أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

هل انتهى الأمل في الشرق الأوسط حقاً؟

30 سبتمبر، 2020


في الولايات المتحدة وفي الغرب عامة هناك نوبات من فقدان الأمل في منطقة الشرق الأوسط التي عندما تقترب من الكلام فيها سوف تجد أنها في حقيقتها تتحدث عن «العالم العربي». 

جذور هذه النوبات تعود إلى كتابات برنارد لويس في ستينات القرن الماضي عن الشرق الأوسط، وما لحقها في السبعينات عندما كتب فؤاد عجمي عن «نهاية العروبة»؛ ولكنها باتت تقليداً يلح كل عقد أنه لسبب ما فإن هناك ما يدعو إلى اعتقاد بزوال العرب أو العروبة أو الدول العربية. في التسعينات شاع تعبير «الاستثناء العربي» احتجاجاً على أن الدول العربية لم تلحق بركب الديمقراطيات الوليدة التي خرجت من رحب الحرب الباردة في شرق أوروبا وما تلاها من نظم في أميركا اللاتينية. مطلع الألفية جاء بتحميل العرب تبعة الموجات الإرهابية التي وصلت إلى نيويورك وواشنطن فولدت الفكرة الجهنمية للإطاحة بالنظم العربية. وعندما قامت الولايات المتحدة بغزو العراق كان شائعاً في واشنطن القول إن بغداد لم تكن المقصودة تحديداً وإنما القاهرة والرياض. على أي الأحوال انتهت حرب العراق، ومن قبلها أفغانستان، إلى مآسٍ لم يعد أحد يعرف كيف يمكن التخلص منها. ما سمي الربيع العربي كان لحظة سعادة في الغرب لم تستمر طويلاً بعد أن تكشفت عن نظم وحركات وتنظيمات ثيوقراطية وإرهابية وحروب أهلية وعنف وصل مداه إلى تفتيت وتدمير مدن وآثار وأقطار. 

في منتصف العقد الماضي تكونت مجموعة في واشنطن من الباحثين والخبراء في الشرق الأوسط لبحث كيفية إصلاح المنطقة تحت اسم «ميست أو Middle East Task force (MEST)» تحت إشراف مادلين أولبرايت – وزيرة الخارجية الأميركية في عهد كلينتون، وستيفن هادلي مستشار الأمن القومي في عهد جورج بوش الابن. التقرير الذي صدر عن هذه المجموعة تبنى النظرية التي تقول بأن هناك أسباباً جذرية أو Root Causes لتدهور الأحوال في المنطقة تتجسد في غياب التقاليد الليبرالية والديمقراطية. لم يكن لا الديمقراطيون ولا الجمهوريون مختلفين على هذا المسار في النظر إلى العالم العربي.

في 5 سبتمبر (أيلول) الحالي نشر ستيف كوك – الزميل في مجلس الشؤون الخارجية – مقالاً يائساً بعنوان «نهاية الأمل في الشرق الأوسط، الإقليم كان دائماً لديه مشكلات، لكنه الآن تعدى نقطة اللاعودة تقريباً». والحقيقة، أن كوك لم يكن هو الوحيد الذي تبنى هذه النظرة خلال الفترة الأخيرة. ما هو مثير للدهشة في هذه الأعمال ليس فقط مرجعيتها الليبرالية التي لم تعد هي الوحيدة في قياس التقدم على مستوى العالم؛ لكن أيضاً أن التجربة الأميركية الراهنة تثير الكثير من الشكوك حول قدرتها لاستدامة التقدم في ظل التعقيد الشديد الذي ولدته وسائل الإنتاج المعاصرة، وما نجم عن «العولمة» من ردة كونية إلى فضاء الدولة القومية. وبينما يبدو هذا خللاً في المداخل الأكاديمية لدراسة الشرق الأوسط أو العالم العربي تحديداً؛ فإن الخلل الأكبر يقع في ضعف الصرامة العلمية والمتابعة الدقيقة لما يجري في البلاد العربية والتعامل معها بالاتزان الواجب. لقد تعرض الإقليم كله إلى سلسلة من الاختبارات الكبرى خلال العقدين الماضيين بدأت بالمتطرفين الإسلامويين وما لحقه من إرهاب أصاب المنطقة بأكثر مما أصاب العالم، ولحق بها وتفاعل معها موجات ما سمي «الربيع العربي»، لكي ينتجا معاً سلسلة من الانهيارات والحروب الأهلية، وأشكالاً كثيرة من الفوضى التي لم يكن أياً منها «خلاقاً» لا في السير نحو الديمقراطية ولا بناء الدولة الوطنية كما كان منتظراً في الولايات المتحدة.

ما غاب عن الرؤية الأميركية في الجامعات ومراكز البحث ومجموعات العمل، أنه رغم كل التراجيديات التي جرت، فإن الدولة العربية كانت عصية على الانهيار والتقسيم. خرجت الجزائر من العشرية السوداء بدولة أكثر قوة على «الحراك» وبحث المستقبل السياسي للبلاد. ورغم الغزو الأميركي وحل الدولة العراقية كلها وإعادة تركيبها من جديد على أساس من المحاصصة، فإن العراق ظل باقياً ولم ينجح الاستفتاء الكردي للانفصال. في أسوأ الحالات وأكثرها دموية التي تبدت في سوريا، فإنه لا يوجد لا داخل سوريا ولا خارجها من يريد تقسيمها، والحال ذاته ينطبق على لبنان وليبيا واليمن؛ اللهم إلا في خيالات مراكز البحوث الأميركية.

والأكثر أهمية من ذلك، أن رد الفعل العربي الذي جاء خلال العشرية الأولى من الألفية كان سلسلة من المبادرات الفكرية للإصلاح في الأقطار العربية ما لبثت أن فرضت نفسها على الساحة السياسية والاقتصادية خلال النصف الثاني من العشرية الثانية في السعودية، ومصر، والإمارات، والأردن، والمغرب، والجزائر، والبحرين، وعمان. تونس كان لها مسارها السياسي الخاص تحت الثقل الثقيل لحركة الإخوان المسلمين ممثلاً في حزب النهضة، فكان النجاح السياسي مرادفاً لتراجع اقتصادي ومدني. النقطة الأساسية هنا هي أن العالم العربي كان له طريقه الخاصة للتعامل مع أزماته من خلال عمليات إصلاح عميقة في التركيبة الجغرافية والتاريخية والفكرية في البلاد. السعودية ومصر يقدمان نماذج موثقة في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والتقارير الدولية المختلفة مثل «التنمية البشرية» و«التنافسية» وعشرات أخرى؛ وهي عادة لا ينظر إليها الدارسون الأميركيون طالما لا تؤكد على وجهة نظرهم. حزمة الإصلاح لا تتوقف على مشاريع اقتصادية عملاقة تضاعف من استغلال إقليم الدولة (مليونا كيلومتر مربع في الأولى ومليون في الثانية)، وإنما تصل إلى حل المشاكل المستعصية للتعليم والصحة والسكن، ومع ذلك كله تجديد الفكر الديني وتمكين المرأة والتعامل الإيجابي مع قضايا الأقليات في الدولة. صاحب الإصلاح في المجالات المختلفة نهضة حضارية وثقافية غير مسبوقة يكون فيها التاريخ جزءاً من عملية بناء الدولة الوطنية كما هو حادث في الاكتشافات المختلفة في المملكة؛ وفي مصر فإن الاكتشافات صاحبها بناء المتاحف بالقدر الذي بنيت به الطرق والمدن والجامعات، أي قدر ما تحقق خلال النصف قرن الماضي.

لم يكن العالم العربي لا ساكناً ولا مستسلماً لأقدار صعبة، وإنما كان عصياً أولاً على التفكيك، وكان مستعداً ثانياً لكي يعيد البناء متخذاً الطريق التي سارت فيها الدول البازغة في العالم، وليس الطريق الغربية التي سقطت فيها تجارب عدة جرت تحت الإشراف الأميركي. وحدث ذلك رغم الضغوط الكثيرة التي حاولتها بعنف دول الجوار، خاصة إيران، وتركيا، وإثيوبيا، وإسرائيل، وحتى أشكال التدخل الدولي المباشر من قبل روسيا وحلف الأطلنطي. الردود العربية على هذه الضغوط ظهرت في ظل قيادة السعودية لمجموعة الدول العشرين، ومحاولتها حل الصراع اليمني من دون تقسيم لليمن وبفضل القرارات الدولية؛ ومصر طرحت مشروع التعاون والرخاء في شرق البحر المتوسط؛ والإمارات والبحرين قدمت اجتهادهما للسلام في المنطقة. كل ذلك يعطي الكثير من الأمل، ويرسم الطريق لمستقبل واعد لا يبدو أن السيد «كوك» لا يرغب في رؤيته.

*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط