على الرغم من تعثر كافة الجهود الدولية والإقليمية، حتى الآن، في إيجاد تسوية للصراع المتفاقم في السودان بين قوات الجيش، بقيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع، بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي)، فإن طرفي الصراع أعلنا، مطلع مايو 2023، موافقتهما على بدء مشاورات تحتضنها السعودية، بدعم أمريكي.
تطور المشهد العملياتي
تراجعت حدة القتال، نسبياً، في الداخل السوداني، بيد أن المواجهات لا تزال مشتعلة بين قوات الجيش السوداني والدعم السريع، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- تمديد الهدنة الهشة: أعلنت وزارة الخارجية لدولة جنوب السودان أن الجيش السوداني وقوات الدعم السريع وافقا على تمديد الهدنة القائمة لمدة سبعة أيام جديدة، بدءاً من 4 مايو الجاري، وذلك بعدما كان الطرفان قد أعلنا قبولهما تمديد الهدنة الهشة ثلاث مرات سابقة، والتي تراوحت ما بين 24 و72 ساعة. وأشار تقرير أمريكي إلى أن السعودية أدت دوراً محورياً، بمساعدة أمريكية، في التوسط بين البرهان وحميدتي للتوصل لهذه الهدنة.
وعلى الرغم من تكرار اتفاقات الهدنة ووقف إطلاق النار، فإن القتال لم يتوقف فعلياً في الخرطوم، فيما يوجه كل طرف اتهامات للآخر بخرق الهدنة وارتكاب انتهاكات، كما استمرت الضربات الجوية التي يشنها الجيش السوداني ضد قوات الدعم السريع في الخرطوم، في محاولة من الأول لإضعاف قدرات الثانية.
وتشير تقارير غربية إلى أن القتال لا يزال يتركز بشكل أساسي في شمال الخرطوم، عند ملتقى النيلين الأزرق والأبيض، لافتة إلى أنه على الرغم من القوة العسكرية المتفوقة للجيش السوداني، فإنه غير قادر على التعامل مع ديناميكية قوات الدعم السريع الأكثر ملاءمة لحروب المدن.
2- مواجهات عنيفة في دارفور: شهدت دارفور تصاعداً حاداً في المواجهات بين الجيش السوداني والدعم السريع، فقد أسفر القتال في إقليم غرب دارفور عن مقتل نحو 200 شخص ونزوح أكثر من 20 ألف مدني تجاه الحدود التشادية، وتعد منطقة "الجنينة"، عاصمة إقليم غرب دارفور، إحدى أكثر المناطق اشتعالاً حالياً في الداخل السوداني، حيث اندلعت أخيراً اشتباكات قبلية حادة بين قبائل المساليت والقبائل العربية في هذه المنطقة، لذا حذر بعض مسؤولي غرب دارفور من احتمالية اندلاع حرب أهلية عنيفة تجتاح غرب الغرب السوداني بأكمله.
كما رصدت تقارير غربية اتهامات لقوات الدعم السريع بمهاجمة المدنيين والقيام بأعمال نهب وسرقات واسعة، فيما وُجهت اتهامات مماثلة لقوات الجيش السوداني باستهداف المدنيين من القبائل العربية المرتبطة بالدعم السريع. في المقابل، تمكن الزعماء الدينيون والقادة المحليون في إقليم شمال دارفور من التوصل إلى هدنة بين قوات الجيش السوداني والدعم السريع.
مشاورات جدة
طرحت العديد من الأطراف المحلية والإقليمية والدولية مبادرات عدة للوساطة بين قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، بيد أن طرفي الصراع التزما الصمت حيالها، قبل أن يعلن البرهان وحميدتي خلال الأيام الأخيرة عن قبولهما للوساطة السعودية الأمريكية التي ستستضيفها مدينة جدة، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- مراحل متدرجة للتهدئة: أعلن المبعوث الأممي في السودان، فولكر بيرتيس، موافقة القيادة العامة للجيش السوداني وقوات الدعم السريع على إرسال ممثلين عنهما في المحادثات التي ستستضيفها السعودية. وأشار فولكر إلى أن مباحثات جدة ستعمل على التوصل إلى وقف دائم ومستقر لإطلاق النار بين طرفي الصراع، يعتمد على مراقبة داخلية وخارجية، على أن يعقب هذه الخطوة، حال نجاحها، مشاورات موسعة لتسوية نهائية للخلافات والصراعات بين الطرفين، والتي يتوقع أن تشهد مشاركة للمكون المدني، لمحاولة إنجاز الاتفاق النهائي الذي يمهد الطريق أمام تشكيل حكومة مدنية وخروج المكون العسكري من المشهد السياسي.
2- مبادرة أمريكية سعودية: أشارت تقارير إلى أن مشاورات جدة بين طرفي الصراع السوداني تأتي في إطار مبادرة مشتركة تقودها السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، لإنهاء هذا الصراع، بعدما أبدى طرفاه تجاوباً نسبياً مع فكرة تهدئة الاشتباكات، فقد أجرى وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، مشاورات مباشرة مع قائد الجيش السوداني، عبدالفتاح البرهان، وقائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، للضغط عليهما لقبول فكرة الحوار، بالتزامن مع الاتصالات المماثلة التي أجراها وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، مع البرهان وحميدتي، فيما لفتت تقارير أمريكية إلى أن السعودية تنسق كذلك مع الإمارات ومصر.
3- مفاوضات غير مباشرة: أعلن مبعوث البرهان إلى القاهرة، السفير دفع الله الحاج علي، أن وفد الجيش السوداني لن يدخل في مشاورات مباشرة مع وفد الدعم السريع، مشيراً إلى أن التواصل سيكون من خلال الوسطاء، فيما أشار الجيش السوداني إلى أن المشاورات تستهدف التوصل لهدنة مستقرة، وليس التفاوض لإنهاء الحرب.
محفزات عدة
هناك جملة من المحفزات التي ربما تزيد من فرص نجاح الوساطة السعودية الأمريكية في التوصل لتسوية تنهي الحرب الراهنة في السودان، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- علاقة الرياض بطرفي الصراع: تحظى السعودية بعلاقات وثيقة بمختلف الأطراف في الداخل السوداني منذ الإطاحة بنظام البشير في عام 2019، حيث نسجت الرياض شبكة واسعة من العلاقات بالمكونين العسكري والمدني في الخرطوم. وكانت السعودية تؤدي دوراً خلال الفترة الأخيرة، في إطار الرباعية الدولية التي تضم أيضاً الولايات المتحدة وبريطانيا والإمارات العربية المتحدة، في محاولة التوصل لاتفاق نهائي وشامل بين المكونين.
وانعكست هذه العلاقات في الدور الذي أدته السعودية في عملية إجلاء مواطنيها وكذا مواطني عدة دول إقليمية ودولية من الداخل السوداني بعد اندلاع القتال في الخرطوم، حيث تمكنت السفن السعودية من إجلاء نحو 6000 شخص حتى الآن، منهم أقل من 250 سعودياً، فضلاً عن تجاوب البرهان وحميدتي مع الوساطة السعودية بخلاف المبادرات السابقة التي طرحت من قبل الاتحاد الإفريقي ومنظمة الإيغاد ومصر.
2- مساعٍ سعودية لتعزيز دورها: تسعى الرياض للترويج لنفسها كصانع للسلام، وتعزيز مكانتها الدبلوماسية على المسرح الدولي، ولذلك، فإن التحركات السعودية في الملف السوداني تعكس أحد ملامح الاستراتيجية الجديدة للرياض. وفي هذا الإطار، قد تمارس السعودية ضغوطاً على طرفي الصراع السوداني لتعزيز فرص نجاح وساطتها.
ومن ناحية أخرى، هناك قلق سعودي من التداعيات المحتملة لتفاقم الأوضاع الأمنية في السودان على مشروعات الرياض الاقتصادية في البحر الأحمر، وتطلعاتها للتحول إلى مركز اقتصادي إقليمي رئيسي، لذا تعمل السعودية على الإسراع في تسوية هذه الأزمة حفاظاً على مصالحها الاقتصادية.
3- حشد دعم دولي وإقليمي: أجرت السعودية اتصالات مكثفة بمختلف الأطراف الفاعلة في الملف السوداني، في محاولة لحشد دعم إقليمي ودولي واسع لجهود الوساطة التي تقوم بها. فقد أجرى وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، اتصالاً مع رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، موسى فقي محمد، في 2 مايو الجاري، في محاولة للتنسيق مع منظمة الاتحاد الإفريقي، باعتبارها المنوط بها التعاطي مع الصراع الراهن في السودان. وعلى المنوال ذاته، ذهبت تقديرات أخرى إلى أن السعودية تسعى إلى دمج مبادرة الإيغاد مع مبادرتها المطروحة للوساطة بين طرفي الصراع، بما يعزز فرص نجاحها في تسوية الصراع السوداني.
4- صعوبة الحسم العسكري: يشكل المشهد العملياتي أحد أبرز المحددات التي ربما تزيد من فرص نجاح الوساطة السعودية الحالية، إذ لم يتمكن أي طرف، حتى الآن، من فرض سيطرته الميدانية الكاملة في مواجهة الطرف الآخر، وهو ما قد يدفع لإطالة أمد الصراع، ومن ثم إنهاك القوتين المتحاربتين، وتحملهما تكاليف مادية وبشرية باهظة، الأمر الذي قد يدفعهما لقبول فكرة التفاوض.
تحديات قائمة
على الرغم من المحفزات السابقة للتسوية السلمية للصراع الجاري في الخرطوم، فإن هناك تحديات قائمة ربما تهدد نجاح مباحثات جدة المرتقبة، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- تباين موقف القيادات: هناك درجة من المعارضة داخل قيادات الجيش السوداني والدعم السريع إزاء فكرة قبول التفاوض، فحتى وإن تمخضت اجتماعات جدة عن تفاهمات مشتركة بين البرهان وحميدتي، تبقى احتمالية رفض بعض قيادات طرفي الصراع لهذه التفاهمات قائمة بقوة. وربما هذا ما يفسر تصريحات القيادة العامة للجيش السوداني التي ألمحت إلى أنها وافقت فقط على الدخول في مباحثات غير مباشرة مع الدعم السريع للتوصل لهدنة، لكنها نفت دخولها في أي مفاوضات مع الأخير لإنهاء الحرب، كما لوح الجيش السوداني برفضه أي آلية للتدخل الدولي في الملف السوداني بهذه المرحلة.
من ناحية أخرى، تعرضت الملحقية الثقافية للسعودية، في 2 مايو الجاري، لهجمات وعمليات نهب من قبل مجموعات مسلحة، وذلك بعد حديث تقارير إعلامية عن موافقة طرفي الصراع على الانخراط في الوساطة السعودية، وهو ما رأته تقديرات رفضاً من قبل بعض الأجنحة الداخلية لطرفي الصراع لفكرة التفاوض ووقف الحرب، على الأقل في المدى المنظور.
2- تعقد شبكة الفاعلين الخارجيين: يشكل المحدد الاقتصادي فاعلاً رئيسياً في تعزيز فرص نجاح الوساطة الحالية، حيث يمكن أن تعمد الولايات المتحدة إلى التلويح بورقة العقوبات الاقتصادية على طرفي الصراع حال تمسك كل منهما بموقفه، ناهيك عن تعهد السعودية بتقديم مزيد من الدعم المالي للسودان حال التوصل لاتفاق سلام.
ولكن في المقابل، فإن تعدد الفواعل الإقليمية والدولية في الملف السوداني، بالتوازي مع افتقار واشنطن لأدوات الضغط الكافية على طرفي الصراع لقبول التوصل إلى تسوية يقلص فرص نجاح الوساطة الحالية، ولاسيما أن طرفي الصراع مرتبطان بقوى خارجية تدعم موقف كل منهما.
ومن غير المرجح أن تقبل هذه الأطراف بتمدد النفوذ السعودي والأمريكي في الملف السوداني، من خلال نجاح وساطة الرياض، على حساب مصالحهم الاستراتيجية هناك، وهو ما قد يدفع القوى الخارجية لإقناع حلفائهم في الداخل السوداني بمواصلة القتال والعمل على إفشال الوساطة السعودية الأمريكية.
3- المناورة وكسب مزيد من الوقت: يلاحظ أن قبول طرفي الصراع للوساطة السعودية قد يأتي في ظل التحديات الميدانية التي يواجهها الطرفان، وبالتالي فإن قبول الطرفين للهدنة يستهدف بالأساس المناورة، وكسب مزيد من الوقت، بحيث يعزز كل طرف تموضعه وموقفه الميداني، ومحاولة فرض حسم عسكري للصراع.
وفي الختام، يلاحظ أن قبول البرهان وحميدتي للوساطة السعودية قد يكون مؤشراً إيجابياً، بيد أن فرص انخراط طرفي الصراع في عملية سلام حقيقية تبدو منخفضة للغاية، في ظل تمسك البرهان وحميدتي بالحسم العسكري على ما يبدو، وذلك ما لم تمارس الأطراف القائمة بالوساطة ضغوطاً كبيرة على طرفي الصراع.