سبقت فكرة حل الدولتين في فلسطين (أي دولة عربية فلسطينية، ودولة يهودية) إعلان قيام إسرائيل في 15 مايو 1948؛ إذ إنه وبصدور "وعد بلفور" عام 1917 بتعهد المملكة المتحدة "بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين"، تحول هذا الوعد من كونه وعداً بريطانياً إلى وعد دولي بموجب صك الانتداب عام 1922 الصادر عن عصبة الأمم آنذاك بموافقة الحلفاء، الذي منح بريطانيا بموجب هذا الانتداب صلاحيات تسهيل إقامة وطن قومي لليهود، وسمحت سلطات الانتداب البريطانية في فلسطين بهجرة اليهود، التي تسببت في احتجاج الشعب الفلسطيني، واتسع نطاق هذه الاحتجاجات والمظاهرات إلى أن بلغت ذروتها بنشوب الثورة الفلسطينية عام 1936، التي استمرت حتى عام 1939، وتمثلت قيادتها في اللجنة العربية العليا.
ويناقش هذا المقال فرص وتحديات تطبيق حل الدولتين للصراع الفلسطيني الإسرائيلي في ظل الأوضاع الحالية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط بعد اندلاع حرب غزة منذ 7 أكتوبر 2023، وذلك من خلال توضيح الخلفية التاريخية لهذا الحل وبداية ومراحل ظهوره.
نظرة تاريخية:
يمكن تتبع التطور التاريخي لفكرة حل الدولتين في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، من خلال ما يلي:
1- لجنة "بيل" وظهور فكرة التقسيم: عقب نشوب الثورة الفلسطينية عام 1936، وما أحدثته من اضطرابات بين الفلسطينيين وسلطات الانتداب والمهاجرين اليهود، عمدت بريطانيا إلى تشكيل لجنة ملكية لبحث أسباب هذه الاضطرابات، والوقوف على طبيعة سياسات الانتداب ومظالم الأطراف المختلفة، وعُرفت اللجنة باسم رئيسها اللورد روبرت بيل. وذهب أعضاء هذه اللجنة إلى فلسطين في نوفمبر 1936، واستمعوا إلى مئات الشهادات من قِبل ممثلي الأطراف العربية واليهودية. وفي يوليو 1937، نُشر التقرير النهائي للجنة، والذي تضمن التوصية بتقسيم فلسطين إلى دولة عربية وأخرى يهودية.
2- قرار الجمعية العامة بتقسيم فلسطين: تمثل التوصية بتقسيم فلسطين الواردة في تقرير لجنة بيل، الأساس الذي اعتمد عليه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181، والصادر في 29 نوفمبر 1947، وذلك عندما كُلفت الجمعية العامة ببحث تسوية الأوضاع في فلسطين قبل انتهاء الانتداب البريطاني. وقامت الجمعية العامة بتشكيل لجنة لتقديم التوصيات الضرورية لمنع الاضطرابات واستعادة السلم، وبعد ذلك وضعت هذه اللجنة التوصية بتقسيم فلسطين إلى دولة عربية فلسطينية وأخرى يهودية، والاحتفاظ للقدس بمكانة دولية خاصة.
وظلت فكرة حل الدولتين عالقة، وتضمنتها العديد من المبادرات العربية، مثل "مبادرة الملك فهد" عام 1981، وإعلان وثيقة الاستقلال الفلسطيني عام 1988 بعد نشوب الانتفاضة الأولى، والقبول الفلسطيني "بدولتين لشعبين"، ثم جاء بعد ذلك اتفاق أوسلو أو إعلان المبادئ المُوقع في 13 سبتمبر 1993، والذي كان من المفترض أن تُفضي المرحلة النهائية منه لإقامة دولة فلسطينية بعد اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل، واعتراف الأخيرة بمنظمة التحرير كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، وصولاً إلى المبادرة العربية للسلام عام 2002.
وتعثر مسار أوسلو وتطبيقاته، خاصةً ما تعلق منه بقضايا المرحلة النهائية، أي الحدود والقدس واللاجئين في "مؤتمر كامب ديفيد 2" عام 2000، ثم نشبت الانتفاضة الثانية، وعندما تشكلت اللجنة الرباعية المكونة من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وضعت خطة الطريق التي أوصى بها الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش الابن، والتي رسمت معالم الطريق لإنشاء دولة فلسطينية بعد ترتيبات أمنية يتفق عليها.
أما الأمم المتحدة، فقد اعترفت، بموجب القرار 43/177 في 15 ديسمبر 1988، بإعلان دولة فلسطين الصادر عن المجلس الوطني الفلسطيني في 15 نوفمبر 1988، وأكدت حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير في أراضيه المحتلة منذ عام 1967. كما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 19/67 في 26 نوفمبر 2012، بالموافقة على منح فلسطين صفة دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة، ودعا القرار مجلس الأمن إلى النظر بشكل إيجابي في قبول طلب دولة فلسطين دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة.
معوقات التطبيق:
على الرغم من شبه الإجماع الدولي حول ضرورة حل الدولتين، باعتباره المخرج الوحيد الممكن من الدائرة المفرغة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والذي عبرت عنه تصريحات أغلب المسؤولين والقادة من مختلف الدول الأوروبية والولايات المتحدة والصين وروسيا وبقية الدول؛ فإن هذه المقاربة الدولية للحل ليست سهلة من الناحية الواقعية والعملية؛ إذ إن الخطاب والمواقف السياسية الخاصة بحل الدولتين تكتنفها في الواقع العملي صعوبات عديدة ومشكلات متجذرة.
ولعل أبرز هذه التحديات يتمثل في المناخ اليميني والديني المتطرف الذي يسود إسرائيل حالياً منذ صعود الائتلاف الحاكم بقيادة بنيامين نتنياهو، في ديسمبر 2022. صحيح أن التعبئة الإسرائيلية ضد حل الدولتين سابقة على تشكيل وحكم هذا الائتلاف؛ بسبب بقاء نتنياهو في قلب المشهد السياسي الإسرائيلي طيلة سنوات عديدة، وتشكيله لما يُسمى "اليمين الجديد" وجهده لتوحيد جبهة اليمين ورفضه لإقامة دولة فلسطينية، ومقاربته التي تتمثل في قدرة إسرائيل على التعايش مع التهديد الفلسطيني لعقود وإدارة الصراع بدلاً من حله. بيد أن صعود هذا الائتلاف منح المصداقية لتوجهات نتنياهو، فيما يتعلق بإنكار حل الدولتين وقدرة إسرائيل على التعايش مع الخطر الفلسطيني لعقود طويلة، خاصةً بعد إزاحة التيار العمالي اليساري وتهميشه، وهو التيار الذي ظل مسيطراً على الحياة السياسية في إسرائيل منذ نشأتها وحتى عام 1977؛ إذ تراجعت شعبية اليسار بدرجات متسارعة، وتجلى ذلك عملياً في خطة الحسم التي بمقتضاها يتم طرد الفلسطينيين أو العيش في ظل القوانين اليهودية، ومن يقاوم منهم تتكفل به المؤسسة العسكرية والأمنية. وهذه السيطرة اليمينية وخطة الإصلاح القضائي التي شرع في تنفيذها اليمين الحاكم؛ استهدفت تعزيز القيم اليمينية والدينية، وإغلاق الباب أمام التطلعات الفلسطينية.
يُضاف إلى ذلك، تدعيم الاستيطان في الضفة الغربية والقدس، والذي تفاقمت مظاهره في تطبيقات أوسلو؛ إذ تضاعف عدد المستوطنين خلال سنوات أوسلو. وبصعود اليمين الديني والقومي، ثمة خطط للاستيطان في الضفة الغربية خاصةً المنطقة (ج) التي تمثل 60% من مساحة الضفة الغربية. ويبلغ عدد المستوطنين 750 ألفاً في الضفة الغربية والقدس، وهي كتلة متماسكة وموحدة عقائدياً ودينياً، وفي نفس الوقت تحوز السلاح رسمياً، وتخصص لها موارد كبيرة لدعم الاستيطان والمستوطنين وحمايتهم من قِبل الجيش الإسرائيلي أو من حراس المستوطنات.
وعلى الصعيد الفلسطيني، فإن أهم تحديات تطبيق حل الدولتين تتمثل في الانقسام بين حركتي فتح وحماس، وهو الانقسام المُستمر منذ عام 2007 وحتى الآن. وهذا الانقسام سياسي بقدر ما هو أيديولوجي ومجتمعي، ويعوق وحدة الأراضي الفلسطينية، وإقامة نظام سياسي فلسطيني يجمع الأطياف كافة، ويتوافق مع أبسط قواعد تشكيل الدولة الوطنية التي من أهم مصادر قوتها احتكار العنف والسلاح واستخدامه لصالح المجتمع والدولة.
فضلاً عن ذلك، فإن استمرار الانقسام بين الفصائل الفلسطينية أفقد الحركة الوطنية الفلسطينية مصداقيتها دولياً، وأتاح فرصة لإسرائيل للاحتجاج بعدم وجود شريك فلسطيني في صُنع السلام، فضلاً عن الانقسام والتعارض بين نهج التسوية السياسية والدبلوماسية وبين نهج المقاومة المسلحة، وعدم تحقق الإجماع حول استراتيجية فلسطينية قادرة على احتواء مختلف أطياف الحركة الوطنية الفلسطينية في بوتقة واحدة.
وتجدر الإشارة إلى أن التوتر الإقليمي وسعي بعض الأطراف في المنطقة إلى استثمار القضية الفلسطينية، يؤدي دوراً مهماً في إعاقة التسوية المرتكزة على حل الدولتين، ويجعلها رهن الانخراط في تسوية شاملة للتوترات والصراعات الإقليمية، ويُعمق الانقسام على الصعيد الفلسطيني.
من ناحية أخرى، فإن غياب دور المجتمع الدولي في تعزيز أسس حل الدولتين، وعدم ممارسة ضغوط كافية على إسرائيل خاصةً من قِبل الولايات المتحدة باعتبارها الداعم الرئيسي لها، والتعامل مع خطاب حل الدولتين كما لو كان خطاباً يتردد صداه بين الحين والآخر دون خطوات حقيقية وملموسة قادرة على الإقناع؛ أسهم في عدم تنفيذ هذا الحل. وربما يكون طرح حل الدولتين في الفترة الأخيرة مؤشراً على إدراك المجتمع الدولي لخطورة إهماله وتجاهله طيلة هذه السنوات.
تأثير حرب غزة:
يمكن القول إن عملية "طوفان الأقصى" والحرب الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023، قد أفضيتا إلى ظهور تأثيرات متضاربة بل ومتناقضة. فمن ناحية، تصدر تأييد حل الدولتين الواجهة الدولية بعد تكشف طبيعة الحرب وآثارها المدمرة، واعتبار أن هذا الحل هو الوحيد الممكن والمقبول. وتبنت الولايات المتحدة والعديد من دول الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن الصين وروسيا وغيرها من دول المنطقة والعالم المؤيدة لهذا المسار، حل الدولتين وأخذت تبحث عن شكل الاعتراف بالدولة الفلسطينية المقبلة واستئناف المفاوضات. ويقف وراء هذا الأمر إدراك المجتمع الدولي لخطورة صمته وتجاهله لتفعيل هذا الحل، بل رأى البعض أن استمرار الاستيطان، والائتلاف الإسرائيلي الحاكم وممارساته، هو ما أفضى إلى عملية "طوفان الأقصى" بالرغم من الإدانة الواسعة التي حظيت بها هذه العملية من قِبل الدول الغربية.
بيد أن ظهور حل الدولتين وإعادة دعمه عقب حرب غزة، كان مقروناً بفقدان الثقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وتجلى ذلك في دعم الإسرائيليين للحرب وعمليات القتل في غزة، وتصاعد التحريض والكراهية ضد الفلسطينيين سواء في القطاع أم الضفة الغربية. أما الفلسطينيون فقد اكتشفوا طبيعة القوة الإسرائيلية وقدرتها على تدمير حياتهم وإدارة الظهر للأعراف الدولية والقانون الدولي الإنساني وضخامة عدد الضحايا بالذات من النساء والأطفال.
وترتب على ذلك، تسارع التجريد المتبادل من الإنسانية لدى الطرفين. فالإسرائيليون لا ينظرون إلى الفلسطينيين كشركاء للسلام أو كأشخاص يستحقون المساواة بسبب ما فعلوه في 7 أكتوبر عام 2023. وعلى الجانب الفلسطيني، يُلاحظ أن ثمة تطورات مماثلة بسبب القتل والدمار في غزة؛ إذ يرى الفلسطينيون أن أولئك الذين يستهدفون النساء والأطفال ويقتلون عائلات بأكملها عمداً ويهدمون أحياءً كاملة، لا يمكنهم أن يكونوا بشراً. ولهذه الظاهرة آثار كارثية في المستقبل، وفقاً لاستطلاعات الرأي التي أجراها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في رام الله.
وعلى الرغم من كارثية الوضع الراهن، فإنه قد يخلق فرصة للحل خاصةً إذا أدركت الأطراف فداحة الاستمرار على هذا النحو، أو إذا ما وصلت إلى مرحلة الإنهاك والإرهاق ولم تتمكن من تحقيق أهدافها بالقوة على النحو المُعلن.
وبالتالي فإن الأمل في السلام قد يتعزز من خلال حل الدولتين، ولكن مع توفر بعض الشروط، أولها بلورة الخطاب الدولي حول الحل في وثيقة أممية صادرة عن مجلس الأمن، إما بتعديل القرار 242 ليتوافق مع حل الدولتين وانتزاع الغموض الذى يحيط به، والنص بوضوح على حل الدولتين وإنشاء دولة فلسطينية في الأراضي التي احتُلت عام 1967 بما فيها القدس الشرقية، أو استصدار قرار جديد من مجلس الأمن ينص على إقرار وتنفيذ حل الدولتين وفق قرارات الأمم المتحدة وتحديد آلية تنفيذه، إما من خلال مؤتمر دولي برعاية أممية أو مفاوضات برعاية دولية. يُضاف إلى ذلك، إنهاء الانقسام الفلسطيني - الفلسطيني، وانضمام حماس والجهاد الإسلامي إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني من خلال الانتخابات وقبول حماس والجهاد لهدف الدولة الفلسطينية في الأراضي التي احتُلت عام 1967.