافساً لها، وتصف الاستراتيجية الجديدة لألمانيا تجاه الصين بكين بأنها أصبحت "خصماً منهجياً"، إذ ترى الاستراتيجية أن الصين تحاول إعادة تشكيل النظام الدولي القائم على قواعد ومبادئ محددة وفقاً لتوجهاتها ومصالحها لتحقيق أهداف سياسية، كما ترى ألمانيا أن الصعود الاقتصادي المتسارع لبكين من شأنه التأثير سلباً في المصالح الاقتصادية للدول الأوروبية، وفي المقابل فقد انتقدت الصين الوصف الألماني لها بأنها خصم، وأصدرت الخارجية الصينية بياناً عبرت فيه عن رفضها لاعتبار بكين خصماً أو عدواً، بما يؤدي إلى تحويل التعاون الإيجابي القائم بينهما وتحويله إلى تنافس وخلاف حول قضايا سياسية وأمنية، الأمر الذي يؤدي في نهاية الأمر إلى الانقسام والمواجهة، وتعكس هذه الاستراتيجية خشية ألمانيا من تبعيتها للصين بشكل يضر بالمصالح الألمانية وفي نفس الوقت عدم فك الارتباط بالصين بصفتها أكبر شريك تجاري لألمانيا، وفي هذا السياق أعلنت ألمانيا مؤخراً مراجعة قانون الاستثمار للحد من الاستثمارات الصينية في البلاد حيث منعت برلين محاولات الصين السيطرة على شركة ألمانية ناشئة في مجال الاتصالات، وذلك لدواعي الحفاظ على الأمن القومي الألماني.

3- الضغوط الغربية الأمريكية: تواصل ألمانيا تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع الجانب الصيني، وذلك بخلاف السياسة الخارجية التي يتبناها الاتحاد الأوروبي من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى، تجاه الصين، ففي الوقت الذي تزداد فيه صور التعاون الاقتصادي بين برلين وبكين، يتصاعد التوتر الصيني الغربي بسبب الموقف الصيني المؤيد للغزو الروسي لأوكرانيا، وفي هذا السياق تمارس الدول الغربية والولايات المتحدة ضغوطاً على الجانب الألماني في محاولة لدفع برلين نحو فك الارتباط مع الصين وعدم تبني سياسة خارجية مُستقلة مُنفردة في تعاملاتها مع الصين تتعارض مع السياسة الخارجية الأمريكية والتي تسعى لعزل الصين اقتصادياً، إلا أن برلين لم تستجب لهذه المحاولات وتُصر على إقامة علاقة شراكة مع الصين، وهو ما قد يؤدي إلى توتر في العلاقات الألمانية الغربية والأمريكية.

كما أن الإصرار الألماني على إقامة علاقات شراكة مع الصين يعكس الخلاف وعدم التجانس المستمر بين ألمانيا والاتحاد الأوروبي حول القضايا الخارجية التي تتسم بقدر كبير من الحساسية في التعامل معها؛ فالاتحاد الأوروبي يرغب في التعامل مع الصين وفق سياسة متجانسة ومتوافق عليها بين كافة دول الاتحاد، في حين تذهب ألمانيا في اتجاه التعامل مع الصين بشكل منفرد خارج إطار الاتحاد الأوروبي، وهو ما زاد من انتقادات الأخير لتوجهات برلين إزاء الصين خلال الفترة الأخيرة.

4- استمرار القضايا الخلافية: توجد مجموعة من القضايا الخلافية التي قد تؤثر سلباً في التقارب الألماني الصيني، وذلك كما يلي:

- الموقف من تايوان: يمثل الموقف من قضية تايوان، عاملاً محدداً لمستقبل العلاقات الألمانية الصينية؛ ففي شهر مارس 2023، أثارت زيارة وزيرة التعليم الألمانية بيتينا شتارك، وهي عضو بالحزب الديمقراطي الحر، لتايوان تحفظاً صينياً، خاصة وأن هذه الزيارة كانت الأولى من نوعها لمسؤول ألماني منذ 26 عاماً، وهو ما تعتبره الصين تدخلاً في شؤونها الداخلية، وهو ما دفعها لإلغاء زيارة كانت مقررة في ذلك الوقت لوزير المالية الألماني كريستيان ليندنر لبكين، وفي ذلك مؤشر على تأثير ملف تايوان في العلاقات مع ألمانيا في المستقبل، خاصة وأن موقف ألمانيا يتماشى مع الموقف الأمريكي الداعم للموقف التايواني، وهو أحد أسباب توتر العلاقات الصينية الأمريكية.

- انتهاكات حقوق الإنسان: توجه الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية تهماً للصين بارتكاب انتهاكات لحقوق وحريات الإنسان وخاصة فيما يتعلق بالحريات المدنية وحقوق الأقليات العرقية في "شينجيانغ" و"التبت"، وامتدت هذه التهم إلى حد وصف وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك الرئيس الصيني شي جين بينغ بالديكتاتور، وهو ما دفع الصين للإعراب عن رفضها لهذه الانتقادات وأكدت رفض بكين للتدخلات الخارجية في شؤونها الداخلية، وفي هذا الإطار تتهم الصين الولايات المتحدة بمحاولة تشويه سمعتها على الصعيد الدولي تحت مسمى الدفاع عن حقوق الإنسان، ورغم ذلك تحرص ألمانيا على التواصل المباشر مع الحكومة الصينية في ملفات حقوق الإنسان.

وفي التقدير، يمكن القول إن نمط العلاقات القائم بين ألمانيا والصين يُشير إلى غلبة العامل الاقتصادي كمحدد للعلاقات بين البلدين، ورغم الخلافات السياسية حول عدد من القضايا التي لا تزال محلاً للخلاف بين الدولتين، فإن المعطيات الراهنة ترجح اتجاه برلين للحفاظ على العلاقات الاقتصادية مع بكين وعدم فك الارتباط بالصين، وفي نفس الوقت استبعاد اتجاه العلاقات الألمانية مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة نحو التوتر، إذ تتبنى ألمانيا سياسة خارجية متوازنة تمكنها من تعظيم مكاسبها الاقتصادية مع الصين، وفي نفس الوقت الحفاظ على علاقاتها السياسية والاقتصادية والأمنية مع محيطها الأوروبي والغربي.