وافق مجلس النواب العراقي، في 1 ديسمبر الجاري، على استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، بعد يوم واحد فقط من تقديمها بشكل رسمي، والتي تأتي في ظل ضغوط شعبية تنادي باستقالة حكومته بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لفترة طويلة. وعلى مدار شهر أكتوبر الماضي، شهدت عدة مدن عراقية احتجاجات واسعة تسببت على نحو واضح في تعطل جزئي لبعض الأنشطة الاقتصادية الحيوية في البلاد بما في ذلك الموانئ والنفط. وعلى ما يبدو، فإن استقرار الاقتصاد العراقي في الفترة المقبلة سيتوقف على مدى قدرة الحكومة المقبلة على استيعاب المطالب الشعبية بصفة عاجلة.
دوافع مختلفة:
تصاعدت الاحتجاجات الشعبية في عدة مدن عراقية منذ الأول من أكتوبر الماضي، اعتراضاً على سوء الأوضاع المعيشية ونقص الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه وارتفاع معدلات البطالة والفقر. وقد عانى الاقتصاد من تدهور شديد في السنوات الماضية بسبب الحرب ضد تنظيم "داعش"، علاوة على انخفاض أسعار النفط منذ منتصف عام 2014، والذي أثر بشدة على الأوضاع المالية، حيث تشكل عائدات الخام أكثر من 80% من الإيرادات الحكومية.
وطبقاً لبيانات البنك الدولي، فقد عانى الاقتصاد من انكماش في عام 2017 بنسبة –2.5%، قبل أن يتقلص نسبياً إلى –0.6% في عام 2018، مما يعكس تحسناً نسبياً في الأوضاع الاقتصادية نتيجة زيادة إنتاج النفط إلى مستوى قارب على 5 مليون برميل يومياً.
ورغم ذلك، لازالت العراق تواجه مشكلات اقتصادية جمة يتمثل أهمها في ارتفاع معدلات البطالة التي وصلت إلى نحو 9.9% في عام 2018، في حين أنها تزيد عن نسبة 20% بين صفوف الشباب، وهو ما يفسر أن هذه الفئة كانت المُحرِّك الرئيسي للاحتجاجات الشعبية.
فضلاً عن ذلك، تعاني معظم الأراضي العراقية من نقصٍ حاد في الخدمات الأساسية بما في ذلك الكهرباء والمياه النظيفة. وتواجه العراق فجوة كبيرة في إمدادات الكهرباء، حيث تنتج ما بين 18 إلى 19 ميجاوات، بينما تزيد احتياجاتها عن 24 ألف ميجاوات، لاسيما في فصل الصيف، على نحو يؤدي إلى حدوث انقطاعات متكررة للتيار الكهربائي لساعات طويلة.
ويعتبر كثير من العراقيين أن البلاد لديها موارد مالية كافية لتحسين الخدمات العامة وتوفير مستوى معيشي مناسب لهم، حيث تحصل الحكومة على إيرادات سنوية تتراوح بين 70 إلى 80 مليار دولار من مبيعات النفط الخام، إلا أنه يتم إهدار قسم كبير من هذه الأموال، حسب اتجاهات عديدة، بسبب انتشار الفساد والمخصصات الكبيرة لصالح المليشيات العسكرية المنتشرة في أنحاء مختلفة بالعراق.
تداعيات مباشرة:
تأثر الاقتصاد العراقي على خلفية الاحتجاجات الشعبية الأخيرة، حيث تراجعت بعض الأنشطة الاقتصادية بسبب توقف العديد من المصالح الحكومية والشركات عن العمل نتيجة الاعتصامات والإضرابات العمالية وغلق الطرقات والجسور. وكان قطاعا الموانئ والاتصالات من أبرز القطاعات المتأثرة بالأحدث الأخيرة.
وبالنسبة لقطاع الموانئ، فقد تكبد خسائر مالية تقدر بنحو 10 ملايين دولار يومياً بحسب بعض الترجيحات، نتيجة إغلاق الطرق المؤدية إلى ميناء أم قصر في البصرة، والذي يعد من أهم المنافذ البحرية للبلاد لاستيراد معظم احتياجاتها من الأغذية والأدوية وغيرها، وهو ما يعني أن إغلاق هذا الميناء كلياً أو جزئياً قد يؤثر سلباً بشدة على تلبية احتياجات الأسواق من السلع الأساسية.
أما عن قطاع الاتصالات، فقد أدى الانقطاع المتكرر لخدمات الإنترنت في الفترة الماضية إلى توقف المعاملات التجارية والمالية للعديد من الشركات والبنوك والمصالح الحكومية، وهو ما كبّد القطاع خسائر تقدر بنحو 1.385 مليار دولار خلال أكتوبر الماضي بحسب شركة "نت بلوكس". وتمثل هذه الخسارة ما يقرب من 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، بحسب تقرير للشركة.
كما تأثر قطاع النفط هو الآخر ولكن بشكل محدود، فقد أغلق المحتجون في بعض الأحيان الطرق المؤدية إلى عدد من حقول النفط في المحافظات الجنوبية بما في ذلك حقلى الغراف والقرنة وغيرهما، وبما أدى إلى شلل جزئي في تشغيل بعضها نتيجة عدم قدرة العمال على الذهاب لأعمالهم. ورغم ذلك، فقد شهد الإنتاج تراجعاً طفيفاً في أكتوبر الماضي، حيث بلغ الإنتاج، حسب بيانات منظمة أوبك، 4,690 مليون برميل يومياً مقابل 4,732 مليون برميل يومياً في سبتمبر الماضي.
خطوة تمهيدية:
يتأهب العراقيون بشدة للخطوة التالية لموافقة البرلمان على استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي. ودستورياً، من المقرر أن يقوم الرئيس العراقي برهم صالح بتعيين رئيس وزراء جديد حسب المادة 76 من الدستور. وبموجب الأخيرة، يُكلِّف رئيس الجمهورية مرشحاً جديداً من الكتلة النيابية الأكبر في البرلمان، على أن يقوم الأخير بالموافقة عليه. ولكن حال فشل البرلمان في الموافقة عليه لمرتين، يمكن لرئيس الجمهورية أن يحل البرلمان ويدعو إلى انتخابات مبكرة.
وبشكل عام، تمثل استقالة عبد المهدي خطوة تمهيدية لاحتواء الاحتجاجات الشعبية، إلا أنها لا تلبي بشكل كامل تطلعات المحتجين الطامحين إلى تغيير النظام السياسي والاقتصادي بشكل جذري، حيث يرون أن تغيير رئيس الوزراء بآخر لن يقدم كثيراً من الحلول لأوضاعهم المتردية لعقود.
وعليه، يمكن القول إن استقالة رئيس الوزراء ستخفف نوعاً ما من حدة الاحتجاجات الشعبية ولكن لن تحتويها بشكل نهائي، إلا إذا تمت الاستجابة لمطالب المحتجين بشكل يضاهي تطلعاتهم الرامية لتحسين الأحوال المعيشية والاقتصادية.
ولحين تشكيل حكومة جديدة تستطيع تحقيق المطالب الشعبية وإجراءات الإصلاحات الاقتصادية اللازمة، فإن البلاد ستواجه مرحلة انتقالية من عدم الاستقرار السياسي والأمني بما يزيد من حدة عدم اليقين السياسي والاقتصادي، والتي قد تتسبب في تراجع واضح للنشاط الاقتصادي، لاسيما إذا ما واصل المحتجون استخدام آليات مثل إغلاق الطرق والإضرابات كوسيلة ضغط على الأطراف السياسية لتحقيق مطالبهم.
وختاماً، يمكن القول إن الاحتجاجات الشعبية الأخيرة وما تلاها من استقالة رئيس الوزراء سوف تؤثر سلباً على النشاط الاقتصاد في العراق، وهو ما يقتضي من مختلف الأطراف السياسية تقليص حدة الخلافات فيما بينها من أجل اتخاذ الإصلاحات الاقتصادية العاجلة لاحتواء الغضب الشعبي.