تتابع إيران بدقة وحذر التطورات التي طرأت على الساحتين العراقية واللبنانية في الفترة الأخيرة. ولا يعود ذلك فقط إلى أن المحتجين في الدولتين تبنوا شعارات وسعوا إلى تحقيق أهداف مناهضة لنفوذها في كل من بغداد وبيروت، وإنما يعود أيضاً إلى أنها تتوازى مع ضغوط إقليمية ودولية غير مسبوقة تتعرض لها طهران، على ضوء الخطوات التصعيدية التي اتخذتها فيما يتعلق ببرنامجها النووي ودورها الإقليمي، في سياق التصعيد المتواصل مع الولايات المتحدة الأمريكية، والذي كانت له انعكاسات مباشرة داخل العاصمتين. ومن هنا، يمكن تفسير عدم ترحيب طهران بتلك التطورات وحرصها على تبني مواقف مناوئة لها.
سياق غير مواتٍ:
بدت إيران في البداية حريصة على اتخاذ موقف حذر تجاه الاحتجاجات التي شهدتها العراق ولبنان، والتي وصلت تأثيراتها في الأخيرة إلى حد تقديم رئيس الحكومة سعد الحريري استقالته للرئيس ميشال عون في 29 أكتوبر الجاري. لكنها سرعان ما بدأت في مهاجمتها، لاسيما عندما طالت حلفائها من القوى السياسية التي تشارك في إدارة شئون الدولتين. ومن دون شك، فإن ذلك لا يمكن فصله عن مجموعة من الاعتبارات التي كان لها تأثير مباشر على ما آلت إليه السياسة الإيرانية إزاء تلك الاحتجاجات، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- توقيت صعب: جاءت الاحتجاجات التي اندلعت في كل من العراق ولبنان بالتوازي مع تصاعد حدة الضغوط الإقليمية والدولية التي تتعرض لها إيران في الفترة الحالية، وذلك على خلفية التطورات المتلاحقة التي شهدتها المنطقة بالتوازي مع اتخاذها إجراءات تصعيدية مثل مواصلة تقديم الدعم لحلفائها من الميليشيات المسلحة الموجودة في بعض دول الأزمات.
كما أنها تأتي في سياق اتساع نطاق التوتر على الساحة الدولية، والذي لم يعد ينحصر في العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية فقط، وإنما بدأ يمتد حتى إلى الدول الأوروبية، التي كانت حريصة في الفترة الماضية على مواصلة العمل بالاتفاق النووي، لكن الإجراءات الإيرانية الخاصة بتخفيض الالتزامات النووية لم تترك لها خيارات متعددة، فضلاً عن أن بعض الخطوات التي اتخذتها طهران ساهمت في توسيع نطاق الخلافات بين الطرفين، على غرار احتجاز السفينة البريطانية في 19 يوليو الماضي رداً على احتجاز القوات البريطانية، بالتعاون مع سلطات جبل طارق، للسفينة الإيرانية التي كانت متجهة إلى سوريا، قبل ذلك بأسبوعين، إلى جانب التحفظات الأوروبية المستمرة تجاه الأدوار التي تقوم بها إيران على الساحة الإقليمية.
2- اختبار النفوذ: لم تستثن الاحتجاجات الحالية حلفاء إيران من تحمل المسئولية عن تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في كل من العراق ولبنان، ليس فقط بسبب الشبهات التي تدور حول بعضهم، وإنما أيضاً لأنها قوى مشاركة في السلطة، ولها دور أساسي في عملية اتخاذ القرار على المستويين الداخلي والخارجي.
وهنا، فإن المشكلة تبدو أكبر بالنسبة لإيران، لأن اتهام حلفائها بالمسئولية عن تصاعد حدة الأزمات يعني أيضاً أن لها دور في ذلك لا يمكن التغاضي عنه. وقد كان لافتاً أن الاحتجاجات امتدت إلى مناطق الجنوب في الدولتين، والتي يبرز فيها نفوذ القوى والميليشيات الموالية لها.
3- تأثير العقوبات: يكشف تصاعد حدة تلك الاحتجاجات عن أن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية على إيران أنتجت تداعيات مباشرة على الأرض، خاصة فيما يتعلق بدعمها للميليشيات الموالية لها في بعض دول الأزمات. صحيح أن تلك الميليشيات لديها أنشطة اقتصادية خاصة لتنويع مصادر تمويلها، إلا أن ذلك لا يقلص من أهمية هذا الدعم، الذي وصل في حالة حزب الله، على سبيل المثال وطبقاً لما تكشفه التقديرات، إلى ما يتراوح بين 700 و800 مليون دولار سنوياً.
وقد بدا جلياً أن العقوبات أدت إلى تقليص هذا الدعم بشكل دفع الحزب إلى تبني خطط للتقشف. وهنا، فإن اتجاهات عديدة ترى أن هذا المتغير كان له دور في امتداد الاحتجاجات إلى مناطق الجنوب، التي تمثل المعقل السياسي والاجتماعي لحلفاء طهران.
4- حسابات داخلية: تأثرت الرؤية الإيرانية للأحداث التي تشهدها العراق ولبنان في الفترة الحالية بالأزمة التي تعاني منها إيران، وبدت جلية في اندلاع احتجاجات متواصلة على مدار العامين الماضيين، بدأت في ديسمبر 2017. وربما يكون ذلك هو ما يدفع طهران إلى تبني موقف مناهض لتلك الاحتجاجات، على أساس أن اقتراب حلول الذكرى الثانية للاحتجاجات الإيرانية التي امتدت إلى نحو 100 محافظة ومدينة، يمكن أن يضفي مزيداً من الأهمية والزخم على ما يحدث داخل كل من العراق ولبنان، وربما يزيد من احتمالات تجددها في إيران مرة أخرى.
تحركات مضادة:
من هناك اتبعت الأطراف الإيرانية المعنية بمتابعة التطورات السياسية في كل من العراق ولبنان آليات عديدة في تعاملها معها، يتمثل أبرزها في:
1- تبني نظرية المؤامرة: على غرار ما حدث في الاحتجاجات الداخلية الإيرانية، وصفت بعض الاتجاهات الإيرانية ما يحدث بأنه عبارة عن "مؤامرة" لتقويض دعائم المحور الذي تقوده إيران، لاسيما بعد التطورات التي فرضت نفسها على المشهد الإقليمي خلال الفترة الأخيرة، في كل من سوريا والعراق ولبنان.
2- تقليص زخم الاحتجاجات: ركز التعاطي الإيراني مع الاحتجاجات على أن الأسباب الاقتصادية هى المتغير الرئيسي الذي أدى إلى تأجيجها، وذلك بهدف صرف الانتباه عن الأسباب الأخرى التي ساهمت في ذلك، ولم تكن بعيدة عن التداعيات التي تفرضها علاقاتها مع بعض القوى والميليشيات التي تمثل أرقاماً في المشهد السياسي الداخلي في كل من العراق ولبنان.
3- تأييد الدولة: حرصت إيران من البداية على تأكيد خيارها الداعم للحكومتين اللبنانية والعراقية. ومن دون شك، فإن هذا الموقف لا يبدو في حاجة إلى تفسير في حالة العراق، باعتبار أن معظم القوى السياسية المشاركة في الحكومة قريبة من إيران وحلفائها من الميليشيات. أما في حالة لبنان، فإن الأمر يبدو مختلفاً نسبياً، باعتبار أن الهدف الأساسي من دعم بقاء حكومة الحريري، قبل استقالته، يكمن في تجنب نزع الشرعية السياسية التي يحظى بها حزب الله باعتباره مشاركاً فيها، وهو ما يكتسب أهمية خاصة في ضوء الضغوط والعقوبات التي يتعرض لها الحزب من جانب الولايات المتحدة الأمريكية.
إن ما سبق في مجمله يشير إلى أن إيران تتحرك تدريجياً للانخراط كطرف مباشر في الاحتجاجات التي تشهدها لبنان والعراق خلال الفترة الحالية، بعد أن بدأت تعتبر أنها الطرف الإقليمي المستهدف منها.