دشَّن اتفاق تقاسُم السلطة السوداني الذي جرى توقيعه من قِبل المجلس العسكري الانتقالي، وقوى الحرية والتغيير في يوليو 2019، تحت عنوان "الاتفاق السياسي لإنشاء هياكل ومؤسسات الحكم في الفترة الانتقالية"، مرحلة جديدة ومفصلية في الأزمة السودانية. وقد رحبت غالبية الأطراف الوطنية والإقليمية والدولية بهذا الاتفاق، كونه يمثِّل استعدادًا من كافة أطراف الأزمة لتنحية الخلافات جانبًا والجلوس على مائدة المفاوضات للوصول إلى حلول توافقية حول ترتيبات إدارة المرحلة الانتقالية، وإرجاء القضايا الخلافية لبعض الوقت تجنبًا لانزلاق البلاد نحو العنف والفوضى، خصوصًا بعد أنْ تزايدت الضغوط الإقليمية والدولية لدفع عملية التفاوض للمُضيّ قدمًا خشية مزيد من التصعيد عقب أحداث فض اعتصام القيادة العامة بالقوة، وهو ما عمق حالة الاحتقان لدى المحتجين، وكذلك أزمة الثقة بين المجلس العسكري من جهة والقوى السياسية المنضوية تحت إعلان الحرية والتغيير من جهة أخرى.
وعلى الرغم من تصاعد حالة التفاؤل بعد توقيع الاتفاق السياسي؛ إلا أنَّها تظل حتى اللحظة الراهنة مشوبةً بالحذر، وذلك بسبب وجود عدد من القضايا العالقة التي كان من المنتظر حسمها بصدور الوثيقة الدستورية، فضلًا عمَّا يواجه السودان من تحديات هيكلية قد تعرقل أية محاولات للتسوية السلمية للأزمة، أو تضمن استدامة الالتزام بالاتفاق الحالي.
بنود الاتفاق:
منذ إسقاط الرئيس السوداني "عمر البشير"، حاول كل من إثيوبيا والاتحاد الإفريقي التقريب بين وجهات نظر أطراف الأزمة للحيلولة دون مزيد من التصعيد، واستمرت حالة الشد والجذب بين طرفي الأزمة على مدار تلك الفترة لوجود قضايا خلافية جوهرية بينهما تمحورت بشكل رئيسي حول مدة المرحلة الانتقالية، والهيئة المنوط بها إدارة تلك المرحلة، بالإضافة إلى شكل نظام الحكم؛ وهل سيكون نظامًا برلمانيًّا أم رئاسيًّا؟. وازدادت مهمة الوسطاء صعوبة عقب أحداث فض اعتصام القيادة العامة بالقوة في يونيو 2019؛ إذ أعلنت قوى الحرية والتغيير آنذاك عن عدم عودتها لأي مفاوضات مع المجلس العسكري، لأنَّها رأت أن خيار التفاوض يمثل استهانة بالأرواح التي أُزْهِقت، وتمسَّكت بتسليم السلطة كاملةً للمدنيين، والحل الفوري لميليشيا الجنجويد التي اتهموها بالضلوع في استخدام العنف ضد المحتجين.
ويُحْسب لجهود الوساطة الإثيوبية-الإفريقية في الفترة التالية لمشهد فض الاعتصام نجاحها في إحضار الطرفَيْن مجددًا إلى طاولة المفاوضات؛ إذ أعلنت قوى الحرية والتغيير استجابتها لدعوة التفاوض المباشر في مطلع يوليو 2019 على ألا تستغرق المفاوضات أكثر من 72 ساعة فقط تجنبًا للجوء المجلس العسكري إلى استراتيجية "كسب الوقت" في إدارة الأزمة. وقد أسفرت المفاوضات عن صدور الاتفاق السياسي لإنشاء هياكل ومؤسسات الحكم في الفترة الانتقالية. وانقسمت بنوده إلى فئتيْن رئيسيتيْن:
1- المبادئ المرشدة: تتضمن قدسية مبدأ السيادة الوطنية ووحدة التراب السوداني، بالإضافة إلى الالتزام بمبدأ الشراكة وحسن النية، والكف عن أية خطابات عدائية أو استفزازية، واللجوء إلى الحوار كآلية لتسوية الخلافات، والالتزام بالقيم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
2- الترتيبات الانتقالية: وتشمل تشكيل مجلس سيادة من 11 عضوًا (5 أعضاء من العسكريين، فضلًا عن 5 مدنيين تختارهم قوى الحرية والتغيير، ويُضاف إليهم شخصية مدنية تحظى بتوافق الطرفيْن). وتخضع رئاسة المجلس لأسلوب "التناوب"؛ حيث يرأس المجلس شخصية عسكرية لمدة 21 شهرًا من تاريخ التوقيع، ويعقبه مدني لمدة 18 شهرًا، بالإضافة إلى تشكيل مجلس الوزراء، على أنْ تُسمِّي قوى الحرية والتغيير اسم رئيس الوزراء وفقًا لشروط المرسوم الدستوري أو الوثيقة الدستورية المتمِّمة للاتفاق. ويجري تشكيل مجلس الوزراء من الكفاءات الوطنية المستقلة التي يجري ترشيحها من قِبل قوى الحرية والتغيير، ولا يتجاوز عددها العشرين، عدا وزيري الدفاع والداخلية اللذيْن يعينهما المكون العسكري بمجلس السيادة.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى نقطتيْن أساسيتيْن جرى تضمينهما الاتفاق، ألا وهما: إصدار مرسوم دستوري يحدد وظائف وصلاحيات وسلطات كلٍ من مجلس السيادة ومجلس الوزراء، وشروط اختيار رئيس الوزراء، بالإضافة إلى النص على عدم جواز ترشُّح أي شخص شغل منصبًا بأيٍّ من المجلسيْن وولاة الولايات في الانتخابات التالية للفترة الانتقالية.
ملفات عالقة:
على الرغم من تضمن اتفاق تقاسم السلطة مجموعةً من النصوص التي حظيت بتوافق كل من المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير؛ إلا أنَّه ثمة قضايا خلافية يُنْتظر حسمها من خلال "الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019"، والتي كان من المقرر التوقيع عليها بعد يومين من عقد الاتفاق، أي في 19 يوليو 2019. ولعل من أبرز هذه القضايا الخلافية:
1- تشكيل المجلس التشريعي: أرجأ الاتفاق التطرُّق إلى هذه النقطة، لكن الوثيقة المنشورة بشكل غير رسمي قد حسمتها، إذ نصَّت في المادة رقم (23) على تشكيل المجلس التشريعي بنسبة 67% ممن تختارهم قوى الحرية والتغيير، ونسبة الـ33% من القوى الأخرى غير المنضوية تحت إعلان الحرية والتغيير. ويباشر المجلس مهامه في مدة لا تتجاوز 90 يومًا من تاريخ التوقيع على الوثيقة الدستورية.
2- حصانة أعضاء مجلس السيادة: وهي من القضايا التي لا يزال يدور حولها جدل محتدم. وقد حسمت الوثيقة هذا الجدل في المادة (21)، إذ كفلت مبدأ الحصانة الإجرائية، بمعنى عدم جواز اتخاذ أية إجراءات جنائية ضد أعضاء أيٍ من مجلس السيادة أو الوزراء أو التشريعي، ولكنها في الوقت ذاته نصَّت على إمكانية رفع تلك الحصانة بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس التشريعي الحاضرين بالجلسة.
3- لجنة تحقيق: حيث تصاعدت المطالب بضرورة تشكيل لجنة تحقيق في فض أحداث اعتصام القيادة العامة، وقد بتّت الوثيقة في هذا الأمر في المادة (7) فيما يتصل بمهام الفترة الانتقالية، وتضمَّنت تشكيل لجنة وطنية مستقلة بدعم إفريقي للتحقيق في أحداث فض الاعتصام، وغيرها من الوقائع التي ارْتُكبت فيها انتهاكات حقوقية.
4- حكم الولايات: غضَّ الاتفاقُ الطرفَ عن هذه القضية، واكتفت الوثيقة بالإشارة في المادة (8) حول مستويات الحكم بتعريف السودان بأنها دولة فيدرالية، ونوَّهت إلى استمرار العمل بالنظام القائم فيما يتعلق بتوزيع الاختصاصات والسلطات بين المستوى الفيدرالي والولايات، إلى أن يُعاد النظر في التوزيع الجغرافي الحالي، كما لم تحدِّد الوثيقة كيفية تعيين وعزل الولاة.
تحديات متزايدة:
تكشف متابعة المشهد السوداني الراهن أنَّ القضايا العالقة سالفة الذكر ما هي إلا انعكاس لمشكلات جوهرية تُلقي بظلالها على إمكانية الوصول إلى تسوية شاملة، أو التوقيع على الوثيقة الدستورية المتمِّمة لاتفاق تقاسُم السلطة، والحاسمة لكثير من النقاط الخلافية حول إدارة الفترة الانتقالية. وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى أبرز هذه التحديات فيما يلي:
1- أزمة الثقة: تصاعدت أزمة الثقة بين المجلس العسكري الانتقالي من جهة وقوى المعارضة السياسية من جهة أخرى، سواء أكانت تابعة لقوى الحرية والتغيير أو غير تابعة له، بالإضافة إلى المحتجين من المواطنين غير المنتمين لأي حزب سياسي. فكل خطوة جيدة تمهِّد السبيل أمام انفراجة حقيقية في الأزمة السودانية يقابلها موقف يزيد حالة الاحتقان وغياب الثقة. وتكفي الإشارة -في هذا السياق- إلى رفض قوى الحرية والتغيير لتقرير لجنة التحقيق في أحداث فض الاعتصام لكونها قد شُكِّلت بقرار من المجلس العسكري، كما اعترضت قوى الحرية والتغيير على إحصائيات عدد الضحايا منذ بدء الاحتجاجات، يضاف إلى ذلك سقوط قتلى في المسيرات الطلابية بمدينة الأبيض برصاص قناصة مؤخرًا، مما أفضى إلى دعوة الحرية والتغيير لخروج تظاهرات احتجاجية في كل المدن السودانية، وتوقيع الوثيقة الدستورية دون قيد أو شرط.
2- تباين قوى الحرية والتغيير: تتعدد قوى وتحالفات المعارضة المنضوية تحت مظلة قوى الحرية والتغيير، ويصعب الوصول إلى اتفاق يُرضي الجميع؛ فقد أظهرت النقاشات الداخلية قبيْل توقيع اتفاق تقاسُم السلطة، وكذلك ردود الأفعال؛ تباينًا في الآراء، وقد أسفر الأمر عن رفض الحزب الشيوعي (أحد الأحزاب المكونة لتحالف قوى الإجماع الوطني) للاتفاق.
3- النزعات الانفصالية في السودان: تُعد هذه القضية من أبرز القضايا التي يجب التعامل معها خلال الفترة الانتقالية، وهو ما دفع الوثيقة الدستورية للإشارة إليها، وبالتالي لا بد من التوصل إلى اتفاقيات سلام شامل مع الحركات المسلحة بتلك الأقاليم تجتث جذور المشكلة السودانية في دارفور وولايات شرق وجنوب السودان.
4- الأزمة الاقتصادية: فاستمرار ارتفاع أسعار السلع الغذائية، وعلى رأسها الخبز، وكذلك أسعار المحروقات وتعريفة المواصلات؛ يزيد الوضع تأزمًا في السودان، خصوصًا أنَّ تردّي الأوضاع الاقتصادية كان بمثابة الشرارة التي أشعلت التظاهرات، التي انطلقت من مدينة عطبرة، في ديسمبر الماضي.
5- قوات الدعم السريع: يقود هذه القوات نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي "حميدتي"، وقد اتُّهِمت بفض الاعتصام بالقوة، وتُعرف بالقوات "شبه العسكرية"، وكانت تتبع جهاز الأمن والمخابرات، ثم أصبحت تتبع الجيش، لكن يظل وضعها مقلقًا بالنسبة للمعارضة في ظل الدور الذي مارسته في أزمة دارفور عام 2003، ودورها في فض الاعتصام.
ختامًا، يمكن القول إن توقيع الوثيقة الدستورية سيؤدي لحسم العديد من النقاط الإشكالية، وتعد إيذانًا بالبدء في تنفيذ المهام التي أُسْنِدت لأجهزة الدولة خلال الفترة الانتقالية وفقًا للوثيقة، إلا أن استمرار هذه التحديات يجعل من أي اتفاق للتسوية وتقاسُم السلطة عديم الجدوى كمن يتعامل مع العَرَض لا المرض. وفضلًا عن هذا، هناك ضرورة ملحَّة لتقديم التنازلات من قِبل أطراف الأزمة السودانية جميعها.