يدخل الصراع المسلح في السودان أسبوعه الرابع، حاملاً معه أزمات اقتصادية وسياسية من شأنها أن تسهم في تعقيد الأزمة السودانية المستمرة منذ عدة سنوات، عوضاً عن تعميق الأزمة الإنسانية، فالصراع الذي انطلق بين عشية وضحاها بشكل مفاجئ قد ترك أثره السلبي في الوضع الإغاثي في بلد فقير يعاني من تداعٍ في البنى التحتية وإهمال دولي ملحوظ، وضعف مؤسساتي ناجم عن إرث الأنظمة السابقة أو بسبب حالة "اللادولة" منذ الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير عام 2019.
تفريغ البنية التحتية الإنسانية
بالعودة للخلف؛ كان الرئيس السابق عمر البشير قد انتهج سياسة "طرد" المنظمات الإنسانية الدولية للرد على المواقف الأوروبية والأمريكية تجاهه، دون النظر إلى تداعيات هذا الطرد على الوضع الإنساني والإغاثي المتدهور في السودان سواءً بفعل الحرب في دارفور أو بسبب تدهور الخدمات التي تقدمها الدولة.
وكان عام 2009 بداية لتطبيق سياسة "طرد" المنظمات الدولية رداً على قرار محكمة العدل الدولية بإصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس البشير بتهمة ارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية في دارفور، حيث تم إخراج 13 منظمة دولية على رأسها "أطباء بلا حدود" و"أوكسفام"، وأكد البشير حينها أن العمل الإغاثي لن يتأثر نظراً لوجود خطة إحلال بمنظمات سودانية وطنية. واستمر البشير في سياسته، وفي عام 2012 قرر طرد أربع منظمات إنسانية أخرى تعمل في شرق السودان تحت مبرر "أنها فشلت في تنفيذ مشاريعها" أو بسبب أنها تقوم بأعمال تجسس لصالح جهات أجنبية، وكان من ضمنها منظمات "حماية الطفولة" السويدية و"غول" الأيرلندية، و"المجموعة اليابانية للعمل الإنساني"، ومنظمة أيرلندية أخرى للعمل الإنساني.
إلا أن البدائل السودانية لم تستطع سد الفراغ الذي تسبب فيه خروج كل هذه المنظمات الإنسانية الدولية، وذلك بسبب ضعف التمويل، فضلاً عن افتقاد الخبرة، وهو الفراغ الذي يمكن لمس أثره السلبي على الوضع الإغاثي في الصراع المسلح القائم حالياً بالسودان.
ففي واقع الأمر لم يأت الصراع المسلح الجاري بالأزمة الإنسانية في السودان، بل إنه فاقمها، فالعوز المستمر والحاجة الماسة للدعم الخارجي أمر قائم ومستمر بالسودان، وهو ما يفسر سرعة اقتراب السودان من لحظة الانهيار، وفقاً لما أكدته الأمم المتحدة. فعلى عكس أزمات منطقة الشرق الأوسط الأخرى، الذي عادة ما تصمد دوله لفترة أطول أمام الحالات المشابهة بسبب تمتعها إلى حد ما بوضع اقتصادي مستقر، وتوفر قدر معقول من الخدمات على المستوى الصحي والاستهلاك اليومي، كان السودان يعاني بالفعل من قبل اندلاع الصراع من نقص في مصادر توزيع المياه النظيفة، والأطعمة التي تتمتع بحمية مناسبة لصحة الحوامل والمرضعات والأطفال ما نتج عنه سوء تغذية ملحوظ.
ومن المؤكد أن معدلات سوء التغذية ستتفاقم في السودان في ظل قطع خطوط التموين بسبب العمليات المسلحة في الشوارع، ورغبة كل طرف في خنق الطرف الآخر. وسيكون لهذا الوضع صدى ملحوظ في القطاع الصحي الذي بدأ يتأثر بالعمليات العسكرية، حيث أعلنت نقابة أطباء السودان توقف الخدمة في أكثر من 70% من المستشفيات الموجودة في نطاق الاشتباكات، عوضاً عن عمليات النهب التي تطال المستشفيات الفقيرة في الإمكانات أصلاً، ومخاوف من انتشار العدوى بين السكان نظراً للأضرار التي تطال القطاع الصحي وعدم القدرة على تقديم العلاجات اللازمة.
شدة صعوبات الإغاثة
بالإشارة إلى ذلك؛ كان من المستغرب للوهلة الأولى ومع بداية الأيام الأولى للصراع قيام آلاف السودانيين باتخاذ قرار بالتوجه إلى دول الجوار فراراً من الحرب، فعادة يحتاج السكان المحليون مدة أطول لتقييم وضع الأزمة واتخاذ القرار بالهرب إلى دول الجوار والتحول إلى لاجئين، إلا أن تفسيراً وحيداً لهذا القرار السريع الذي اتخذه آلاف السودانيين يؤكد وعيهم بهشاشة الأوضاع ببلادهم أونهم يفترضون صراعاً صفرياً ممتداً بما دفعهم لاتخاذ هذا القرار المفاجئ في الأيام الأولى، وهو القرار الذي أفرز بدوره وضعاً ضاغطاً على جهود الإغاثة عبر الحدود وتقديم المنظمات الدولية والمحلية خدماتها.
وفي ظل هذا الوضع المعقد والمفاجئ، تواجه المنظمات الدولية والمحلية العاملة في السودان العديد من الصعوبات أثناء تقديم خدماتها، فقد ترتب على تعثر حركة الطيران نحو السودان توقف خطوط الإمداد عبر الجو، وهو ما يؤثر في عمل المنظمات، مثل "أطباء بلا حدود" التي تقدم خدماتها الطبية الدورية للمرضى فضلاً عن جرحى الاشتباكات، ويفاقم هذا الوضع أن الصراع يمتد عبر كافة مدن السودان، وهو ما يفسر تزايد حالات قطع خطوط المواصلات وحصار المدن كتكتيك متبع في ميدان الحرب. هذا، بالإضافة إلى تزايد حالات السطو على المنشآت بما يعزز فكرة غياب الأمن التي تؤثر سلباً في فتح "ممرات آمنة" سواءً لعبور الأفراد أو الإمدادات.
وبالتوازي مع ذلك، شهدت الأيام الماضية أكبر عملية إخلاء للدبلوماسيين قامت بها الدول الأوروبية والولايات المتحدة، وهو ما يؤثر سلباً في سرعة استجابة المنظمات الإنسانية التابعة لتلك الدول، نظراً لأن عملية الإخلاء تعني من ضمن ما تعني توقف نقاط الارتباط بين سفارات تلك الدول ومكاتب المنظمات الإنسانية التابعة للدولة. وهذا ما أكدته الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بأن استجابتها للأزمة الإنسانية والقيام بجهود الإغاثة ستتأثر سلباً وباتت بطيئة بعد انتقال فريق المكتب للعمل من كينيا بدلاً من السودان.
كما تواجه أي جهود إغاثة لمساعدة الفارين بالعديد من العثرات، حيث سريعاً ما ظهر تجار الحرب، وتم رفع أسعار تذاكر حافلات نقل الركاب، وهو ما يثقل كاهل المنظمات المحلية على وجه الخصوص التي تعاني من ضعف في التمويل، ويزداد الأمر تعقيداً بكثرة نقاط التفتيش على طول الطرق التي يستخدمها الفارون، وعادة ما يواجه فيها الركاب أزمات مختلفة، أهمها تدهور حالتهم الصحية نتيجة ظروف السفر الطويلة، والطرق الموحشة والمرهقة. وهذه الطرق أيضاً تعيق جهود الإغاثة التي يقدمها الهلال الأحمر السوداني داخل الحدود السودانية وكذلك جهود الهلال الأحمر المصري على الجانب المصري باعتباره الجانب الذي استقبل العدد الأكبر من الفارين حتى الآن.
ومع تزايد الفارين، بدأت عمليات الإجلاء تزاحم النقطة الرئيسية في تسلم الإمدادات من الخارج، وتحديداً في بورتسودان شمال السودان، وهو الميناء الأساسي الذي يستقبل المساعدات، إلا أنه تحول إلى أكبر قاعدة دولية لإجلاء الرعايا الأجانب والفارين السودانيين نحو دول الجوار. وقد أثر هذا التكدس في سيولة عمل المنظمات العاملة في مجال الإغاثة، وعلى استقبال المساعدات التي لم تعد قادرة على الدخول إلى العمق السوداني، ولا قادرة على التفريغ بالميناء الرئيسي، وهو الأمر الذي يخلق مشكلة معقدة جداً ما بين ضرورة الإجلاء والضرورة القصوى بدخول المساعدات بما يعقد من العمل الإغاثي بشكل عام في السودان.
حلول جزئية "تطوعية"
لإدارة هذا الوضع المتشابك، بدأت المنظمات الدولية والمحلية في وضع حلول جزئية لإدارة الأزمة، ومن ضمنها العمل بشكل مبدئي على استئناف العمل في المناطق الأكثر أمناً لإيصال المساعدات لأكبر عدد ممكن وبمعدلات استجابة أسرع، وهو النهج الذي اتبعه "برنامج الأغذية العالمي"، الذي قرر إلغاء تعليق أنشطته في السودان بعد مقتل ثلاثة من موظفيه سابقاً، ويبحث حالياً مع الأطراف ذات الصلة إمكانية فتح ممر آمن عبر بورتسودان نحو الخرطوم بمسافة تصل نحو 800 كلم.
وحتى تقوم منظمة "أطباء بلا حدود" بدورها ضمن مستويات تؤهلها لتقديم الخدمات لأكبر عدد من السودانيين، فإنها تكرر نداءً للأطراف الدولية ولأطراف النزاع في السودان بشأن ضرورة تحييد المرافق الصحية بل وحمايتها، ربما كمحاولة من المنظمة للفت نظر المجتمع الدولي لإحداث أكبر قدر من التأثير في طرفي النزاع.
ومن المتوقع أن تقوم المنظمات الدولية بالضغط إعلامياً للفت نظر المجتمع الدولي إلى حجم التدهور والكارثة المتوقعة في السودان لتلافيها قبل فوات الأوان، ويبدو أن هذا الضغط الإعلامي قد بدأ بالفعل، حيث كان المتحدث باسم مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة قد عقد مؤتمراً صحفياً في جنيف الأيام الماضية للفت نظر المجتمع الدولي إلى حجم الأزمة وتحديداً الفجوة التمويلية التي يواجهها السودان، حيث كان من المتوقع أن يتم تمويل العمل الإغاثي والإنساني في السودان عام 2023 بمبلغ 1.75 مليار دولار لم يصل منها سوى 14%.
وعلى المستوى المحلي، يمكن ملاحظة تزايد ظهور ما يسمى بــ"غرف الطوارئ" الأهلية، وهي عبارة عن مبادرات أهلية لاستقبال النازحين في المناطق الأكثر أمناً وتحديداً جنوب وجنوب شرق البلاد نحو ولايات القضارف وسنار والجزيرة، وتتمثل هذه الجهود المحلية في فتح المدارس لاستقبال وتسكين النازحين وتقديم المياه والأدوية والعلاج.
بينما على المستوى الإقليمي، كان للعديد من الدول العربية دور ملحوظ في القيام بأدوار إغاثية سواءً بشكل مباشر عبر عمليات الإجلاء أو التقدم بحزم مساعدات لتقديم الدعم للسودانيين بالداخل السوداني. إذ أسهمت دولة الإمارات العربية المتحدة في إجلاء عدد من مواطنيها ورعايا نحو 16 دولة عبر الاستضافة على الأراضي الإماراتية لحين نقلهم إلى بلدانهم، بالإضافة إلى المشاركة في جهود الإغاثة عبر مؤسسة خليفة بن زايد آل نهيان للأعمال الإنسانية وهيئة الهلال الأحمر الإماراتي لإيصال إمدادات غذائية وطبية إلى السودان إلى مطار أبشي على الحدود السودانية التشادية. فيما قامت المملكة العربية السعودية بجهود الإجلاء أيضاً عبر بورتسودان نحو ميناء جدة. كما سهلت مصر إجراءات دخول السودانيين إلى البلاد، حيث أوقفت العمل بتصاريح الدخول للفئات التي تتطلب الحصول على تصريح دخول، بالإضافة إلى جهود الهلال الأحمر على الجانب المصري من الحدود المصرية السودانية.
ختاماً، من المتوقع أن يمتد أمد الأزمة في السودان، حيث لم يتقدم أي من طرفي النزاع بتصور للحل أو بأي طرح من يمكن البناء عليه. كما تؤكد سرعة رحيل السودانيين من بلادهم مع الأيام الأولى من الحرب حقيقة وعيهم بنمط الصراع في بلادهم، باعتباره صراعاً يتسم بالمدى المفتوح وبالمعادلة الصفرية، وهو ما يجب وضعه في الاعتبار عند وضع التقديرات المحتملة بشأن توقيت انتهاء هذا الصراع الذي يصفه السودانيون بالحرب، التي ستفاقم الأزمة الإنسانية المتجذرة أصلاً في كافة هياكل الدولة بالسودان. وفي ميدان حرب كالميدان السوداني تتنازعه القوى الدولية وتحرص على تحصيل مكاسب وإدارة مصالح، فإن شد الأطراف هذا سيكون له أثر سلبي على سرعة استجابة المنظمات الدولية المعنية نظراً لارتباطاتها في النهاية عند مستوى معين بقرار الدولة المانحة.