أخبار المركز
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)
  • إيمان الشعراوي تكتب: (الفجوة الرقمية: حدود استفادة إفريقيا من قمة فرنسا للذكاء الاصطناعي 2025)
  • حسين معلوم يكتب: (تفاؤل حذر: هل تشكل الانتخابات المحلية فرصة لحلحلة المسار الليبي؟)
  • أحمد عليبة يكتب: (هاجس الموصل: لماذا يخشى العراق من التصعيد الحالي في سوريا؟)

عولمة الأوبئة:

انعكاسات فيروس "كورونا" على الاقتصاد العالمي

02 فبراير، 2020


تُعد حالة فيروس كورونا الجديد، المكتشف حديثًا في الصين، أحد الأوبئة التي يمكن أن تتحول إلى كارثة عالمية في غضون وقت قليل، وبسبب انتشاره السريع وارتفاع عدد المصابين به والمتوفين بسببه في الصين فقد أعلنت منظمة الصحة العالمية أن فيروس كورونا أصبح يمثل حالة طوارئ صحية عالمية، كما أن انتقاله إلى عدد من الدول، بداية من الدول المجاورة للصين، كاليابان وكوريا الجنوبية وهونج كونج، مرورًا بدول أوروبية ودول إفريقية، وصولًا إلى أقصى غرب العالم، في الولايات المتحدة وكندا وبعض دول أمريكا الجنوبية؛ أعاد إلى العالم ذكرياته المريرة عن الأوبئة التي قتلت الملايين عبر التاريخ. وفي حال عدم انحسار وباء كورونا الجديد، واستمرار انتشاره بين الدول، فإنه سيهز الاستقرار العالمي، ويكبد العالم خسائر بشرية كبيرة، ويحمِّل الاقتصاد العالمي أعباء ثقيلة قد يحتاج إلى سنوات لتعويضها.

تاريخ طويل للأوبئة:

على مدار التاريخ ظل البشر حول العالم يتعرضون للأوبئة، فعانوا وباء الكوليرا وغيره من الأوبئة الفتاكة. ووفق الموقع الرسمي لـ"منظمة الصحة العالمية" على شبكة الإنترنت، فإن عصر أبوقراط (460-377 ق.م) وعصر جالينوس (129-216 م) شهدا تفشيًا واسعًا لوباء قد يكون هو الكوليرا، كما أن مرضًا يشبه الكوليرا أيضًا كان معروفًا في سهول نهر الغانج (في شمال الهند) منذ القدم. وقد شهد التاريخ حالات كثيرة لأوبئة الكوليرا والطاعون والحصبة والإنفلونزا والسارس وأنفلونزا الطيور وأنفلونزا الخنازير وغيرها، والتي تسببت بجانب الحروب في هلاك مئات الملايين على مر التاريخ.

ففي عام 165 ميلادية شهد العالم ما يسمى "الطاعون الأنطوني" أو "طاعون الأباطرة الأنطونيين" الذي ظهر في الإمبراطورية الرومانية، وتظهر السجلات التاريخية أن هذا الوباء تسبب في وفاة ما لا يقل عن ألفي شخص يوميًّا. وفي بدايات القرن التاسع عشر، انتشر وباء الكوليرا حول العالم، وكانت بدايته من منطقة جنوب شرق آسيا، حيث أصاب 100 ألف شخص في الصين وإندونيسيا، ثم انتقل تباعًا إلى مناطق أخرى من العالم. 

وبرغم التقدم الكبير الذي أحرزه العالم في الرعاية الصحية في العصر الحديث، ما زال وباء الكوليرا يُصيب ما يتراوح بين 1.3 مليون شخص و4 ملايين شخص سنويًّا، ويقتل ما يتراوح بين 21 ألف شخصٍ و143 ألف شخصٍ حول العالم كل عام، محدثًا خسائرَ كبيرةً في الأرواح، ومحملًا الاقتصاد العالمي أعباء ثقيلةً.

عولمة الأوبئة:

يأتي انتشار الأوبئة وارتفاع تكلفتها البشرية والاقتصادية في عصرنا الحالي لأسباب عديدة، أهمها وعلى رأسها اتساع موجة العولمة. ففي الوقت الذي شهدت فيه العولمةُ عصرها الذهبي، منذ بداية عقد التسعينيات من القرن العشرين، وحتى نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فقد شهد العالم توسعًا كبيرًا ومتسارعًا في النشاط الاقتصادي، وازدهارًا غير مسبوق في الحركة الدولية للبضائع والسلع ورؤوس الأموال، وشهد كذلك مرونة كبيرة في حركة البشر عبر الحدود الدولية.

وبينما تتمتع مناطق عديدة من العالم بارتفاع في مستوى الرعاية الصحية والرخاء؛ فإن مناطق أخرى تعاني تراجعًا شديدًا في تلك المؤشرات بسبب الفقر وضعف الموارد، أو بسبب الحروب التي تدمر البنى التحتية للقطاع الصحي بها. وفي الوقت الذي تصبح فيه المناطق الفقيرة ومناطق الحروب تربة خصبة لتفريخ الفيروسات ونشأة الأوبئة، فإن البشر ينقلون تلك الفيروسات والأوبئة في سفرهم من هناك إلى باقي مناطق العالم، بما فيها مناطق الرخاء والرعاية الصحية المتقدمة، مستفيدين في ذلك من حرية الحركة والسفر بين الدول كإحدى ميزات العولمة. وهذا لا يمنع أيضًا حدوث حالاتٍ لنشأة الأوبئة في مناطق الرخاء، ثم انتقالها إلى باقي مناطق العالم أيضًا، عبر نفس القنوات المنتجة بفعل العولمة.

بكلمات أخرى، فإن ما يستفيده الاقتصاد العالمي من انفتاح في ظل العولمة، من خلال جعل انتقال البشر والأيدي العاملة أكثر سهولة ويسرًا، فهو يُعد في الوقت ذاته قناة لنقل الفيروسات بين الدول، وتحولها إلى أوبئة عالمية في أيام معدودة، وهذا ما يمكن وصفه بـ"عولمة الأوبئة".

كورونا الجديد:

في الحادي والثلاثين من شهر ديسمبر 2019، أعلنت الصين أول إصابة بفيروس مجهول في مدينة ووهان، بمقاطعة هوبي الوسطى، وبينما استبعدت السلطات الصينية أن يكون الفيروس الجديد هو نفسه فيروس "السارس"، الذي انتشر حول العالم في عامي 2002 و2003، ففي الخامس من يناير 2020، أعلنت تلك السلطات أنه تم تحديد هوية الفيروس الجديد، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، وأعلنت أنه من عائلة الفيروس التاجي، والذي يتضمن "السارس" ونزلات البرد الشائعة، ويحمل اسم "كورونا الجديد".

ومع توالي إعلان الإصابات وحالات الوفاة، فقد أعلنت الصين الحجر الصحي في 13 مدينة بمقاطعة هوبي، بإجمالي سكان يبلغ 41 مليون نسمة، كما وضعت السلطات قيودًا مشدَّدة على السفر الداخلي، في محاولة للحد من انتشار الفيروس. وبحلول يوم 2 فبراير 2020 حدثت السلطات الصينية، أرقام الإصابات بفيروس كورونا الجديد حتى السبت الأول من فبراير الجاري ليصبح عدد الإصابات المؤكدة 14.380 ألف حالة منها 304 حالة وفاة، ليرتفع بذلك عدد الإصابات المسجلة حول العالم إلى 14.542 ألف حالة.

وبجانب ذلك فقد ظهرت حالات إصابة بالفيروس في 26 دولة أخرى إلى جانب الصين، كاليابان وكوريا الجنوبية وهونج كونج وسنغافورة، ودول أوروبية، ووصل الفيروس إلى الولايات المتحدة وكندا ودول أمريكا الجنوبية.

التكلفة الاقتصادية لكورونا الجديد:

تسبب فيروس كورونا الجديد في انتشار حالة من القلق والخوف العالمي، فاتخذت الدول التي انتقل الفيروس إليها خطوات لمنع انتشاره بين سكانها على نطاق واسع، كالصين وسنغاورة اللتين ألغتا الاحتفالات والفعاليات التي تتطلب تجمعات بشرية كبيرة، كاحتفالات السنة القمرية الجديدة. في حين اتخذت الدول التي لم تشهد إصابات بالفيروس إجراءات لمنع انتقاله إليها، فمنعت بعض الدول السفر ورحلات الطيران من وإلى الصين، وحذرت دول أخرى رعاياها من السفر إلى هناك، وعملت على تعزيز إجراءات الرصد والمراقبة لمنافذ الدخول وحصر القادمين من الصين وفحصهم.

وقد انعكست حالة القلق هذه على أداء أسواق المال العالمية، فتكبد البعض خسائر كبيرة، عندما تراجعت إلى مستويات هي الأدنى منذ شهور، مثلما حدث في مؤشرات الأسهم الأمريكية التي تراجعت بشكل حاد، لتخسر أكثر من 2% في جلسة الاثنين 27 يناير وحدها، وكذلك تراجعت مؤشرات الأسهم الأوروبية بنسبة 1.5% في المتوسط في نفس اليوم. وفي آسيا أيضًا، سجل مؤشر نيكاي الياباني أكبر خسارة يومية في خمسة أشهر، منخفضًا بأكثر من 2%.

ولم تتخلف أسواق النفط عن الرَّكْب أيضًا فانخفضت بشكل ملحوظ بسبب القلق الذي سيطر على المتعاملين بها، لقلقهم من أن يتسبب الفيروس في تراجع الطلب على النفط، ولا سيما في الصين، الني تُعد المستهلك الأكبر للطاقة في العالم. وانعكس ذلك في تراجع أسعار خام برنت إلى أقل من 60 دولارًا للبرميل لأول مرة منذ أكتوبر الماضي، كما سجلت أسعار الخام الأمريكي مستويات هي الأدنى منذ أكتوبر أيضًا. وقد توقع بنك باركليز تراجع أسعار النفط بواقع دولارين للبرميل خلال عام 2020، بسبب الأثر الاقتصادي المحتمل لتفشي فيروس كورونا، ورجح البنك تراجع متوسط سعر خام برنت إلى 62 دولارًا للبرميل، وانخفاض متوسط سعر الخام الأمريكي إلى 57 دولارًا للبرميل.

لكن برغم هذه الخسائر الكبيرة في أسواق المال وأسواق النفط، التي تمثل مؤشرًا على ما يتحمله الاقتصاد العالمي ككل من ضغوط بسبب تهديدات انتشار فيروس كورونا الجديد؛ لا بد من الإشارة إلى أن مثل هذه الظروف عادةً ما تكون متوقعةً ومبررةً، لا سيما في ظل التراجع المفاجئ لمعنويات المستثمرين والمتعاملين في الأسواق، لكن سرعان ما تنحسر هذه الضغوط بمرور الوقت، ولا سيما لدى ظهور أول بوادر لانحسار مخاطر انتشار الفيروس.

وفي الختام، لا بد من التأكيد على أن انتشار مثل هذه الفيروسات وتحولها إلى أوبئة على هذا النحو، هو شيء ليس بالغريب أو الاستثنائي في عصر العولمة، فمنظّمة الصحة العالمية تستقبل سنويًّا أكثر من 5 آلاف بلاغ مبكر عن أوبئة متفشية حول العالم. كما أن الاقتصاد العالمي يتحمل تكلفة سنوية تتراوح بين 500 مليار دولار و570 مليار دولار بسبب الأوبئة، وفق تقديرات صندوق النقد الدولي والمنتدى الاقتصادي العالمي، وهي القيمة التي تُمثّل نحو 0.7% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، كما أنها تعادل التكلفة التي يتحملها العالم بسبب أزمة التغير المناخي كل عام. ومن ثمّ فإن وباء كورونا الجديد ليس إلا وباءً جديدًا يُضاف إلى سجل الأوبئة العالمية لدى منظمة الصحة العالمية، ويُرجّح أن تنحسر مخاطره على الاقتصاد العالمي قريبًا.