أخبار المركز
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (عام على حرب السودان.. ترابط المسارين الإنساني والسياسي)
  • د. أحمد أمل يكتب: (إرث فاغنر: هل قاد "التضليل المعلوماتي" النيجر للقطيعة مع واشنطن؟)
  • عادل علي يكتب: (موازنة الصين: دوافع تزايد الانتشار الخارجي للقوة البحرية الهندية)
  • إبراهيم فوزي يكتب: (معاقبة أردوغان: لماذا خسر حزب العدالة والتنمية الانتخابات البلدية التركية 2024؟)
  • شريف هريدي يكتب: (مخاطر الانفلات: خيارات إيران للرد على استهداف قنصليتها في دمشق)

دبلوماسية الخطوط الحمراء.. مُحفز للسلام أم الحرب؟

19 يوليو، 2022


في زمن التطور العسكري وامتلاك السلاح النووي ومختلف الأسلحة الفتاكة الأخرى، أضحى من الصعب المُراهنة على القوة العسكرية بشكل مباشر في تحقيق المصالح والأهداف المُختلفة للدول. كما أن المُراهنة على الخيار العسكري في هذا الشأن، تصطدم بمبادئ القانون الدولي التي تُحرم اللجوء إلى القوة أو مجرد التهديد باستخدامها في العلاقات الدولية، كما تعني في حال اندلاع مواجهة نووية، عدم وجود خاسر أو رابح - مثلما كان عليه الأمر بالنسبة لمخلفات الحروب التقليدية - بل إن الأمر سيفضي إلى فناء البشرية.

لذلك برزت آليات دبلوماسية وقانونية لإدارة الأزمات والمنازعات، رسخها القانون الدولي، قبل أن تتعزز بآليات طرحها الفقه الدولي وتبنتها الكثير من الدول، حيث برزت مفاهيم "الردع"، و"القوة الناعمة"، و"دبلوماسية الخطوط الحمراء". ولا يمكن الحديث عن هذه الأخيرة إلا إذا اقترنت بمقومات قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية وبشرية وتقنية حقيقية، قادرة على إعطائها صدى ومعنى، يمكن أن يُصدّقه المعنيون. أما في حالة غياب ذلك، فالأمر لا يكاد يعدو سوى مجرّد شعارات فارغة، تنكشف حقيقتها وهشاشتها تحت أول محكّ ناجم عن التحدي الذي يمكن أن يسلكه أحد الأطراف المخاطبين باحترام هذه الخطوط.

وفي هذا الإطار، يتناول المقال خلفيات مفهوم "دبلوماسية الخطوط الحمراء"، وعلاقته بالحرب والسلم، وبعض تجلياته ضمن الممارسات الدولية والإقليمية الراهنة. 

بروز "الخطوط الحمراء":

تحيل "دبلوماسية الخطوط الحمراء" إلى إطلاق دولة لرسائل نحو عدد من الفاعلين الدوليين، تستهدف الحيلولة دون وقوع أحداث أو مُمارسات تعتبرها من منظورها المصلحي غير مقبولة، واضعة بذلك سقفاً إذا تم تجاوزه؛ يمكن أن يؤدي إلى عواقب وانعكاسات صعبة وسيئة. وجدير بالذكر أن هذه الخطوط يُمكن أن تنتهي وتختفي، بعقد صفقات في إطار تبادل المصالح والمواقع.

وهي دبلوماسية ترتبط أساساً بمحددات وثوابت السياسة الخارجية للدول؛ وتتعلق بوحدة أراضيها، وسيادتها، ومصالحها الاقتصادية والاستراتيجية التي قد تأخذ طابعاً متطوراً يتجاوز حدودها، والتي تسعى بكل إمكانياتها المشروعة وغير المشروعة أحياناً إلى تأكيدها والدفاع عنها. وقد برزت هذه الدبلوماسية، التي غالباً ما تقترن بتوازن القوى وضغط الأزمات، في مرحلة الحرب الباردة، التي فرضت أجواءً من الخوف والهلع من إمكانية نشوب حرب نووية تأتي على الأخضر واليابس بين القوتين العظميين؛ الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفييتي (سابقاً)، خاصةً أن الطرفين معاً كانا يملكان مقومات الردع، التي جعلتهما يضعان مجموعة من "الخطوط الحمراء" التي لا يمكن تجاوزها، ضمن مبادراتهما الدبلوماسية؛ على امتداد عقود من الصراع الذي اتخذ مظاهر سياسية واقتصادية ونفسية وإعلامية وحتى عسكرية (سباق التسلح، والحروب بالوكالة، ونهج سياسة الأحلاف) لم تصل حدّ المواجهة المباشرة.

وتُمثل هذه الدبلوماسية آلية من آليات تحقيق "السلام الصعب"، من خلال رسم خطوط في مواجهة الأطراف الدولية، سواء تعلق الأمر بخصوم أو أصدقاء، ويُفترض أنها غير قابلة للتجاوز، فهي تكاد تقترب من الردع، وتقضي في جزء كبير منها ببعث رسائل مباشرة أو غير مباشرة بعدم تجاوز حدود معينة، مع ربط ذلك بعقوبات أو خيارات قاسية قد تصل إلى حد استخدام القوة. وفي هذا السياق، أسهمت هذه الخطوط في إرساء قدر من السلام، ما مكّن من تجاوز نشوب حروب مُدمرة، وهو ما تجسده أزمة الصواريخ الكوبية لعام 1962.

وحقيقة أن ثمة تضارباً بين من يرى في آلية "الخطوط الحمراء" مدخلاً لوضع ضوابط للتحرك، لتحقيق "سلام صعب" عبر بعث رسائل معينة، وبما يحقق روح المواثيق والمعاهدات والقوانين الدولية فيما يتعلق بتعزيز الأمن والسلم الدوليين؛ وبين من يرى فيها مجرّد آلية للابتزاز والتهديد والوعيد، بصورة قد تُعجل بانهيار السلام، وبروز ممارسات وردود فعل تنجم عنها مواجهات عسكرية، تخرج معها الأمور عن نطاق التحكم والسيطرة، لاسيما إذا كانت الرسائل والتحذيرات مُبهمة أو مُستفزة أو غير مبنية على مُرتكزات متينة تدعمها، أو بعدم اقتران خرقها وتجاوزها بجزاءات وعقوبات واضحة ومحددة تبدو معها كمجرد فزاعات.

وهذا ما تؤكده الكثير من الحالات التي تجسدها الممارسات الدولية، حيث تتحول هذه الخطوط التي لا تؤطرها في العادة مرجعيات قانونية أو معاهدات دولية - بقدر ما تحكمها رهانات وخلفيات مصلحية - إلى صدامات، كثيراً ما أثرت بشكل سلبي على السلم والأمن الدوليين. 

وتختلف ردود أفعال الدول إزاء الرسائل الدبلوماسية التي تحمل "خطوطاً حمراء"، وعادة ما تتحكم في ذلك اعتبارات؛ تتأرجح بين عدم استيعاب الرسالة، أو سوء تقدير مضامينها، أو استحضار مبدأ السيادة واستقلالية وحرية الدول في اختياراتها واتخاذ قراراتها على المستويين الداخلي والخارجي انسجاماً مع القوانين والمواثيق الدوليين، أو قد تتحكم فيها عوامل مرتبطة بالرغبة في التحدي وإظهار القوة.

وعلى الرغم من التحولات الكبرى التي شهدها العالم بعد نهاية الحرب الباردة، مازالت هذه الدبلوماسية قائمة، وتعتمدها الكثير من الدول بغض النظر عن قدراتها وإمكانياتها. فالولايات المتحدة الأمريكية، مثلاً، تعتبر أن إيران تُمثل تهديداً لمقومات النظام الدولي الراهن، بفعل سياساتها تجاه محيطها، وطموحاتها النووية المُتزايدة. وبدورها، تعتبر إيران أن من حقها تطوير إمكانياتها النووية، بل وتعتبر هذا الملف "خطاً أحمر" لا يحتمل التراجع والتساهل، بالرغم من انخراطها في بعض الترتيبات المُتعلقة بمراقبة منشآتها في هذا الخصوص، وربما هذا ما يُفسر الفشل الذي آلت إليه مختلف التدابير والاتفاقات الرامية إلى الحيلولة دون تطوير قدراتها النووية وتوظيفها في المجال العسكري.

وتثير التوجهات النووية الإيرانية مخاوف دولية وإقليمية كبرى، بالنظر إلى سياساتها العدائية، وتدخلاتها المتزايدة في محيطها، ولذلك لا تتردد دول المنطقة العربية وعدد من القوى الدولية الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا في اعتبار امتلاك طهران للسلاح النووي مغامرة غير محسوبة العواقب، يمكن أن تهدد السلم والأمن الدوليين في منطقة معروفة بأوضاعها الأمنية الهشة أصلاً. كما تشكك في ادعاءات طهران بشأن الانضباط لتعليمات الوكالة الدولية للطاقة الذرية في هذا الشأن. 

وفي الوقت الراهن، تُصرّ إسرائيل على أن العودة للاتفاق النووي مع إيران؛ من شأنه أن يفرز انعكاسات سلبية على أمنها، انطلاقاً من تعاملها مع هذا الملف كعامل تهديد حقيقي لأمنها، بل إنها ترى فيه القضية الاستراتيجية الأهم والأكثر إلحاحاً. ولذا فقد طرحت تل أبيب مجموعة من البدائل للتعامل مع هذا الموضوع، لم تستبعد فيه إمكانية توظيف الخيار العسكري. فيما عبّرت طهران أنها سترد بقدر من الصرامة والقوة على أي توجه تُقدم عليه تل أبيب في هذا الخصوص.

التطبيق على الحرب الأوكرانية:

مع تصاعد حالة شدّ الحبل بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية منذ تفجر الأزمة الروسية – الأوكرانية في بداية الأمر، قبل انتقالها إلى حرب حقيقية في 24 فبراير 2022؛ كان الطرفان معاً يرسلان إشارات ورسائل تحدّد "الخطوط الحمراء" من هذا الجانب أو ذاك. فروسيا عبّرت من خلال قنواتها الرسمية وعلى أعلى مستوى، بأنها لن تسمح لحلف شمال الأطلسي "الناتو" أن يُطوّقها من جانب أوكرانيا؛ التي طالما اعتبرتها موسكو خلفية استراتيجية. فيما ظلّت الولايات المتحدة الأمريكية تؤكد أنها لن تُفرط في أصدقائها وحلفائها، مُلوحة باعتماد أشدّ العقوبات في حال إقدام موسكو على عمل عسكري داخل الأراضي الأوكرانية.

وعندما اتخذت روسيا قرار الحرب، مُتذرعة في ذلك بكونها في موقف الدفاع عن النفس، ضمن عملية مُحددة تستهدف "تدمير القدرات العسكرية لأوكرانيا، والقضاء على التوجهات النازية فيها"؛ ظلت موسكو تبعث برسائل دقيقة وأخرى مُبهمة لخصومها، خاصة تلك المتعلقة بمخاطر تمدّد حلف "الناتو" داخل أوروبا الشرقية، والجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفييتي (سابقاً)، غير مُستبعدة الخيار النووي عند تجاوز "خطوط حمراء"، ربطتها أساساً بالاعتداء على أمنها وسيادتها، أو فرض الغرب لحظر طيران فوق الأراضي الأوكرانية.

وبين تضارب "الخطوط الحمراء" الصادرة عن هذا الطرف أو ذاك، يبدو وكأن هناك يداً خفية تُخفف من حدة التصعيد المُتسارع باتجاه خروج الأمور عن السيطرة، انطلاقاً من تشابك العلاقات والمصالح الدولية من جهة، وامتلاك الأطراف المعنية بالصراع لإمكانية الردع من جهة أخرى.

ولم تهتم روسيا بالتحذيرات التي أطلقتها الولايات المتحدة وعدد من الدول الغربية قبل تطور الوضع العسكري على الأرض الأوكرانية، ويبدو أن موسكو تمتلك بدورها مجموعة من نقاط القوة التي تجعلها قادرة بدورها على فرض الأمر الواقع، وعدم الانصياع لمتطلبات "الخطوط الحمراء" التي رفعها الغرب في وجهها. فمجمل الدول الأوروبية تعتمد على مصادر الطاقة الروسية بشكل أساسي، كما استطاعت موسكو أن تشلّ أداء مجلس الأمن الدولي بحكم عضويتها الدائمة فيه وامتلاكها حق "الفيتو"، علاوة على أنها تملك إمكانيات نووية هائلة أعلنت عن استنفارها.

ويبدو أنه من بين الأسباب التي دفعت روسيا إلى اتخاذ قرار الحرب الحالية في أوكرانيا من دون أن تأبه بتحذيرات الغرب في هذا الصدد؛ كونها واعية بعدم استعداد أوروبا لتوسيع دائرة المواجهة العسكرية، ولإدراكها أيضاً الإشكالات التي تطرحها هذه الأخيرة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك أخذاً بعين الاعتبار الإرهاق العسكري الذي تعرضت له الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة نتيجة للتدخل في العراق وأفغانستان وسوريا، وما تلا ذلك من اعتماد واشنطن لسياسات "انكفائية" وخاصةً بعد إعلانها الانسحاب العسكري من العراق وأفغانستان.

ومن جانبها، استطاعت الدول الغربية أن ترهق وتستنزف قدرات روسيا عسكرياً واقتصادياً، بعدما أربكت خطتها، مع توجيه مجموعة من المساعدات الاقتصادية والعسكرية لكييف، وفرض مجموعة من العقوبات الذّكية، ما جعل المعركة تطول، وتربك إلى حدّ ما حسابات روسيا في هذا الشأن.

حالة الصين:

على عكس موسكو التي لم تتردد في استخدام "القوة الخشنة" كسبيل لوقف زحف حلف "الناتو" بجوارها من جهة أوكرانيا، وإبراز مكانتها كدولة وازنة في النظام الدولي؛ فإن الصين التي أبدت موقفاً مُتفهّماً لخلفيات رد فعل روسيا داخل أوكرانيا، اعتادت على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة على توظيف القوة الناعمة لتحقيق رهاناتها الاستراتيجية، مُعتمدة في ذلك على علاقاتها الاقتصادية المتشابكة في اتجاهات مختلفة، وبمواقفها الهادئة تجاه عدد من القضايا الإقليمية والدولية.

بيد أن ذلك لم يمنع الصين من إرساء "خطوط حمراء" بصدد عدد من القضايا التي تعتبرها حيوية، فقد وجهت أكثر من مرة تحذيرات واضحة للولايات المتحدة باللجوء إلى الحرب، في حال التوجه نحو إعلان استقلال تايوان. ومن جانبها، لم تتوقف واشنطن عن إطلاق رسائل مماثلة لبكين تُحذرها فيها من مغبة أي مجازفة بالتدخل العسكري في تايوان. فيما اعتبرت قمة حلف شمال الأطلسي التي عُقدت بمدريد يومي 29 و30 يونيو 2022، أن الصين أصبحت تتحدى مصالح الدول الغربية وأمنها وقيمها، وضوابط النظام الدولي الراهن، مع الدعوة إلى تطويق نفوذها المتزايد في المحيطين الهادي والهندي.