أخبار المركز
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (عام على حرب السودان.. ترابط المسارين الإنساني والسياسي)
  • د. أحمد أمل يكتب: (إرث فاغنر: هل قاد "التضليل المعلوماتي" النيجر للقطيعة مع واشنطن؟)
  • عادل علي يكتب: (موازنة الصين: دوافع تزايد الانتشار الخارجي للقوة البحرية الهندية)
  • إبراهيم فوزي يكتب: (معاقبة أردوغان: لماذا خسر حزب العدالة والتنمية الانتخابات البلدية التركية 2024؟)
  • شريف هريدي يكتب: (مخاطر الانفلات: خيارات إيران للرد على استهداف قنصليتها في دمشق)

توظيف يميني:

حدود تصاعد التوتر الفرنسي - المغاربي بعد أزمة التأشيرات

16 أكتوبر، 2021


قال وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانان، في 29 سبتمبر الماضي، إنه "إذا لم تستعيدوا مواطنيكم المُرحلين من فرنسا، فإننا لن نستقبل مواطنيكم الذين يودون المجيء إلى فرنسا"، معلناً عن قرار اتخذته الحكومة الفرنسية يقتضي خفضاً جذرياً لنسبة التأشيرات الممنوحة إلى دولتي الجزائر والمغرب بنسبة 50%، وتلك الممنوحة إلى تونس بنسبة 33%. وقد أثار هذا القرار موجة من ردود الفعل، وصلت إلى حد استحضار الماضي "الكولونيالي" للدولة الفرنسية.

أبعاد مختلفة:

يبدو أن الحكومة الفرنسية كانت تتوقع أن يؤدي اتخاذ مثل هذا القرار إلى زيادة منسوب التوتر في علاقاتها الثنائية مع الدول الثلاث (الجزائر، والمغرب، وتونس). ولكن يبقى التساؤل حول أبعاد اتخاذ مثل هذا القرار في هذا التوقيت بالذات، خاصة أن السياسة الخارجية الفرنسية عرفت عدة انتكاسات في الفترة القريبة الماضية. ولتفسير أبعاد اتخاذ مثل هذا القرار يمكن الإشارة إلى النقاط التالية:

1- تزايد أعداد المُجبرين على ترك الأراضي الفرنسية: تظهر أرقام وزارة الداخلية الفرنسية أنه بالمقارنة مع الفترة ذاتها من عام 2020، ارتفع عدد الذين صدر بحقهم بلاغ مُلزم بضرورة مغادرة الأراضي الفرنسية (OQTF) في عام 2021 بنسبة 47% لدى الجزائريين، و25% لدى المغربيين، و43% لدى التونسيين (7731 جزائرياً، و3301 مغربي، و3424 تونسياً). فيما نفى الرئيس الجزائري، عبدالعزيز تبون، في 10 أكتوبر الجاري، أن تكون فرنسا قد أبلغت الجزائر بالـ 7 آلاف جزائري المطلوب ترحيلهم، حيث تم عرض 3 لوائح من 94 شخصاً فقط على الجزائر خلال عام 2021، معتبراً أن وزير الداخلية الفرنسي "يكذب" فيما يخص عدد الجزائريين الذين هم في وضع غير قانوني.  

2- تنفيذ نسبة ضئيلة جداً من عمليات الترحيل: لا يمكن إتمام عملية الترحيل من دون الحصول على تصاريح قنصلية LPC من سلطات الدول التي يحمل المُرحلون جنسياتها، والتي تتلكأ أو تماطل في إصدار مثل هذه التصاريح، حسب وجهة النظر الفرنسية. فمثلاً تم إنجاز 22 عملية ترحيل إلى الجزائر في عام 2021 وهي نسبة ضئيلة جداً لا تتعدى 0.3% من المطلوب ترحيلهم. فيما تعتبر أوساط دول المغرب العربي أن معظم المطلوب ترحيلهم لا يملكون وثائق تثبت هويتهم بعد أن أتلفوها، وفي أوقات كثيرة تتم الاستعانة بخبراء لتمييز "لكنة" المطلوب ترحيلهم لمعرفة جنسياتهم الحقيقية. كما أن نسبة كبيرة من المجرمين الخطرين أو المتشددين تكون من ضمن المُرحلين، مما يستوجب المزيد من التحري والتدقيق، خصوصاً أن أرقام وزارة الداخلية الفرنسية أظهرت وجود 231 أجنبياً مهيئين للترحيل ومصنفين كمتطرفين.

3- تأثيرات جائحة كورونا: أمام الواقع المتمثل في نقص التعاون، قررت فرنسا خفض التأشيرات الممنوحة إلى دول المغرب العربي، فبالنسبة للجزائر انخفض العدد بنسبة 50% بين العامين 2019 (200 ألف تأشيرة) و2017 (420 ألف تأشيرة)، كما دفعت أزمة فيروس كورونا إلى وصول هذا العدد إلى عتبة 100 ألف تأشيرة في عام 2020. واستمرت السلطات الفرنسية في إصدار بلاغات المغادرة مع علمها المسبق بأنها لن تُنفذ، خصوصاً أن أغلب الدول كانت قد أغلقت أجواءها الجوية أمام الرحلات، بالإضافة إلى أن الاختلاف في الإجراءات المُصاحبة للسفر بعد مرحلة فتح المطارات واستئناف الرحلات الجوية قد أثّر على مستوى التعاون لإتمام عمليات الترحيل. فمثلاً، تُحتم إجراءات المملكة المغربية على كل شخص مُرحل إليها على متن طائرة، أن يكون حائزاً على فحص pcr لفيروس كورونا تكون نتيجته سلبية، فيما يجعل القانون الفرنسي من إجراء هذا الفحص اختيارياً قبل السفر.

4- انعكاسات الانتخابات الرئاسية الفرنسية: تزامن صدور القرار الفرنسي بخفض عدد التأشيرات لدول المغرب العربي مع بداية الاستعدادات لإطلاق الحملات الانتخابية لرئاسيات فرنسا والمقررة في أبريل 2022، حيث تحتل الهجرة حيزاً واسعاً في هذه الانتخابات مع تحولها إلى قضية أساسية للنقاش، خصوصاً أن العديد من قادة "أقصى اليمين" تناوبوا في الفترة الاخيرة تباعاً في اللعب على وتر التقصير الحكومي في مواجهة هذا الملف، والتركيز على عدد عمليات الترحيل المنخفض. إذ اعتبر رئيس حزب التجمع الوطني (RN)، جوردان بارديلا، وهو نائب في البرلمان الاوروبي أيضاً، في أكتوبر الجاري، أن "الدخول إلى فرنسا سهل جداً، والخروج منها صعب جداً، وأنه فقط 12% ممن تصدر بحقهم قرارات ترحيل يخرجون، حيث يكفي للمطلوب ترحيلهم رفض إجراء فحص pcr كي يبقوا في فرنسا".

فيما اعتبرت مارين لوبان، مرشحة التجمع الوطني (RN) للرئاسة، في سبتمبر الماضي، أنه "يجب التعامل بيد من حديد مع الدول التي لا تريد استرجاع مواطنيها الذين يعيشون بشكل غير شرعي في فرنسا، كالحد مثلاً من إرسال الأموال إلى هذه الدول التي تفوق بكثير مستويات المساعدة من أجل دعم التنمية". ثم كررت لوبان بعد ذلك في 4 أكتوبر 2021 أن "الحكومة الفرنسية لم تفعل شيئاً لمواجهة الهجرة خلال 4 سنوات، وتحاول الآن أن تظهر بمظهر الحازم". 

فيما يحاول المرشح الرئاسي إيريك زيمور، الطامح لمنافسة مارين لوبان في ملعبها، أن يبدو أكثر حزماً وتشدداً حيال ملف الهجرة، جاعلاً من شعار "هجرة صفر" Immigration zero أحد شعارات حملته الانتخابية. وفي هذا الإطار، أظهر استطلاع للرأي أجرته CNEWS، في 30 سبتمبر الماضي، أن 87% من الفرنسيين يؤيدون قرار الحكومة الفرنسية بخفض عدد التأشيرات.


تداعيات سلبية:

عرفت العلاقات الفرنسية - الجزائرية خلال الأسبوعين الماضيين الكثير من عمليات الشد والجذب؛ نتيجة قرار خفض التأشيرات، بالإضافة إلى أن هذا القرار كشف عن اتجاهات داخلية وخارجية مستجدة أو بدأت في التراكم، والتي يمكن إيجازها في الآتي:

1- تزايد حدة التوترات الدبلوماسية بين فرنسا ودول المغرب العربي: فيما لم يُسجل أي تحرك ملحوظ من قِبل وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لو دريان، لمتابعة قرار خفض التأشيرات أو التمهيد له مع سلطات الدول المعنية؛ كان لافتاً تحرك كل من المتحدث باسم الحكومة الفرنسية، غابرييل أتال، ووزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانان، ووزيرة المواطنة، مارلين شيابا، في هذا الموضوع. إذ ذكر غابرييل أتال، في مقابلة مع إذاعة "Europe 1"، يوم 28 سبتمبر الماضي، أنه "في السابق كان لدينا حوار مع دول مغاربية ومن ثم إنذارات، واليوم نضع هذه الإنذارات موضع التنفيذ". فيما قال الوزير دارمانان في البرلمان الفرنسي إن "التراجع عن خفض عدد التأشيرات مرتبط بإصدار التصاريح القنصلية المطلوبة". كما أكدت الوزيرة شيابا أن "الحكومة الفرنسية لا تضع جدول أعمالها على أساس مارين لوبان، بل تُعلن عن خطواتها عندما تكون مقتنعة بها وجاهزة لتنفيذها". 

وفي المقابل، اعتبرت مصادر في وزارة الخارجية الجزائرية أن قرار خفض التأشيرات غير مناسب ومؤسف وجاء عشية سفر وفد جزائري إلى باريس بهدف تعزيز التعاون في ملف الهجرة. فيما رأى وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، أن قرار فرنسا غير مبرر.

ومما زاد من تفاقم الأزمة الدبلوماسية لاحقاً، تشكيك الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في "وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي للجزائر، وبأن السلطات الجزائرية تحمل الكثير من الضغينة لفرنسا وتروج لخطاب قائم على الكراهية تجاهها"، على حد وصفه، وجاء ذلك خلال لقائه مجموعة من الطلاب الفرنسيين المتحدرين من أصل جزائري قامت صحيفة "اللوموند" الفرنسية بتغطيته يوم 2 أكتوبر 2021. ورداً على هذه التصريحات، قامت الجزائر باستدعاء سفيرها محمد عنتر داوود من باريس للتشاور، كما أغلقت مجالها الجوي أمام الطائرات العسكرية الفرنسية، وهو امتياز ممنوح لباريس من قِبل الرئيس الجزائري السابق، عبدالعزيز بوتفليقة، بهدف تسهيل عملياتها العسكرية في منطقة الساحل. كما أعلن الرئيس الجزائري، تبون، يوم 10 أكتوبر الجاري، أن عودة السفير الجزائري إلى باريس مرتبطة بالاحترام الكامل للدولة الجزائرية ونسيان أن الجزائر كانت مستعمرة فرنسية. 

2- تصاعد الجدل حول سياسات الهجرة الفرنسية: مع ارتفاع اللغط حول القرار الفرنسي بخفض التأشيرات الممنوحة للجزائر والمغرب وتونس، وتداعياته الدبلوماسية؛ أرجعت مصادر في حزب الجمهوريين اليميني المنافس لحزب ماكرون (حزب الجمهورية إلى الأمام) سبب التخبط الحاصل إلى غياب سياسة واضحة للهجرة من قِبل الحكومة الفرنسية الحالية، حيث اعتبر رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي، النائب جيرار لارشيه، أن هذا القرار هو مؤشر على إخفاق الحكومة، خصوصاً "حين نرى ارتفاع عدد طلبات اللجوء وتحولها عن هدفها الأساسي، فيما نرى أن هذا العدد ينخفض في دول أخرى في الاتحاد الأوروبي"، على حد قوله.

فيما أعلنت مارين لوبان التزامها بإجراء استفتاء عام حول الهجرة في حال فوزها في الانتخابات الرئاسية المقبلة، حيث يشارك فيه جميع الفرنسيين. فيما جاء الرد من وزير الداخلية الفرنسية، دارمانان، معتبراً أن استفتاء لوبان المُقترح حول الهجرة هو مثل إجراء استفتاء حول "الطقس الجميل"؛ أي هل الفرنسيون يحبون الطقس الجميل؟ كما ردت أوساط حزب "الجمهورية إلى الأمام" LREM بأنه حتى لو تم إصدار قوانين جديدة منبثقة من أي استفتاء واختراع سياسة عامة جديدة حول الهجرة، فإن المشكلة تبقى نفسها وهي في كيفية تنفيذ هذه السياسية، خصوصاً أن الطرف الثاني لا يتعاون. 

3- الابتعاد عن الفرانكفونية: على الرغم من تشديد الرئيس الفرنسي على أن خفض التأشيرات لن يستهدف الطلاب ورجال الأعمال، بل سيتم استخدامه بطريقة موجهة تطال "النخبة العسكرية والسياسية الحاكمة"؛ فإن شريحة واسعة من الشباب المغاربي الذي يتابع دراسته الجامعية في فرنسا أو يخطط للسفر إليها والذي تحتاجه سوق العمل الفرنسية بدأ يميل إلى البحث عن خيارات أخرى لبناء مستقبله بعيداً عن تعقيدات المشهد الفرنسي. إذ أصبح هناك تخوف جدي من التحول العميق الذي بدأ يصيب دوائر رسم السياسات في فرنسا وبدأت بعض الأوساط المغاربية تشبه بين هذا القرار وبين مرسوم Muslim Ban الصادر عن إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب (حظر السفر الذي فرضه ترامب على عدد من البلدان ذات الأغلبية المسلمة).

4- تسلل المزيد من أفكار اليمين المتطرف في فرنسا: يبدو واضحاً أن محاولات تيار أقصى اليمين في فرنسا (كما في عدة دول داخل الاتحاد الأوروبي) في تصوير الهجرة كسبب رئيسي لارتفاع معدلات البطالة والإرهاب وانهيار دولة الرعاية الاجتماعية، قد نجحت بشكل واسع لدى شريحة مهمة من الرأي العام الداخلي. كما يسعى هذا التيار إلى العودة عن فكرة الحدود الوطنية المفتوحة، والخروج من معاهدة "شنغن" التي تسمح بحرية التنقل والمرور.

وثمة مخاوف من توظيف المزيد من مطالب أقصى اليمين من قِبل الأحزاب المعتدلة نوعاً ما في فرنسا (وفي أوروبا)، من أجل اصطياد ناخبي هذه الأحزاب المتطرفة ومنعها من الوصول إلى السلطة. وبالتالي فإن هناك تخوفاً من أن يكون الطريق إلى ممارسة المزيد من الضغوط على الدول المغاربية يمر عبر المزيد من تبني أفكار أقصى اليمين، مثل وقف المساعدات المالية العائلية والاجتماعية للمقيمين في فرنسا، ووقف تمويل مشاريع التنمية في دول المغرب، واللجوء إلى تشديد الرقابة على الحدود الفرنسية والأوروبية. وجدير بالذكر هنا أن المفكر السياسي الأمريكي بيتر أندرياسPeter Andreas  كان قد برهن على أن تشديد وتطوير الرقابة واستعمال المزيد من الوسائل العسكرية على الحدود الأمريكية، قد ساهم في زيادة سعر رحلات الهجرة غير المشروعة ومدتها وكلفة الحصول على أوراق ثبوتية مزيفة ورشوة بعض الموظفين، ولكنه لم يحد بشكل كبير من الهجرة غير الشرعية.


 ختاماً، كشفت أزمة التأشيرات الفرنسية مع دول المغرب العربي عن تعقد عملية بناء الثقة وإتمام المصالحة ومحاولة التقريب من السرديات التاريخية المتباينة والتي يحاول الرئيس إيمانويل ماكرون الدفع بها نحو الأمام للتقريب بين فرنسا والدول المغاربية، خاصة الجزائر. إذ يبدو أن جهود "مصالحة الذاكرة" تحتاج إلى مزيد من الوقت والجهد، ويبدو كذلك أن محاولات ماكرون، الذي يهدف إلى تحقيق انتصارات سريعة، غالباً ما قد ترتد عليه بمفعول عكسي؛ حيث إنه كان بالإمكان انتهاج وسائل دبلوماسية تبقى طي الكتمان لحل مسألة المُرحلين بدل تلك الأساليب الإعلامية التي تم اعتمادها.

وعموماً، تقف أزمة التأشيرات أمام 3 سيناريوهات مستقبلية؛ السيناريو الأول قد يكون الاستمرار في سياسات التشدد والضغط والتصعيد الاعلامي الرسمي الفرنسي في مسألة ترحيل المهاجرين غير الشرعيين إلى حين الانتهاء من الانتخابات الرئاسية في مايو 2022. والسيناريو الثاني هو الوصول إلى أرضية مشتركة للحوار مع الدول المغاربية من أجل رفع مستوى التعاون لحل معضلة أعداد المُرحلين. أما السيناريو الثالث فقد يكون في العمل الجاد على تحييد المعاقبين المحتملين الأبرياء كالطلاب ورجال الأعمال من تداعيات هذا القرار الفرنسي.