أخبار المركز

"الجيل زد":

لماذا تستمر الاحتجاجات في كينيا رغم التراجع عن زيادة الضرائب؟

08 يوليو، 2024


استمرت الاحتجاجات المناهضة للحكومة في العاصمة الكينية نيروبي، في 2 يوليو 2024، وأسفرت عن مقتل نحو 39 شخصاً، وإصابة 361 آخرين، بحسب اللجنة الكينية لحقوق الإنسان. 

وبدأت الاحتجاجات في كينيا، في 18 يونيو 2024 بشكل سلمي، يقودها أبناء "الجيل زد" عبر منصات التواصل الاجتماعيX  وTikTok وInstagram؛ وذلك بهدف إجبار السلطات على إسقاط مشروع قانون المالية الذي يقضي بفرض ضرائب ورسوم جديدة على عدد من السلع والخدمات الأساسية، واتخذت تلك الاحتجاجات منحى عنيفاً في 25 يونيو 2024 بعدما اتجهت قوات الشرطة لإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين؛ مما أدى إلى مقتل وإصابة العشرات، واتجّه الشباب المحتجون للتصعيد باقتحام مقر البرلمان الكيني وإحراقه. 

ورغم قرار الرئيس الكيني ويليام روتو بسحب مشروع قرار المالية غداة اقتحام البرلمان، لم يتراجع المحتجون بل ارتفع سقف مطالبهم، وأصبحوا ينادون برحيل الرئيس، لتسود حالة من "عدم اليقين" بشأن مُستقبل كينيا التي تُعَد المركز الاقتصادي لإقليم شرق إفريقيا.

احتجاجات بلا قيادة:

على النقيض تماماً من الخبرة الكينية الممتدة في ظاهرة العنف السياسي، والتي تتزامن مع موسم الانتخابات، تأتي الاحتجاجات هذه المرة لأسباب اقتصادية بحتة، كما أنها تتسم -ولأول مرة- بغياب القيادة، وذلك في مشهد مُغاير للاحتجاجات التي شهدتها البلاد العام الماضي، والتي كانت هي الأخرى لأسباب اقتصادية، ولكن بقيادة ائتلاف المعارضة الكينية أزيميو لا أوموجا، الذي يتزعمه زعيم المعارضة رايلا أودينغا. وثمَّة مجموعة من العوامل التي دفعت إلى نقطة الغليان في كينيا في الآونة الأخيرة، وأبرزها: 

1. مشروع قانون المالية: يُعَد السبب المُباشر لتلك الاحتجاجات، وكان غاية مشروع القانون رفع أو فرض الضرائب أو الرسوم على مجموعة من السلع والخدمات اليومية بما في ذلك الإنترنت والوقود والتحويلات المصرفية. وكان هذا القانون جزءاً من محاولات الحكومة الكينية لجمع 2.7 مليار دولار إضافية من الإيرادات المحلية؛ لاستخدمها في سداد الديون، وخفض عجز الميزانية؛ وهو الأمر الذي اعتبره المحتجون بمثابة عقاب أو تحميلهم أعباء فاتورة الديون الخارجية للبلاد خصوصاً أنه قد سبقه قانون المالية لعام 2023، والذي أثار حفيظة المواطنين آنذاك بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة، ولكن ليس بذات القدر الذي خلَّفه مشروع قانون العام الجاري.

2. أزمة الثقة وغياب المساءلة: ربما تكون الاحتجاجات قد اندلعت بسبب مشروع قانون المالية، لكن الشعور بالإحباط لدى أبناء "الجيل زد" -مصطلح يُطلق على الأشخاص الذين وُلدوا في أواخر التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين- تزايد يوماً بعد يوم بسبب الفشل في العثور على عمل، وارتفاع تكلفة المعيشة بشكل مُبالغ فيه، وإخفاق النمو الاقتصادي في مواكبة النمو السكاني.

وتُلاحظ حالة الغضب التي تنتاب المحتجين من أبناء هذا الجيل إزاء الطريقة التي تُدير بها الحكومة اقتصاد الدولة؛ وهي طريقة تتسم -من وجهة نظرهم- بغياب الرشاد والشفافية والمساءلة؛ مما فاقم كثيراً أزمة الثقة بين المواطن والحكومة، ولاسيما أنه قد تمَّ انتخاب الرئيس روتو، في عام 2022 على أساس تعهُّدات بدعم محدودي الدخل، وخفض تكاليف المعيشة. لكن وعلى العكس من ذلك تماماً، اتخذ الرئيس سلسلة من الإجراءات المالية التي عارضها المواطنون، بما في ذلك إلغاء دعم الوقود ودقيق الذرة، وفرض ضريبة على الإسكان، واقتراح برنامج للتأمين الصحي بتكاليف أعلى؛ وهو الأمر الذي دفع المحتجين للمطالبة بمساءلة الحكومة، والتحقيق في الفساد والتجاوزات بدلاً من زيادة الضرائب. واستدلَّ البعض على ذلك بطلب نائب الرئيس ريجاتي جاتشاغوا، في مشروع القانون مبلغ 20 مليون دولار لتجديد مكاتبه؛ بحجة أنها لم يتم تجديدها طوال السنوات الخمس عشرة الماضية. 

وجدير بالذكر أن جاتشاغوا قد اتهم المدير العام لجهاز المخابرات الكينية، نور الدين حاجي، بالفشل في تقديم المشورة الكافية للرئيس بشأن مشروع قانون المالية 2024، الذي أدى إلى فوضى واسعة النطاق وخسائر في الأرواح ووصف نائب الرئيس حاجي بأنه غير كفء ومليء بعقدة النقص؛ وقد فتح هذا التصريح ردود فعل متباينة بين من يؤيدها ومن يرى أنها تمثل أساساً لإقالته.

3. الدور الفعّال لوسائل التواصل الاجتماعي: خرجت أولى الاحتجاجات الكبرى لإسقاط مشروع قانون المالية في الشوارع في 18 يونيو 2024، بعد أن حظي هاشتاغ#RejectFinanceBill2024  بانتشار واسع على مواقع التواصل الاجتماعي خصوصا لدى أبناء "الجيل زد"، ولعل الشعبية التي لاقاها الهاشتاغ رغم عدم وجود أية قيادة لهذه الحركة الاحتجاجية تنبع من كون أولئك الشباب غير مُسيّسين، وهم يؤكِّدون مراراً أنهم قد خرجوا "بلا قبليّة، وبلا أحزاب، وبلا خوف". وعلى هذا الأساس، انسلخ المحتجون -وغالبيتهم من أبناء هذا الجيل- عن أية ولاءات إثنية أو سياسية، ولم يُدشِّنوا أية تحالفات على أساس تلك الولاءات التي كانت سبباً رئيساً في تآكل المؤسسات الكينية. 

اقتصاد مُتعثر: 

يمر الاقتصاد الكيني بواحدة من أسوأ أزماته في السنوات الأخيرة بعد أعمال العنف التي أعقبت انتخابات 2007/2008، والأزمة المالية العالمية (2008/2009)، وجائحة "كورونا" عام 2020، ولعل الإخفاق الحكومي في إدارة الأزمات الاقتصادية والمالية كان هو العامل الأهم في دفع المحتجين للخروج في نحو 35 مُقاطعة من إجمالي 47 مقاطعة في كينيا، وفيما يلي، أبرز أبعاد الأزمة الاقتصادية، وتعثُّر المسار الاقتصادي الكيني في السنوات الماضية:

1. تفاقُم أزمة الديون: اتجهت كينيا -مثل غيرها من الدول الإفريقية- نحو الاقتراض بكثافة على مدار العشرين عاماً الماضية، عندما كانت أسعار الفائدة مُنخفضة، وكانت الصين تضخ الاستثمارات عبر مبادرة "الحزام والطريق"، ولاسيما في قطاع البنية التحتية. ونتيجة لذلك؛ تراكمت ديون ضخمة على كينيا تبلغ نحو 82 مليار دولار لبناء الطرق والسكك الحديدية والمصانع. وتشير التقديرات في هذا الصدد إلى ارتفاع حجم الدين العام في كينيا ليصل إلى 68% من الناتج المحلي الإجمالي لكينيا، وهو مستوى أعلى بكثير من المستوى الذي يقترحه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والذي يبلغ 55% من الناتج المحلي الإجمالي. 

ولم يشعر العديد من الكينيين بجدوى أو مردود تلك المشروعات -التي لم يكتمل بعضها- التي اقترضت الحكومة الأموال لأجلها، فضلاً عن التساؤلات بشأن آليات الاستفادة من الأموال التي تم اقتراضها، وتُهم بفساد دوائر الحكم، ونهب تلك القروض. ومن ثم، اتجه المواطنون لترجمة أي قرار أو تحرُّك مالي من قِبل الحكومة مثل مشروع قانون المالية على أنه محاولة لنقل عبء الدين إلى المواطن. ويُظهر الشكل ارتفاع حجم الديون الخارجية الكينية خلال الفترة (2000-2022).

2. ارتفاع معدلات التضخم: تُشير أحدث تقديرات مكتب الإحصاءات الوطني الكيني (KNBS) إلى ارتفاع معدل التضخم الرئيسي السنوي مُقاساً بمؤشر أسعار المستهلك (Consumer Price Index) إلى 5.1% في مايو 2024 من 5.0% في إبريل 2024. وهذا يعني أن المستوى العام للأسعار في مايو 2024 يُعَد أعلى بنسبة 5.1% مقارنةً بمستوى الأسعار في مايو 2023، وهذا الارتفاع سببه ارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية ضمن قطاع النقل بـ (8.1%)، والأغذية والمشروبات غير الكحولية بـ (6.2%)، والإسكان والمياه والكهرباء والغاز وأنواع الوقود الأخرى بـ (4.4%) بين مايو 2023 ومايو 2024.

3. انعدام الأمن الغذائي: يرجع إلى مجموعة من الصدمات، بما في ذلك الجفاف المستمر، والصراع المحلي القائم على الموارد، علاوة على ارتفاع أسعار المواد الغذائية نتيجة للحرب المستمرة في أوكرانيا، وتُظهر التقديرات تدهوراً غير مسبوق في وضع الأمن الغذائي في كينيا؛ إذ عانى أكثر من 5.4 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي الحاد بين مارس ويونيو 2023.

4. ارتفاع تكلفة الاحتجاجات الراهنة: وفقاً لنائب الرئيس ريجاتي جاتشاغوا، فقد كلّفت الاحتجاجات كينيا خسائر تُقدَّر بحوالي 15 مليون دولار حتى اللحظة الراهنة، لكنه في الوقت ذاته حاول طمأنة المستثمرين، مؤكِّداً التزام الدولة بضمان بيئة آمنة ومواتية ومستدامة لمجتمع الأعمال. 

ردود الأفعال الدولية:

حظيت الاحتجاجات الكينية بردود فعل دولية واسعة، ولاسيما عقب المشاهد التي تناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الدولية، وأظهرت مواجهة الشرطة الحشود التي خرجت للاحتجاج السلمي بالذخيرة الحية، وما تلا ذلك من اتخاذ الاحتجاجات مساراً عنيفاً تجلّى في اقتحام مقر البرلمان، وجاءت تلك الردود على النحو التالي:

1. الاتحاد الإفريقي: حثَّ رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي موسى فكي -في بيان نُشر على مواقع التواصل الاجتماعي- الأطراف المعنية على التزام الهدوء والامتناع عن ارتكاب المزيد من أعمال العنف في كينيا، مُؤكِّداً أنه يتابع "بقلق عميق" اندلاع أعمال العنف في أعقاب الاحتجاجات العامة في كينيا، والتي أسفرت عن خسائر في الأرواح وأضرار في الممتلكات.

2. الأمم المتحدة: صرَّح المتحدث باسم الأمين العام ستيفان دوجاريك، بأن الأمين العام للأمم المتحدة يدعو الشرطة وقوات الأمن الكينية إلى ممارسة ضبط النفس، مُؤكِّداً القلق العميق إزاء التقارير عن أعمال العنف التي تشهدها كينيا، وما أفضت إليه من وفيات وإصابات، بما في ذلك الصحفيين والعاملين في المجال الطبي، وشدد على ضرورة احترام حق التظاهر السلمي، وممارسة ضبط النفس.

3. الولايات المتحدة الأمريكية: أكَّد المتحدث باسم الأمن القومي بالبيت الأبيض جون كيربي، للصحفيين، أن الولايات المتحدة تشعر بقلق عميق وتدين أعمال العنف بكل أشكالها، مُتابعاً أن بلاده على اتصال بالحكومة الكينية لحث الشرطة على الاستخدام المناسب للقوة واحترام حقوق الإنسان، ومواصلة الضغط من أجل سيادة الهدوء.

4. البعثات الدبلوماسية في كينيا: أعلنت سفارات كلٍ من بلجيكا وكندا والدنمارك وإستونيا وفنلندا وألمانيا وإيرلندا وهولندا والنرويج ورومانيا والسويد والمملكة المتحدة والولايات المتحدة بكينيا -في بيان مُشترك- صدمتها من المشاهد التي شهدتها خارج البرلمان الكيني، بما في ذلك استخدام الذخيرة الحية، وأسفها البالغ بشأن الخسائر المأساوية في الأرواح والإصابات، مؤكِّدين ترحيبهم بالمشاركة المدنية من قِبل جميع الكينيين خاصة الشباب، في معالجة القضايا ذات الاهتمام العام، فضلاً عن دعوة جميع الأطراف إلى ضبط النفس، وإيجاد حلول سلمية من خلال الحوار البنَّاء.

وفي التقدير، يمكن القول إنه ليس هناك ثمَّة مؤشر -حتى اللحظة الراهنة- يُدلِّل على انتهاء الاحتجاجات في كينيا في أي وقت قريب، وإنما تؤكِّد كل المؤشرات أن الاحتجاجات تتجه نحو الاستمرار، وأول تلك المؤشرات أن المحتجين لم يتراجعوا رغم قرار الرئيس الكيني ويليام روتو بسحب مشروع قانون المالية بل استمرت الاحتجاجات، وثانيها ارتفاع سقف مطالب المحتجين، والتي تجاوزت فكرة سحب مشروع قانون المالية إلى المطالبة برحيل الرئيس، أما المؤشر الثالث، فهو أن كينيا بصدد ظاهرة جديدة لا يمكن التنبؤ بها؛ فالشباب من أبناء "الجيل زد" نجحوا حتى الآن في تجاوز أية انقسامات إثنية أو سياسية مما ساعدهم على حشد المتظاهرين من كافة الأطياف، لتتجاوز الاحتجاجات العاصمة نيروبي إلى أجزاء أخرى من كينيا، بما في ذلك مدينة مومباسا في المحيط الهندي، وحتى في إلدوريت، والتي كانت معقلاً لدعم الرئيس الكيني.

ويتمثَّل المؤشر الرابع في غياب القيادة عن تلك الاحتجاجات؛ ومن ثم، من المُرجَّح أن تكون هناك صعوبة في تقديم المطالب بشكل واضح ومحدد، والدخول في جولات تفاوضية مع الحكومة؛ ومن ثم صعوبة في الوصول إلى اتفاق محدد لإنهاء التظاهرات. 

إن استعادة الاستقرار في كينيا لا تُشكِّل أهمية بالغة بالنسبة لسكان كينيا الذين يبلغ تعدادهم 56 مليون نسمة فحسب، بل تمتد أهميتها إلى نطاق أوسع نظراً للأدوار الإقليمية التي تؤديها كينيا، سواء على المستوى الاقتصادي أم على مستوى الاستقرار السياسي والأمني لإقليم شرق إفريقيا؛ فكينيا هي المركز الاقتصادي لشرق إفريقيا وأجزاء من وسط إفريقيا. وتحتاج دول الإقليم وغيرها مثل: أوغندا ورواندا وبوروندي وجنوب السودان والأجزاء الشرقية من جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى ميناء مومباسا -وهو الأكبر في المنطقة- في حركة تجارتها الخارجية، كما أن العاصمة الكينية تُعَد أكبر مركز مالي وتجاري في المنطقة. وعلى الصعيد الدبلوماسي، ينشط المسؤولون الكينيون في ملف تسوية الصراعات في إثيوبيا والسودان وشرق الكونغو، كما انتشرت القوات الكينية لحفظ السلام في شرق الكونغو الديمقراطية، ومواجهة حركة الشباب والجماعات المتطرفة الأخرى في الصومال والمنطقة.