أتمت الولايات المتحدة، يوم 18 سبتمبر 2023، صفقة مع إيران، تم بموجبها تبادل سجناء بين البلدين وتحويل 6 مليارات دولار من أرصدة إيرانية كانت مُجمدة لدى كوريا الجنوبية. وتزامن ذلك مع كشف مصادر دبلوماسية، يوم 8 سبتمبر الجاري، عن صفقة تبدو مماثلة بين الولايات المتحدة وفنزويلا، حيث سيسترد بموجبها نظام الرئيس نيكولاس مادورو 3 مليارات دولار من الودائع المُجمدة في الخارج خلال الأسابيع القليلة المقبلة، والتي يوجد قسم كبير منها في المصارف الأمريكية.
وقد أثارت هاتان الصفقتان التساؤل حول أسباب إقدام واشنطن على إبرامهما سواءً مع طهران أو كاراكاس، خاصةً أن الأخيرتين لديهما علاقات متوترة قد تصل إلى حد التصعيد مع واشنطن وتُصنفان ضمن أعدائها أو خصومها، فضلاً عن أن هذه التطورات تأتي قبل نحو عام على انعقاد انتخابات الرئاسة الأمريكية والتي يسعى خلالها الرئيس جو بايدن للفوز بولاية ثانية في مواجهة الجمهوريين.
ملابسات الصفقتين:
مرت صفقة تبادل السجناء والإفراج عن الأموال المُجمدة بين واشنطن وطهران، وكذلك الصفقة الأمريكية المُنتظرة مع كاراكاس، بتفاصيل من المهم التعرف عليها، لفهم الدوافع وراء كل منهما، كالتالي:
1- الصفقة الإيرانية: في خطوة نادرة من التفاهم بين واشنطن وطهران، أكدت الأولى، يوم 11 سبتمبر الجاري، موافقتها على نقل 6 مليارات دولار من الأصول الإيرانية المُجمدة لدى كوريا الجنوبية إلى حساب خاص في قطر، في إطار تسوية مالية أُعِلَن عنها في 10 أغسطس الماضي، ضمن صفقة بوساطة قطرية لتبادل السجناء بين واشنطن وطهران، شملت إطلاق سراح خمسة من السجناء الأمريكيين المحتجزين لدى طهران، مقابل عدد مماثل من السجناء الإيرانيين لدى واشنطن. وكإجراء تكميلي، كشفت الإدارة الأمريكية عن توقيع وزير الخارجية أنتوني بلينكن قراراً لإعفاء المصارف المشاركة في عملية التحويل للأموال الإيرانية المُجمدة لدى كوريا الجنوبية من العقوبات الأمريكية، بعدما تسببت هذه العقوبات في إحجام العديد من الدول الأوروبية عن المشاركة خوفاً من العقوبات التي قد تطالها.
وفي تنفيذ فعلي لهذه الصفقة، وصلت، مساء يوم 18 سبتمبر الجاري، طائرة قطرية تقل 5 أمريكيين كانوا محتجزين لدى السلطات الإيرانية إلى مطار حمد الدولي في الدوحة بموجب الصفقة التي تضمنت أيضاً الإفراج عن 5 سجناء إيرانيين في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى وصول الأموال الإيرانية المُفرج عنها من كوريا الجنوبية إلى الحسابات الإيرانية المسجلة في مصرفين قطريين.
وبحسب المُعلن عنه، ستبقى الأموال الإيرانية المُفرج عنها لدى الدوحة، حيث سيتم استخدامها للأغراض الإنسانية. وفسر الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، هذا المصطلح في سؤال وُجِّه إليه بشأن ما إذا كانت الأموال الإيرانية المُفرج عنها ستُستخدم لأغراض أخرى غير الاحتياجات الإنسانية، قائلاً إن "الإنسانية تعني كل ما يحتاجه الشعب الإيراني". وقد دفع ذلك منتقدي الصفقة إلى التشكيك في مدى قدرة الولايات المتحدة على التيقن من عدم التفاف طهران على مصطلح "الأغراض الإنسانية"، ولاسيما في ظل خبرات النظام الإيراني في التحايل على العقوبات، علاوة على أن الأموال المُفرج عنها سيتم إيداعها في قطر باليورو، الأمر الذي قد يعوق قدرة الولايات المتحدة على مراقبة التحويلات البنكية عن كثب على عكس المعاملات بالدولار.
ومن ناحية أخرى، أثارت التسوية المالية بين واشنطن وطهران انتقادات واسعة من قِبل الجمهوريين في الولايات المتحدة، والذين اعتبروا أن الأموال الإيرانية المُفرج عنها ليست سوى "فدية" مُتفق عليها من جانب إدارة الرئيس بايدن وإيران لتمرير صفقة تبادل السجناء. وذهب تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال" إلى حد ترجيح أن تكون إدارة بايدن خصصت مبلغ 1.2 مليار دولار كفدية عن كل رهينة أمريكية. وفي ضوء ذلك، ساق الجمهوريون عدة حجج للبرهنة على خطورة التداعيات التي قد تترتب على الصفقة، في مقدمتها إغراء الحرس الثوري الإيراني بجدوى احتجاز المزيد من الرهائن الأمريكيين كورقة ضغط ناجحة في مواجهة واشنطن، فضلاً عن إعطاء دفعة للاقتصاد الإيراني المتدهور، ودعم مواصلة تطوير البرنامج النووي الإيراني، وتمويل الأنشطة المزعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط عبر وكلاء طهران في الإقليم.
وفي المُقابل، أكد وزير الخارجية الأمريكي، بلينكن، في مقابلة مع شبكة تلفزيون "أن بي سي" الأمريكية، يوم 20 سبتمبر الجاري، أن الأموال الإيرانية المُفرج عنها ضمن صفقة لتبادل السجناء "كانت غير خاضعة للعقوبات"، قائلاً: "من المهم للغاية أن نفهم أن الأموال التي تم الإفراج عنها هي أموال إيرانية حصلت عليها طهران من بيع النفط وكانت محتجزة في أحد البنوك، وتم إعفاؤها من عقوباتنا منذ اليوم الأول".
ومن بين المُلاحظات البارزة التي تؤخذ على هذه الصفقة، هي عدم تطرقها إلى النقاط الخلافية في العلاقات بين واشنطن وطهران، ولاسيما ما يتصل بالبرنامج النووي الإيراني، والأنشطة الإيرانية المزعزعة للاستقرار في المنطقة. ومع ذلك، فثمة تقارير تُرجح أن تكون طهران قد اتخذت خطوات للحد من أنشطتها لتخصيب اليورانيوم، في إطار اتفاق "غير مكتوب" مع إدارة بايدن، تلتزم بموجبه بعدم تخصيب اليورانيوم بنسب تتخطى 60%، مقابل الإفراج عن الأصول الإيرانية. وفي نفي ضمني لهذه الترجيحات، أكد رئيس المنظمة الإيرانية للطاقة الذرية، محمد إسلامي، في 27 أغسطس الماضي، أن تخصيب إيران لليورانيوم مستمر على أساس "قانون إطار العمل الاستراتيجي".
2- الصفقة الفنزويلية: بعد أشهر من اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية العام الماضي، بدأت العلاقات الأمريكية الفنزويلية تشهد نوعاً من الانفراج، عندما طرحت واشنطن أن تكون كاراكاس أحد المصادر البديلة لتعويض مصادر الطاقة الروسية في ظل العقوبات المفروضة على موسكو. وبلغ هذا الانفراج مرحلة متقدمة عندما التقى مسؤولون كبار من الطرفين في قطر منتصف مايو الماضي، حيث جرى البحث في تبادل سجناء.
واستمراراً لهذا التحسن في العلاقات الأمريكية الفنزويلية، أكدت مصادر دبلوماسية رفيعة المستوى، في 8 سبتمبر الجاري، أن نظام الرئيس مادورو سيسترد مبلغ 3 مليارات دولار من الودائع الفنزويلية المُجمدة في الخارج، والتي يوجد قسم كبير منها في الولايات المتحدة التي تحتفظ مصارفها بأصول كبيرة تابعة للبنك المركزي الفنزويلي، على أن يتم صرف هذه الأموال لصالح صندوق اجتماعي تحت تصرف الأمم المتحدة، التي بدورها ستتولى الإشراف على نفقاته، بحيث يتم استثمارها في مشروعات تستهدف الارتقاء بجودة حياة الفنزويليين، مثل: التعليم، والرعاية الصحية، وإصلاح البنية التحتية.
وكان الإفراج عن الودائع الفنزويلية بنداً رئيسياً ضمن اتفاق تم التوصل إليه في إطار محادثات جرت في المكسيك بين الحزب الحاكم في فنزويلا وزعماء المعارضة في نوفمبر 2022، غير أن تخوف الأمم المتحدة من الديون الخارجية الضخمة المستحقة على الحكومة الفنزويلية، والتي تصل إلى مليارات الدولارات، والتي قد تدفع الجهات الدائنة للمطالبة بمستحقاتها فور الإفراج عن الودائع المُجمدة، تسبَّب في تعليق تنفيذ الاتفاق. بيد أن مفاوضات سرية جرت بين واشنطن وكاراكاس خلال الأشهر الأخيرة، أعطت دفعة لهذا الاتفاق.
وسبق أن أبلغت إدارة الرئيس بايدن، في مايو الماضي، الأمين العام للأمم المتحدة أنها ستضمن الحماية الدبلوماسية للأموال الفنزويلية من مطالب الدائنين. كما أكد وزير الخارجية الفنزويلي، إيفان خيل، في يوليو الماضي، أن الودائع المُجمدة ستكون قريباً تحت تصرف الحكومة الفنزويلية باعتبارها من حق شعبها.
مُحفزات دافعة:
يمكن القول إن ثمة مُحفزات ربما تقف وراء الموافقة الأمريكية على الإفراج عن أموال مُجمدة لصالح كل من إيران وفنزويلا، ويمكن توضيحها على النحو التالي:
1- تهدئة التوترات الأمريكية الإيرانية: يمكن تفسير قرار الإفراج الأمريكي عن الأصول الإيرانية المُجمدة لدى كوريا الجنوبية باعتباره "خطوة محسوبة" من إدارة الرئيس بايدن لتهدئة التوترات المتزايدة مع طهران في ظل تعثر الوصول إلى اتفاق نووي. فبعد ثماني جولات على الأقل من المحادثات بوساطة قطرية بين واشنطن وطهران منذ مارس 2022، والتي خُصِّصَت لمناقشة ملف تبادل السجناء لدى البلدين بجانب قضايا أخرى خلافية مثل البرنامج النووي الإيراني، يبدو أن المفاوضين ربما أدركوا أن المباحثات النووية وصلت إلى "طريق مسدود"، مما دفعهم إلى التركيز بشكل أكبر على ملف السجناء، الذي كان من السهل إحراز تقدم ملموس بصدده مقابل قدر يسير من التنازلات. وهو ما اتضح بالفعل في ضوء الزخم الذي اكتسبته المباحثات حول هذا الملف منذ يونيو الماضي، والتي تُوِّجَت بالصفقة التي تم تنفيذها بين الجانبين في سبتمبر الجاري.
2- توفير بدائل لإمدادات الطاقة الروسية: كان للتقلبات التي شهدتها سوق الطاقة العالمية على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية، تأثيرها في دفع الإدارة الأمريكية لفتح الباب أمام المساعي الدبلوماسية للتقارب مع كاراكاس، والمُضي قُدماً نحو الإفراج عن الأموال الفنزويلية؛ وذلك بالنظر إلى كون فنزويلا تمتلك أكبر احتياطيات مؤكدة من النفط الخام حول العالم، وهي ثروة ضخمة ستؤدي بطبيعة الحال دوراً لا يُستهان به في تعويض الحظر المفروض على إمدادات الطاقة الروسية.
3- الحد من تقارب منافسي واشنطن: لا شك أن القرار الأمريكي بتيسير الإفراج عن الأموال الفنزويلية يأتي مدفوعاً برغبة واشنطن في قطع الطريق أمام تقارب كاراكاس مع منافسي الولايات المتحدة، ولاسيما في ضوء ما برز من مؤشرات عدة في هذا الصدد، على رأسها الطلب الرسمي الذي تقدمت به فنزويلا للانضمام إلى مجموعة "بريكس" في أغسطس 2023، كجزء من جهودها للانضمام إلى آليات تجنبها التداعيات السلبية للعقوبات المفروضة عليها من جانب واشنطن. فضلاً عن المساعي الفنزويلية للتقارب مع الصين بعد سنوات من فتور العلاقات، وذلك كخطوة لتأمين دعم مالي من حكومة الرئيس شي جين بينغ قبيل الانتخابات الرئاسية في فنزويلا. وتجلى ذلك بوضوح في زيارة مادورو إلى بكين خلال الفترة من 12 إلى 14 سبتمبر الجاري، وهي أول زيارة يقوم بها إلى الصين منذ 2018، والتي شهدت الإعلان عن رفع مستوى العلاقات بين البلدين الى "شراكة استراتيجية قادرة على الصمود"، وهو مستوى يُعد الأعلى في العلاقات لدى الدبلوماسية الصينية، وتحظى به دول قليلة جداً، مثل باكستان وروسيا وبيلاروسيا.
4- التوظيف الانتخابي للصفقات: لا يمكن فصل السياق الزمني للإعلان عن تمرير الصفقات الأمريكية مع إيران وفنزويلا، والذي يأتي قبل عدة أشهر من انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 2024، عن الدوافع التي قد تكون وراء رغبة إدارة بايدن في إتمامها، وعلى رأسها بالطبع تعزيز الموقف الانتخابي لبايدن، والذي "أعاد المواطنين الأمريكيين إلى وطنهم"، مع اقتراب موعد الانتخابات. وفي نفس التوقيت، حرصت إدارة بايدن على فرض عقوبات على طهران للحد من انتقادات الجمهوريين لها بعد الإفراج عن 6 مليارات دولار من الأموال الإيرانية. وفي هذا الإطار، أصدرت واشنطن، يوم 19 سبتمبر الجاري، عقوبات جديدة استهدفت 7 أفراد و4 كيانات في إيران وروسيا والصين وتركيا، قالت إنها سهلت الشحنات والمعاملات المالية لشركة صناعة الطائرات الإيرانية وجهودها في مجال الطائرات المُسيّرة والطائرات العسكرية.
ومن ناحية فنزويلا، يبدو أنه مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المقررة دستورياً في عام 2024، برز قدر من التلاقي بين حماس البيت الأبيض لاتخاذ خطوات جادة لدفع المفاوضات بين الحكومة الفنزويلية والمعارضة، وتحفيز العملية الانتخابية في فنزويلا، وتطلعات الرئيس مادورو للفوز بولاية رئاسية ثالثة وتعزيز موقفه الانتخابي عبر تنفيذ مشروعات تنموية تُسهم في تحسين صورته لدى الناخبين، وهو ما لا يُمكن تحقيقه سوى من خلال الأموال المُفرج عنها، بالنظر إلى التردي الذي تشهده الأوضاع الاقتصادية في فنزويلا منذ سنوات.
ختاماً، على الرغم من المسوغات الواضحة لقرارات الإفراج الأمريكي عن ودائع مُجمدة لدول تعدها واشنطن خصوماً لها، والتي ارتبطت في قدر كبير منها بتحقيق مصالح أمريكية مباشرة أو غير مباشرة؛ ليس ثمة شك أن مثل هذه القرارات قد تكرس مزيداً من تراجع هيبة الولايات المتحدة ومكانتها على الساحة الدولية، وذلك لدى حلفائها وخصومها على حد سواء، ولاسيما أنه قد يُنظر إلى "صفقات المقايضة" على أنها رضوخ لمطالب الخصوم. ومن شأن هذه القرارات أيضاً أن تُثبت أنه لا يزال لدى بعض الدول أوراق للضغط على واشنطن لتنفيذ مطالبها، وأن تُقلل من قدرة الأخيرة على إنجاح آلية العقوبات ضد خصومها.