تمكن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، من حسم جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية التي أُجريت في 28 مايو 2023، لصالحه بنسبة فوز بلغت نحو 52.1% في مقابل 47.9% لمرشح المعارضة كمال كليجدار أوغلو. وعلى الرغم من تعقد معطيات السياق الانتخابي الرئاسي الذي شهد لأول مرة جولة إعادة، حيث لم يتمكن أي من المرشحين من حسم الانتخابات من الجولة الأولى، فقد جاءت نتائج الجولات الانتخابية كاشفة عن بعض التحولات التي شهدتها الخريطة الانتخابية التركية، من ناحية تعزز حضور المعارضة، خاصة في المدن الكبرى، الذي جاء انعكاساً لتراجع الأوضاع الاقتصادية، ورغبة قطاع كبير من الرأي العام، ولاسيما شريحة شباب الناخبين، في التغيير السياسي.
بيد أن هذه التحديات لم تكن عائقاً أمام تحقيق أردوغان وتحالفه الفوز في الانتخابات الرئاسية، وكذلك الأغلبية البرلمانية، وإن كان بفارق أصوات ليس كبيراً، وهو ما يُثير معه التساؤل حول عوامل فوز أردوغان بالرغم من الضغوط الداخلية والخارجية التي واجهها خلال هذه الانتخابات، وإلى أي مدى سيكون لهذا الفوز ارتداداته على الداخل التركي، وكذلك على ملفات السياسة الخارجية التركية؟
ملامح التصويت:
كشفت نتائج انتخابات الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية التركية عن بعض الملامح الرئيسية لاتجاهات التصويت العامة، وفقاً لمحددات السياق الانتخابي التي أفرزتها جولة الانتخابات الأولى، وذلك على النحو التالي:
1- انخفاض محدود في المشاركة الانتخابية: بلغت نسبة المشاركة الانتخابية في الجولة الثانية 85.72% بمعدل تصويت 52 مليوناً و93 ألفاً و274 ناخباً، منهم 51 مليوناً و418 ألفاً و365 صوتاً صحيحاً، بمعدل انخفاض 1.3% عن الجولة الأولى التي بلغ معدل المشاركة فيها 87% بإجمالي تصويت 53 مليوناً و993 ألفاً و51 ناخباً، منهم 52 مليوناً و626 ألفاً و979 صوتاً صحيحاً.
2- ارتفاع معدل التصويت لأردوغان في مناطق الزلزال: حقق الرئيس أردوغان ارتفاعاً ملحوظاً في معدل تصويت ناخبي ولايات الزلزال مقارنة بالجولة الأولى التي جاءت أيضاً مفاجئة بأصوات معظمها لأردوغان. وبرز ذلك بشكل واضح من خلال ولاية هاتاي، التي كانت صوتت لصالح مرشح المعارضة كليجدار أوغلو في الجولة الأولى بنسبة تصويت 48.07% مقابل 48.03% لصالح أردوغان، بينما ارتفع معدل تصويتها في الجولة الثانية لصالح أردوغان بنسبة 50.14% في مقابل 49.86% لصالح مرشح المعارضة. ويُعزى هذا التحول إلى الحملة الانتخابية النشطة لأردوغان في تلك المناطق، لتأمين الدعم التصويتي، وخاصة في ولاية هاتاي، التي قام بزيارتها في 21 مايو 2023، ضمن جولته في مناطق الزلزال، وافتتح خلال زيارته مستشفى "دفنة" الحكومي، الذي كان قد وضع حجر الأساس لبنائه في 24 مارس الماضي، واكتمل بناؤه خلال 60 يوماً وفقاً للجدول الزمني الذي وعد به المواطنين هناك.
3- حشد أصوات القوميين لصالح أردوغان: تمكن أردوغان من حشد أصوات القوميين، عبر رسائله الانتخابية خلال الفترة الماضية، خاصة فيما يتعلق بملف عودة اللاجئين السوريين، حيث تحدث وزير خارجيته جاويش أوغلو قبيل جولة انتخابات الإعادة بيوم عن سعي أنقرة لإعادة اللاجئين السوريين في بلاده بشكل آمن، وإعادتها الفعلية نحو 553 ألف سوري إلى مناطق الشمال السوري. هذا إلى جانب ورقة حزب العمال الكردستاني، التي سعى أردوغان إلى توظيفها أثناء حملته الانتخابية، حيث قامت حملته في أحد التجمعات بعرض لقطات تبدو مزيفة لمقاتلين من حزب العمال الكردستاني وهم يهتفون لكليجدار أوغلو، وهو ما اعترف به أردوغان فيما بعد. وأسهم هذا كله في استمالة بعض أصوات ناخبي المرشح الرئاسي السابق، سنان أوغان، الذي كان قد حصل على نسبة تصويت 5.17% خلال الجولة الأولى. إذ دفع هذا الخطاب التصعيدي من جانب أردوغان تجاه حزب العمال الكردستاني، بالإضافة إلى حديثه عن إعادة اللاجئين السوريين، إلى إعلان أوغان عن دعمه أردوغان في 22 مايو 2023، ودعا أنصاره للتصويت لصالح أردوغان في جولة الإعادة. وهذا ما انعكس بشكل واضح في ارتفاع نسب التصويت في معظم الولايات لأردوغان، خلال الجولة الثانية، وخاصة تلك التي كان قد حظي فيها أوغان بنسب تصويت مرتفع، ومنها على سبيل المثال ولايات إغدير وإسبرطة وكارابوك وقيصري.
4- ارتفاع نسب تصويت ناخبي المدن المركزية لمرشح المعارضة: عكست نتائج الجولة الثانية ارتفاع النسب التصويتية لناخبي المدن المركزية على غرار إسطنبول وأنقرة وأضنة وأنطاليا، وإزمير، لدعم مرشح المعارضة كليجدار أوغلو، بالمقارنة بنتائج الجولة الأولى.
وقد يفسر هذا السلوك التصويتي تعزز نسبة الشباب في قاعدة الناخبين لهذه الولايات، خاصة الشباب الناخبين لأول مرة والراغبين، وفقاً لنتائج استطلاعات الرأي، في إحداث التغيير، وبالتالي سعوا خلال الجولة الثانية للحفاظ على اختياراتهم الدافعة نحو تغيير المشهد، وترجيح كفة مرشح المعارضة في مواجهة أردوغان.
عوامل الحسم:
على الرغم من تعقد السياق الانتخابي بالنسبة للرئيس أردوغان، ارتباطاً بمتغيرات الواقع السياسي والاقتصادي المأزوم الذي تشهده تركيا في الوقت الراهن، فإنه تمكن من حسم المعركة الانتخابية لصالحه، وساعده في ذلك جملة من العوامل التي يمكن توضيحها على النحو التالي:
1- الخبرة السياسية لأردوغان مقارنة بمرشح المعارضة: كان لخبرة أردوغان السياسية، سواءً تلك المرتبطة بالحكم أو إدارة الحملات الانتخابية، دور بارز في ترجيح أصوات الناخبين له خلال جولتي الانتخابات التي انتهت بفوزه. وبرز ذلك بشكل واضح في قدرة أردوغان على استقطاب أصوات المعارضين له في المناطق المنكوبة بالزلزال، والتي كانت قد ذهبت للتصويت لمنافسه، على غرار ولاية هاتاي التي تمكن من تغيير موقفها التصويتي لصالحه خلال جولة الإعادة، فضلاً عن ارتفاع نسب التصويت له في الولايات الأخرى، كما هو موضح سلفاً. وقد عزز ذلك ضعف مرشح المعارضة، كليجدار أوغلو، الذي يكبر أردوغان سناً، بالإضافة إلى خبرته المحدودة في المناورات الانتخابية التي انتقصت من رصيده التصويتي. وبالتالي ربما نشأت قناعة لدى الناخبين بعدم قدرة كليجدار أوغلو على إدارة أزمات تركيا، وسياستها الخارجية، والتحديات التي تواجهها بشكل أفضل من أردوغان.
2- السيطرة الإعلامية للحملة الانتخابية لأردوغان: وفقاً لتقارير دولية، تمتع أردوغان وحملته الانتخابية بقبضة شبه كاملة على وسائل الإعلام التركية، من خلال فخر الدين ألتون، مسؤول الإعلام والاتصال في القصر الرئاسي. إذ إن وسائل الإعلام التركية إما مملوكة مباشرة لأقارب أردوغان، مثل صحيفة "صباح" التي يديرها سرحات البيرق، أو خاضعة لسيطرته من خلال رؤساء التحرير الذين يعينهم ويعملون تحت إشراف ألتون. ومنحت هذه السيطرة على وسائل الإعلام، أردوغان ميزة إضافية لتعزيز حضوره لدى الناخبين، في مقابل تشويه صورة كليجدار أوغلو. كما حصل مرشح المعارضة على الحد الأدنى من وقت البث، وعندما كان في وسائل الإعلام، تم تصويره على أنه زعيم غير كفء وغير مؤهل لحكم البلاد. وقد أدت هذه الحملات إلى شعور عدد كاف من الناخبين بالارتباك والخوف من أن تكون تركيا أسوأ بكثير إذا تم انتخاب كليجدار أوغلو.
وأيضاً وفقاً للمراقبين الدوليين، فإن انحياز وسائل الإعلام خلال جولتي الانتخابات التركية، أدى إلى "خلق ساحة لعب غير مستوية، وأسهم في تحقيق ميزة غير مبررة لأردوغان".
3- تقديم أردوغان الحوافز المالية للناخبين: نجح أردوغان خلال حملته الانتخابية في "الهروب للأمام" وتحويل التركيز بعيداً عن أزمة غلاء المعيشة، عبر الحوافز المالية التي قدمها للمواطنين في صورة معاشات تقاعدية ورواتب مرتفعة، وتوفير خصومات على فواتير الطاقة المنزلية. وكان لذلك دوره الإيجابي في التخفيف من ضغوط الأزمة الاقتصادية على السلوك التصويتي للناخبين ضد أردوغان.
4- حشد التيارين القومي والديني المحافظ: يُجيد أردوغان المناورات السياسية في الحملات الانتخابية، وهو ما مكّنه من الاستمرار في الحكم طيلة هذه العقود. وخلال هذه الانتخابات، ناور أردوغان خصومه في المعارضة من خلال توظيف حالة الاستقطاب المجتمعي، وتمكن من حشد التيار القومي والتيار الديني المحافظ، عبر نقل النقاش إلى قضايا مثل الأمن وقيم الأسرة. وهو ما كان له صدى في صفوف الناخبين القوميين والمحافظين، مستغلاً في ذلك معاناة السكان المتدينين في تركيا من الاضطهاد باسم "العلمانية"؛ من ناحية منع النساء المسلمات من ارتداء غطاء الرأس في المؤسسات التعليمية ومؤسسات الدولة، وإبعاد الدين عن الحياة العامة والسياسة لعقود. وبالتالي، كانت حملات تصوير كليجدار أوغلو وحزبه "الشعب الجمهوري" بأنهما يرمزان إلى هذا "الاضطهاد"، مُجدية في حشد ناخبي اليمين الديني والمحافظ في تركيا، والنظر إلى أردوغان باعتباره "زعيماً وبطلاً دينياً مُخلّصاً" كافح ضد القوى ذات النيات السيئة داخلياً وخارجياً، من وجهة نظر مؤيديه.
5- دعوة أوغان أنصاره إلى التصويت لأردوغان: نجح أردوغان في إقناع مرشح "تحالف الأجداد"، سنان أوغان، بدعمه في جولة الإعادة، اعتماداً على ورقتي إعادة اللاجئين السوريين وعدائه لحزب العمال الكردستاني، وهما الشرطان اللذان وضعهما أوغان كشرط لدعم أي من المرشحين في الإعادة. وعلى إثر ذلك، دعا أوغان، في 22 مايو 2023، من صوتوا له في الجولة الأولى إلى التصويت لصالح أردوغان، وهو ما انعكس بشكل واضح في ارتفاع نسب التصويت في معظم الولايات لأردوغان، خلال الجولة الثانية، وخاصة تلك التي كان قد حظي فيها أوغان بنسب تصويت مرتفعة.
6- هشاشة تحالف المعارضة والانقسامات داخله: عانى تحالف "الأمة" المعارض الذي يجمع أطيافاً سياسية مختلفة، منذ البداية، من الهشاشة؛ نتيجة التباينات السياسية بين أعضائه، والتي عززت بدورها الانقسامات في صفوفه. وبرزت هذه التباينات بشكل واضح خلال جولة الانتخابات الأولى، حيث انسحب حزب "الجيد"، الذي تترأسه ميرال أكشنار، قبل عودتها مرة أخرى، احتجاجاً منها على ترشيح كليجدار أوغلو للرئاسة. هذا فضلاً عن رفض جناح في حزب "السعادة"، يُسمى "هيمانا"، ذي توجه ديني، أيضاً ترشيح كليجدار أوغلو وحزبه ذي التوجه العلماني.
وقبيل جولة الانتخابات الثانية، وفي إطار مناورة كليجدار أوغلو لتفتيت كتلة الأصوات القومية في "تحالف الأجداد" (ATA) الذي يقوده سنان أوغان، خاصة في أعقاب إعلان الأخير دعمه لأردوغان، اتجه كليجدار أوغلو للتحالف مع زعيم حزب "النصر"، أوميت أوزداغ، أحد الأحزاب الرئيسة في "تحالف الأجداد"، والمعروف عنه تطرفه القومي تجاه اللاجئين، وكذلك حزب العمال الكردستاني والأحزاب الداعمة له على غرار حزب "الشعوب الديمقراطي". وقد كان لهذا التحالف تأثيره السلبي في تماسك تحالف المعارضة، حيث حدثت عدة استقالات احتجاجية في حزب "المستقبل"، واعتراض من جانب رئيس حزب "الديمقراطية والتقدم"، والقيادات الوسطى في الأحزاب المحافظة المتحالفة مع "الشعب الجمهوري". علاوة على تأثيره السلبي في الناخبين الأكراد الداعمين لحزب "الشعوب الديمقراطي"، خاصة في ضوء موقف الحزب الذي اجتمع لتقييم الاتفاق، قبيل ساعات من يوم الاقتراع. وبالتالي، كان لهذه التوترات تأثيرها السلبي في تفتيت الكتلة التصويتية الكردية الداعمة لتحالف المعارضة بدرجة أو بأخرى.
وبشكل عام، كان لهذه التباينات والانقسامات في صفوف المعارضة، تأثيرها السلبي في تراجع ثقة الناخبين في التحالف وعدم اليقين بقدرته على إدارة الأزمات التي تواجهها تركيا إذا ما جاء كليجدار أوغلو للحكم، وهو ما مثّل نقطة قوة لصالح تحالف أردوغان.
7- حفاظ التحالف الحاكم على الصدارة في الانتخابات البرلمانية: كان لتعزز شعبية تحالف "الجمهور" الحاكم واستقراره بعد فوزه بالأغلبية البرلمانية، أثره الإيجابي في تعزيز ثقة الناخبين بحسم موقفهم المتردد بدعم أردوغان، خاصة بعد حصوله على أكثرية الأصوات التي تفوق بها على منافسه من المعارضة كليجدار أوغلو في الجولة الأولى.
أولويات الداخل:
تشير المعطيات الراهنة، وتأسيساً على البرنامج الانتخابي لتحالف أردوغان، وكذلك خطابه بعد فوزه بولاية رئاسية جديدة، إلى بعض ملامح سياسته الداخلية خلال السنوات الخمس المقبلة، على النحو التالي:
1- أولوية الأزمة الاقتصادية وخفض التضخم: هناك تحديات اقتصادية في الداخل التركي، وخاصة على صعيد وصول معدلات التضخم إلى مستويات قياسية، وتراجع قيمة العملة "الليرة التركية" التي خسرت أكثر من 90% من قيمتها على مدار العقد الماضي، حيث سجلت أدنى مستوى قياسي لها عند 20.06 ليرة مقابل الدولار الأمريكي الواحد، في اليوم التالي لإعلان فوز أردوغان. ومن ثم، تدفع هذه المعطيات بأولوية الملف الاقتصادي في سياسات أردوغان الداخلية خلال السنوات الأولى من ولايته الرئاسية الجديدة من أجل تحقيق التوازن والاستقرار. وهذا ما أكده الرئيس التركي خلال "خطاب النصر"، معتبراً التضخم المشكلة الأساسية التي تواجه البلاد.
وفي الشهور الأربعة المقبلة في ولاية أردوغان، من المتوقع أن تكون فترة هادئة نسبياً بالنسبة للأوضاع الاقتصادية، وقد يساعد في ذلك تدفق عائدات السياحة الصيفية، بالإضافة إلى انخفاض فاتورة الطلب المحلي على الطاقة.
2- الوفاء بالوعود الانتخابية تجاه متضرري الزلزال: يأتي هذا الملف على قائمة أولويات أردوغان، وفقاً لما وعد به خلال حملته الانتخابية، وأكده في "خطاب النصر"، بيد أن ذلك سيكون مرتبطاً بالدرجة الأولى بنجاحه في معالجة الاختلالات الاقتصادية، نظراً للفاتورة الاقتصادية الضخمة التي يحتاجها، والتي تُقدر بأكثر من 100 مليار دولار، وفقاً لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وقد يكون أردوغان غير قادر على الوفاء بالإطار الزمني لوعده ببناء 319 ألف منزل في غضون عام، إلا أنه سيعتمد على المسكنات من خلال الالتزام الجزئي والمتدرج بإعادة البناء.
3- ملف اللاجئين السوريين: احتل هذا الملف أهمية حيوية في حملة أردوغان الانتخابية في إطار توظيفي لاستقطاب كتلة أصوات القوميين، كما أنه حاز على مساحة في "خطاب النصر". غير أن التعامل المتوقع من جانب أردوغان في إعادة اللاجئين السوريين قد لا يرقى إلى طموحات القوميين بالعودة الفورية لكل اللاجئين، خاصة أن الرئيس التركي لا يزال في حاجة إلى توظيف هذه الورقة في مواجهة الضغوط الغربية. وبالتالي سيلجأ أردوغان إلى تعزيز العودة الطوعية من خلال التنسيق مع شركائه الإقليميين لتوفير الاحتياجات المالية اللازمة لبناء مساكن في مناطق الشمال السوري، فضلاً عن استمرار التنسيق عبر مسار الاجتماعات الرباعية بين وزراء خارجية تركيا وروسيا وإيران وسوريا من أجل ضمان العودة الطوعية للاجئين في مناطق النظام السوري.
طموحات خارجية:
عزز الانتصار الانتخابي لأردوغان تمسكه بنهجه الاستقلالي في سياسة تركيا الخارجية كقوة إقليمية لا تدور في فلك السياسة الغربية، ومن ثم فإن ملامح السياسة الخارجية المتوقعة لولاية أردوغان الرئاسية الجديدة تتبلور في الآتي:
1- مئوية تركيا وبناء أردوغان "إرث حكمه": وفقاً لما أكده أردوغان في "خطاب النصر" من ناحية الاستمرار في بناء "مئوية تركيا"، فإن ذلك يعكس رؤيته الطموحة لإعادة إحياء ما يُسمى بـ"الإمبراطورية التركية" أو "العثمانية الجديدة". وعلى الرغم من خفوت هذا الطموح، في ضوء التحديات الداخلية التي تواجه أردوغان في الوقت الراهن، فإنه تمكن من إقناع الشعب التركي بأن هذا هو المسار الذي يجب أن تسلكه البلاد. وظهر ذلك في استعراض أردوغان للقدرة التركية على التفوق في مجالات التصنيع على غرار الدول الغربية، وهو ما برز بشكل واضح في حملته الانتخابية من خلال استعراض السيارة الكهربائية الجديدة التي أنتجتها تركيا، وكذلك حاملة الطائرات "تي سي جي أناضول" (TCG Anadolu)، بالإضافة إلى إعلانه عن دخول تركيا نادي الدول النووية.
ومع تقدير البعض لهذه الرؤية القومية بأنها تأتي في إطار توظيفي للحملات الانتخابية، وكذلك لتحقيق المصلحة السياسية الداخلية لأردوغان، بيد أن هذا لا يلغي طموح الرئيس التركي في بناء "إرث حكمه" في ولايته الجديدة بأن تصبح بلاده قوة مستقلة عن حلف "الناتو" والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وهو يرى في فوزه في الانتخابات فرصة للغرب لإعادة العلاقات معه بشروطه.
2- تطوير العلاقات والشراكات الاقتصادية مع دول الخليج: في إطار حرص أردوغان على تجنب الاقتراض من المؤسسات النقدية الغربية ذات الفائدة العالية كصندوق النقد الدولي، فإنه سيشرع في تسريع تطوير علاقاته مع دول الخليج، وتعميق شراكاته الاقتصادية معها. بيد أن عدم اليقين حول مدى نجاح هذه المساعي ومكاسبها المحتملة، قد يؤدي على المدى القصير إلى دفع الاقتصاد التركي إلى الركود.
3- الاستمرار في السياسة المتوازنة تجاه الحرب الروسية الأوكرانية: في إطار سعي أردوغان لتعزيز مدار حركة السياسة الخارجية التركية في إطار من الاستقلالية عن الغرب، فإنه من المتوقع استمراره في تحسين علاقاته مع روسيا، التي يوازن من خلالها مصالحه مع الكتلة الغربية، في إطار إجادته اللعب على التناقضات بين الطرفين لجني المكاسب. وهذا ما يتحقق في الوقت الراهن من خلال جنيه لمكاسب تقاربه مع موسكو في صورة حزم دعم اقتصادي، حيث تؤجل روسيا مدفوعات الغاز الطبيعي، بالإضافة إلى توفير المليارات من أجل أول محطة للطاقة النووية في تركيا، فضلاً عن ضخ العديد من الاستثمارات الروسية في الاقتصاد التركي. إلى جانب تحقيق أردوغان للمكاسب السياسية من خلال تنسيقه المشترك مع موسكو لتأمين مصالحه في مناطق الاهتمام والنفوذ المشترك على غرار سوريا وليبيا.
وأيضاً من المتوقع أن يستمر الرئيس التركي في سياسته المتوازنة تجاه الحرب الأوكرانية، حيث استطاع أن يحافظ على علاقات وثيقة مع موسكو ورفض المشاركة في العقوبات الغربية ضدها، بينما قام أيضاً بتزويد كييف بالمُسيّرات. وهذا ما مكّن أنقرة من أداء دور الوساطة في "اتفاق الحبوب" لتأمين واردات الحبوب الروسية والأوكرانية إلى العديد من دول العالم.
4- تبني سياسة مستقلة تجاه الغرب مع بعض المواءمات: يسعى أردوغان، في إطار رؤيته لضرورة استقلالية تركيا في سياستها الخارجية، إلى تأمين الفضاء المستقل للحركة التركية عن السياسة الغربية. وفي سبيل تحقيق ذلك، يعمل الرئيس التركي على نسج أوراق سياسية ضاغطة يمكن من خلالها تأمين مصالحه في مواجهة الضغوط الغربية، وبرز ذلك بشكل واضح من خلال تحسين علاقاته مع روسيا وتعزيز نفوذه في المناطق الحيوية للمصالح الغربية في منطقة الشرق الأوسط على غرار سوريا وليبيا.
هذا فضلاً عن استغلال أردوغان لوضع تركيا كدولة عضو في حلف "الناتو"، للضغط على الدول الغربية للحصول على موافقته بتوسيع عضوية الحلف، وهو ما ينعكس في الوقت الراهن في تعليق الموافقة التركية على انضمام السويد إلى "الناتو"، والتي يحتاج الغرب انضمامها بشكل كامل قبل موعد انعقاد قمة الحلف في يوليو المقبل. ومن المتوقع أن يوافق أردوغان على ذلك في مقابل الحصول على تنازلات غربية، وخاصة من قِبل الولايات المتحدة، بحيث تستكمل موافقتها التي منحتها لأنقرة لشراء طائرات "F-16" مرة أخرى، وبحث فرصة دعوة أردوغان لزيارة واشنطن ولقاء الرئيس جو بايدن.
وعلى مستوى العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، فليس متوقعاً أن تشهد تغيراً جوهرياً فيما يتعلق بحلم تركيا بالانضمام للاتحاد، أو تحديث اتفاقية "الاتحاد الجمركي" لعام 1995 أو تحرير تأشيرة السفر للأتراك إلى دول الاتحاد الأوروبي.
إجمالاً، ستظل هذه الرؤية الطموحة لأردوغان في استقلالية السياسة الخارجية التركية عن الكتلة الغربية، رهينة قدرته على تجاوز أزماته الداخلية والضغوط الاقتصادية الحالية، ونجاح رهانه على مسارات الحركة البديلة في مساعدته على تجاوز هذه الأزمات خاصة في بُعدها الاقتصادي، من خلال التقارب مع روسيا وتعزيز علاقاته مع دول الخليج، حيث إن فشل هذه التحركات سيمنح الولايات المتحدة وأوروبا مزيداً من الأوراق للضغط على أنقرة. كما أن فوز أردوغان في الانتخابات لم يلغ حضور المعارضة في الداخل التركي، والتي ستراقب مدى نجاح أردوغان وتحالفه الحاكم في تنفيذ وعوده الانتخابية وحل الأزمات الداخلية ولاسيما الاقتصادية.