أحد المؤشرات المعتبرة في القراءة السياسية لأداء الرؤساء الأميركيين هو مراقبة أداء الرئيس وإدارته خلال المئة يومٍ الأولى، وهو تقليد أميركي يمنح الرئيس فترة كافية ليظهر شخصيته واستراتيجياته الداخلية والخارجية ويوضح قراراته وتوجهاته. تبقى للرئيس الأميركي دونالد ترامب أسبوع واحد ليكمل أيامه المئة الأولى في الرئاسة، وبالمقارنة بالرئيس السابق أوباما يمكن القول إنه فعل في مئة يومٍ ما لم يفعله سلفه في ثماني سنوات وبخاصةٍ فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، وهي أكثر ما يهم منطقتنا ودولنا. لقد أثبت ترامب في مئة يومٍ أنه رئيس صاحب قرارٍ، وأثبت أنه يريد الوفاء بوعوده لناخبيه مهما ظن الكثيرون بأنها قرارات غير شعبيةٍ أو أنها مجحفة، وقد جرّب الرئيس أكثر من مرةٍ تنفيذ قراراته، واصطدم بالمؤسسات الأميركية العريقة أو العميقة، كما كان يسميها سلفه أوباما في مقابلته الشهيرة مع موقع «ذا أتلانتك»، فاصطدم ترامب في محاولته لفهم حدود قوته ونفوذ قراراته بأكثر من جهة، فاصطدم في قرار الهجرة وتقنينها بالمؤسسة القضائية، فأعاد صياغة القرار حتى يصل لما يريده بالتفاوض والأخذ والعطاء، ووجد نفسه مضطراً لخلق جوٍ من التعاون بين الحزبين وضرورة إقناع الكونجرس وأعضائه بالقرارات المهمة، وقد أعاد التفكير أكثر من مرة ليقنع ناخبيه بأن «أميركا أولاً»، كما هو الشعار الشهير الذي أطلقه، وبأنه عازم على الاستمرار في تعزيز هذا الشعار داخلياً وخارجياً.
في مئة يومٍ فقط عرف العالم أجمع بأن أميركا عادت إلى نفسها وإلى العالم، ويبدو ترامب مستعجلاً لإثبات أن أميركا التاريخ والمسؤولية الدولية والدولة القائدة تعود للمشهد من جديد، وتعيد ترتيب الموازنات الدولية من جديد وتضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، وتتحمل قبل غيرها عبء القيادة وتبعات القرار. في مئة يوم فقط، أصبح المارقون في العالم تحت الضغط، ضغط أقوى دولة في العالم، وصار لزاماً عليهم أن يتوقعوا الأسوأ بعد سنوات من سياسات غير مسؤولية حصلوا فيها على جوائز ومنافع جرّاء سوء السلوك السياسي.
جزء من المشهد الدولي الجديد الذي بات يتخلق نتيجة رؤية وسياسات ترامب يتمثل في السياسات العدائية المعلنة ضد كل المارقين، والتصعيد ابتدأ من الأزمة السورية والضربة العسكرية المباشرة لقاعدة الشعيرات العسكرية التابعة لنظام الأسد في سوريا، وتلاها وتزامن معها سياسات تصعيدية قوية ضد إيران ونظام الولي الفقيه فيها، مع تصعيد مماثل تجاه كل الميليشيات الشيعية الإرهابية التابعة لها في العراق وفي سوريا كما في لبنان واليمن.
في السياسة الخارجية لترامب تأكيد متواصل على العودة للتعاون والمشاركة مع حلفاء الولايات المتحدة الأميركية، وهذا هو الوجه المقابل لما سبق من تصعيد ضد المارقين والدول الداعمة لهم، وهو أمر يصبّ مباشرةً في مصلحة دول الخليج العربي والدول العربية غير المختطفة إيرانياً بعيداً عن التصعيد الثقافي الذي يتبناه بعض الكتاب العرب ضد ترامب بلا مبرر، وبخاصة أولئك الذين أبدوا دعماً غير محدود لسلفه في سياسات دمرت المنطقة ونشرت الخراب فيها.
وبعيداً عن المنطقة فقد اتبع ترامب ذات السياسة التي تعيد بناء الثقة مع حلفاء أميركا حول العالم، وذلك في التعامل مع التهديدات التي تمثلها كوريا الشمالية على كلٍ من حليفي أميركا في الشرق: اليابان وكوريا الجنوبية وعلى العالم بأسره وتحديداً جرّاء تجاربها الصاروخية والنووية التي ظلت تتصاعد في السنوات الأخيرة دون رادع.
أخيراً، فلئن أثارت بعض العبارات أثناء الحملة الانتخابية استياء واسعاً إلا أن ترامب في أول مئة يومٍ أثبت أنه يقارب الملفات الشائكة بعقلٍ وحكمةٍ على المستويات الداخلية والإقليمية والدولية، وأنه قادر على تحصيل المصالح من المفاوضات، ولكنه أعاد هيبة أميركا ومكانتها وقوتها العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية إلى الواجهة من جديد.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد