تزامن مع تعثر مفاوضات بريكست بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، تصاعد توقعات متباينة حول تأثير الخروج البريطاني على قطاع الخدمات المالية، وتحديدًا المكانة الدولية للندن كمركز مالي عالمي، إذ يتوقع اتجاه رئيسي أن يتعرض هذا القطاع لاضطرابات تتسبب في تكبيد الاقتصاد البريطاني خسائر كبيرة، وصعود مراكز مالية بديلة في عدد من دول العالم، بالإضافة إلى تزايد اتجاهات هجرة العقول والكفاءات من هذا القطاع إلى دولٍ أخرى. وفي المقابل، يتوقع اتجاه آخر أكثر تفاؤلًا أن تتمكن لندن من وضع قواعد تنظيمية لعلاقتها مع الاتحاد الأوروبي خلال مفاوضات الخروج من الاتحاد تسهم في الحفاظ على مكانتها العالمية في القطاع المالي.
محورية الخدمات المالية:
قام المستشار الاقتصادي والمدير التنفيذي لأحد البنوك المالية "توني نورفيلد" (Tony Norfield) في كتابه الشهير "المدينة: لندن والقوة العالمية للتمويل" (The City: London and the Global Power of Finance) الصادر في عام 2017، بتحليل القوة المالية للندن، كما صمم مؤشرًا يقيس توزيع القوة ومكانة كل دولة في الاقتصاد العالمي، يتضمن خمسة محددات رئيسية لتحديد الوضع النسبي لكل دولة، يغطي الناتج المحلي الإجمالي، والاستثمار الأجنبي المباشر، ووضع البنوك، والعملات الأجنبية، والقوة العسكرية.
وتصدرت الولايات المتحدة القائمة وفقًا لهذا المؤشر، تليها ألمانيا والصين واليابان. وجاءت المملكة المتحدة في المرتبة الثانية. ويمكن القول إنه مع صعود الصين فإن ترتيب الدول في مؤشر القوة المالية قد تغير، ومن المتوقع أن تحدث تحولات لهم خلال الفترة القادمة، إلا أن المملكة المتحدة لا تزال في موقع متقدم حتى الآن لكن وضعها سيتضرر جراء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
ويحتمل أن يظهر تأثير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في أحد مكونات المؤشر على الأقل، مثل حجم الخدمات المصرفية الدولية التي تتم من قاعدة المملكة المتحدة، حيث كانت النتيجة المباشرة للبريكست سلبية؛ فقد هبطت أسواق الأسهم، وعانى الجنيه الإسترليني، وتراجعت ثقة المستهلك بشدة. صحيح أن الأسواق البريطانية قد تعافت بعض الشيء، إلا أنه لا تزال هناك مخاوف قوية من تأثير البريكست على المدى الطويل على الاقتصاد البريطاني.
ويتخوف العديد من الاقتصاديين من تأثير البريكست على الصناعة المالية (Finacial Services) التي تشمل الشركات التي تدير الأموال، والبنوك، وشركات الائتمان والتأمين، وصناديق الاستثمار، وشركات الوساطة في الأوراق المالية، وغيرها، ويؤثر هذا القطاع بشكل كبير على الاقتصاد البريطاني، حيث يساهم بما يقدر بحوالي 12% من إجمالي الناتج المحلي في المملكة المتحدة، ونحو أكثر من مليوني وظيفة.
ووفقًا لأحدث تقرير صادر عن مؤسسة "بروين المالية" (Bruin Financial) في عام 2018، تمثل الصناعة المالية حوالي 50٪ من الفائض التجاري في المملكة، والتي تبلغ 31 مليار دولار في الخدمات، كما أن أهمية القطاع المالي البريطاني لبقية الاتحاد الأوروبي واضحة، حيث تُقرض البنوك البريطانية ما يقرب من 1.4 تريليون دولار لشركات وحكومات الاتحاد الأوروبي، كما تستحوذ لندن على معظم الأنشطة المالية التي يتم تنفيذها في أوروبا إما بشكل مباشر أو غير مباشر، فحوالي 87٪ من موظفي البنوك الاستثمارية في الاتحاد الأوروبي يعملون في لندن، وقد كان القطاع المالي من السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي، ومن ثمّ فلا عجب أن الجزء الأكبر من التداعيات السلبية لبريكسيت يركز على الخدمات المالية.
خدمات "جواز السفر":
يتمحور تحليل القضايا والاهتمامات المتعلقة بالقطاع المالي حول ثلاث قضايا مهمة، هي: جواز السفر Passporting، وعدم اليقين التنظيمي، وهجرة العقول والمواهب. ويعد جواز السفر Passporting العملية التي يمكن بموجبها لأي مؤسسة مالية مقرها في بريطانيا -سواء كانت بنوكًا، أو شركات تأمين، أو شركات إدارة أصول- أن تبيع منتجاتها وخدماتها لبقية دول الاتحاد الأوروبي دون الحاجة إلى الحصول على ترخيص أو الحصول على موافقة تنظيمية أو تعيين الشركات الفرعية المحلية للقيام بذلك. وقد كان جواز السفر، بالاقتران مع بعض العوامل الرئيسية الأخرى الموضحة أدناه، أحد الأسباب الرئيسية وراء قرار عدد كبير من المؤسسات المالية بتأسيس مقر في لندن.
ففي 2017، قدر تقرير لمؤسسة "كيه بي إم جي" الدولية KPMG)) العاملة في مجال التدقيق والخدمات الضريبية والاستشارات، أن ما يقرب من 5500 شركة في المملكة المتحدة تعتمد على جواز السفر لممارسة الأعمال التجارية مع بقية الاتحاد الأوروبي. وأكثر من 8000 شركة في بقية دول الاتحاد الأوروبي تقوم بالتجارة في المملكة المتحدة باستخدام قواعد جواز السفر. ومع اقتراب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تصاعدت التساؤلات حول استمرار جواز السفر.
ويبدو أن الطريقة الوحيدة لاستمرار بريطانيا في الاستفادة من "جواز السفر" إذا ما قامت بما يشبه الصفقة النرويجية مع الاتحاد الأوروبي، أي أن تكون عضوًا بالمنطقة الاقتصادية الأوروبية، والالتزام بجميع القواعد المرتبطة بها. فيما يشير البعض إلى إمكانية التوصل إلى ما يشبه "صفقة سويسرية" مع الاتحاد الأوروبي تركز أساسًا على اتفاقيات التجارة الثنائية. ولكن يبدو أن الحل على الطريقة السويسرية أمر غير مرجح.
وفي هذا الإطار، تشير "كابيتال إيكونوميكس" في تقريرها لعام 2016 إلى أنه "من غير المرجح أن تحصل المملكة المتحدة على صفقة جيدة مع الاتحاد الأوروبي مثل سويسرا. فقد تفاوض السويسريون على الصفقة عندما كانوا يخططون للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولن تكون هناك نية طيبة لبلد يغادره". وحتى لو تم تحقيق ذلك، فهناك شكوك قوية حول فعالية مثل هذا النموذج. وبشكل أكثر تحديدًا، يستفيد "النموذج السويسري" مما يعرف بقواعد "معادلة الدولة الثالثة" التي تسمح لشركات الدول غير الأعضاء بأداء بعض الوظائف نفسها التي يسمح بها جواز السفر.
ويؤكد الرئيس التنفيذي لرابطة المصرفيين البريطانيين "أنتوني براون" Anthony Browne)) أنه فيما يتعلق بسويسرا فإن نظام "التكافؤ" في الاتحاد الأوروبي ظِلٌّ فقير لجواز السفر، وأنه لا يغطي سوى مجموعة ضيقة من الخدمات، ويمكن سحبه بدون إشعار تقريبًا، وربما يعني ذلك أن المملكة المتحدة ستضطر إلى قبول قواعد ليس لها تأثير عليها. وقد يساعد ذلك في توضيح السبب وراء ضعف أداء سويسرا إلى حد كبير في المملكة المتحدة على مدار الخمسة عشر عامًا الماضية من حيث صادرات الخدمات المالية. ومن ثم فإذا بدا النموذج النرويجي والنموذج السويسري غير ملائمين، فإنه ربما يتم اللجوء إلى اتفاقية تجارة حرة واحدة، مماثلة لما تفاوضت عليه كندا وكوريا الجنوبية مع الاتحاد الأوروبي. لكنّ هذه المفاوضات -على سبيل المثال- طويلة ومعقدة، فقد استغرقت المفاوضات بين الاتحاد الأوروبي وكندا سبع سنوات، وستؤدي إلى امتيازات أقل مما تسمح به حقوق جواز السفر الحالية. وقد أوضح الدبلوماسي البريطاني "جوناه هيل" (Jonah Hill) أن "معظم الأساليب التي تتيح الوصول إلى سوق الاتحاد الأوروبي تأتي مع حرية حركة الناس".
القواعد التنظيمية:
تحولت لندن إلى العاصمة المالية لأوروبا بسبب أن القانون الإنجليزي يتمتع بالعديد من المزايا فيما يتعلق بقوانين إصدار القوانين والإعسار، كما أن قوانين العمل البريطانية أكثر بساطة وتسهيلًا على أصحاب الأعمال مقارنة بنظيرتها الأوروبية، ويؤدي بريكست إلى تعقيد الإطار القانوني التنظيمي في بريطانيا، حيث تحتاج لندن إلى إعادة التفاوض بشأن لوائح الاتحاد الأوروبي وصفقاته التجارية. وسيستغرق هذا وقتًا كبيرًا ولا تستطيع العديد من شركات الخدمات الانتظار لفترة طويلة حتى انتهاء هذا التفاوض، وليس من الواضح إذا ما كانت اللوائح المالية الجديدة في المملكة المتحدة ستكون مفيدة لهذا القطاع.
وفي هذا الإطار، أكد بعض مؤيدي البريكست أن بريطانيا يمكن أن تقوم بتسهيل القوانين ورفع القيود لتعزيز القطاع المالي، وهو ما يصعب حدوثه، لا سيما وأن الحكومة البريطانية بدأت مؤخرًا تميل إلى وضع قيود تنظيمية جديدة، فعلى سبيل المثال تقوم البنوك البريطانية منذ بداية عام 2019 بفصل مصارفها التجارية بالتجزئة عن بنوكها التجارية.
كما قام بنك إنجلترا المركزي في عام 2017 بإجراء اختبارات القدرة على تحمل الضغوط للبنوك بقواعد أكثر صرامة مقارنة باختبارات هيئة البنوك الأوروبية.
مخاطر هجرة العقول:
يؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى ضرر طويل الأجل للقطاع المالي البريطاني بسبب احتمالية تزايد هجرة العقول، وهو ما من شأنه أن يؤثر على لندن كمركز مالي، خاصةً وأنها تستفيد على غرار وادي السيليكون من عدد كبير من العاملين الأجانب في القطاع المالي. ومع زيادة حالة عدم اليقين عند الموظفين الأجانب، واحتمالات فقدانهم لوظائفهم، فإن هذا سيؤدي إلى بحثهم عن بدائل في دول أوروبية أخرى.
وقد تكون هناك بعض الأمور المتعلقة بنظام التأشيرات والإقامة للعاملين، خاصةً وأن تقريرًا صادرًا عن كل من "ووتر هاوس كوبرز" و"بي دبليو سي" أكد أن 12٪ من القوى العاملة في بريطانيا، ويتركز العديد منهم في القطاع المالي. ويقدر تقرير آخر صادر عن مؤسسة "برايس ووتر هاوس كوبرز" في عام 2016 أن ما يقدر بحوالي 100 ألف وظيفة في القطاع المالي قد تغادر بريطانيا، كما أن العديد من البنوك والمؤسسات المالية قد وضعت خططًا لنقل بعض عملياتها التجارية إلى أماكن أخرى في الاتحاد الأوروبي.
اتجاه متفائل:
على الرغم من أنه من المتوقع أن تتأثر لندن سلبًا كمركز مالي على المدى القصير والمتوسط؛ إلا أنها لن تنهار بشكل كامل في ظل تمتعها ببنية تحتية قوية تسهل الخدمات المالية، وقد أشار "مارتن وولف" المحلل بفايننشال تايمز إلى أنه "ستبقى لندن مركزًا ماليًّا مهمًّا، فهي نجت من ثلاثينيات القرن الماضي ومن حربين عالميتين. ومع ذلك، كانت تظهر كعاصمة مالية بلا منازع لأوروبا، وكذلك واحدة من أهم المراكز المالية في العالم. وبعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، من المرجح أن تصبح مركزًا خارجيًّا، وأكثر عرضة نسبيًّا لقرارات السياسة، خاصة القرارات التنظيمية، التي تتخذ في أماكن أخرى، لا سيما من منطقة اليورو".
ويرى اتجاه آخر أن المملكة المتحدة إن عملت على إصلاح البيئة التنظيمية، وتحسين نظام الشركات المالية، وإزالة الحدود القصوى للأجور، وتخفيف متطلبات قيود رأس المال، والتخلي عن الأعباء التنظيمية للاتحاد الأوروبي عمومًا؛ فإن ذلك يمكن أن يساعد في الاحتفاظ بالعقول، والاعتماد على صناعات الأصول البديلة مثل صناديق التحوط، والتي تجمع الكثير من رأس مالها من خارج الاتحاد الأوروبي ولا تتأثر بفقدان جواز السفر. وبينما تنتقل بعض الشركات إلى الخارج، ستظهر صناعات جديدة لتحل محل تلك المغادرة.
وفي هذا الإطار، رأى المحلل الاقتصادي "بروك ماسترز" أنه "من شبه المؤكد أن سكان لندن المبتكرين سيخلقون منتجات جديدة، ويدخلون في أسواق جديدة (المنتجات المرتبطة بعملة الرنمينبي الصينية هي مكان واضح للبدء). يمكن أن يوفر بريكست الحافز الذي تحتاجه البنوك وشركات التأمين ومديرو الأصول لإعادة النظر في الطريقة التي يقومون بفعل الأشياء بها، وإنشاء نظام مالي حقيقي في القرن الحادي والعشرين يستفيد من البيانات الضخمة، والذكاء الاصطناعي، وغيرها من التقنيات الجديدة".