أخبار المركز
  • صدور العدد 38 من دورية "اتجاهات الأحداث"
  • د. إيهاب خليفة يكتب: (الروبوتات البشرية.. عندما تتجاوز الآلة حدود البرمجة)
  • د. فاطمة الزهراء عبدالفتاح تكتب: (اختراق الهزلية: كيف يحدّ المحتوى الإبداعي من "تعفن الدماغ" في "السوشيال ميديا"؟)
  • د. أحمد قنديل يكتب: (أزمات "يون سوك يول": منعطف جديد أمام التحالف الاستراتيجي بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة)
  • أسماء الخولي تكتب: (حمائية ترامب: لماذا تتحول الصين نحو سياسة نقدية "متساهلة" في 2025؟)

توازنات مختلة:

معركة الحكومة الانتقالية ودولة المليشيا العميقة في العراق

05 يوليو، 2020


تتزايد حدة التصعيد السياسي بين رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي وقادة مليشيات مقربين من إيران (حزب الله – حركة النجباء- عصائب أهل الحق)، حيث يعكس خطاب جبهة المليشيات الانتقال من "التلاسن" إلى الاتهام بـ"التخوين" والتهديد بالملاحقة القضائية والبرلمانية، معتبرة أن رئيس الوزراء تعدى حدود دوره الوظيفي كرئيس حكومة توافقي لمرحلة انتقالية يتعين عليه حصراً ترجمة التوافقات السياسية إلى إجراءات تنفيذية. في المقابل، فإن الكاظمي يرى أن مهمته الانتقالية تتمحور حول إعادة الاعتبار لـ"سيادة" الدولة، وتجنيبها حدة الاستقطاب الخارجي وأدواته الداخلية، أو ما يسميه مراقبون عراقيون "تفكيك دولة المليشيات العميقة" كمدخل رئيسي لتلبية استحقاقات المرحلة الانتقالية. 

أبعاد التصعيد:

على الرغم من أن مرحلة التصعيد بدأت مبكراً بين الطرفين، خاصة في ظل إصرار الكاظمي على إجراء تغييرات في مؤسسات الدولة، على غرار التغييرات التي أقرها، في 4 يوليو الجاري، داخل الأجهزة الأمنية، وتضمنت إنهاء تكليف فالح الفياض من مهام مستشار الأمن الوطني وتعيين قاسم الأعرجي محله، إلا أنها كانت متوقعة بالنظر إلى تفاعلات المشهد العراقي، ومن أبرز مؤشراتها:

1- تباين وجهات النظر حول آلية التعامل مع التصعيد الإيراني– الأمريكي: والذي وصل إلى ذروته في مخاض ما قبل المرحلة الانتقالية، وعدم قدرة الحكومة السابقة برئاسة عادل عبد المهدي على التعامل معه، في ظل توجه إيران لممارسة ضغوط بأدواتها المختلفة على الساحة العراقية لإنهاء أو تقويض الوجود الأمريكي في البلاد.

وقد تضاعفت وتيرة هذا الاتجاه بعد مقتل قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني في بغداد، في 3 يناير الماضي، حيث اتبعت طهران تكتيكاً جديداً بتكوين "خلايا الكاتيوشا" تحت مسمى "المقاومة الوطنية" لتعمل من الباطن كمنظومة خارج الإطار الرسمي تحت رعاية الفصائل التي لم تنضوي تحت مظلة "الحشد الشعبي".

وفي المقابل، فإن رئيس الوزراء القادم من جهاز الاستخبارات وعلى علم بكواليس تلك الترتيبات، لديه وجهة نظر مختلفة من هذا التصعيد، أوضحها في تبنيه فكرة "السيادة" القائمة على تجنيب البلاد تداعيات الاستقطاب على الجانبين، وعلى إمكانية حل الأزمة بينهما عبر آلية الحوار وليس التصعيد.  

2- الاختلاف حول أهداف المرحلة الانتقالية: ينطوي خطاب المليشيات التي تعارض رئيس الحكومة على رفض السياسات التي يتبعها في المرحلة الانتقالية، والتي تعتبرها تخالف مشروعية وتوجهات القوى السياسية التي دفعت به إلى رئاسة الوزراء.

لكن في المقابل، تبدو المعادلة مختلفة لدى رئيس الوزراء، الذي يضع ضمن حساباته الشارع العراقي، الذي كان منتفضاً في الميادين وأسقط حكومة سلفه عبد المهدي، لتحقيق أهداف تتعارض مع توجهات اللاعبين في المشهد السياسي، وفي المقدمة منها إنهاء المحاصصة السياسية وإجراء انتخابات على أسس مختلفة، ومحاربة الفساد المؤسسي والسياسي.

ويعني ذلك أن هناك تعارض مصالح بين الطرفين، إذ تعتبر الفصائل السياسية أن النظام السياسي القائم حالياً هو الواجب اتباعه كأكبر مكسب سياسي فى مرحلة ما بعد سقوط نظام صدام حسين.

3- المتغير الشخصي: لم تدعم الفصائل التي تعارض الكاظمي عملية التوافق عليه كرئيس للوزراء، وبالتالي لا تميل إلى تبني برنامجه السياسي بشكل خاص. وفي المقابل، فإن رئيس الوزراء، القادم من على رأس جهاز الاستخبارات ويقدم نفسه كشخصية مستقلة عن الاستقطابات التقليدية في سابقة هى الأولى من نوعها تقريباً في المشهد السياسي العراقى منذ ما يقرب من العقدين تقريباً، يعتقد أن لديه حسابات مختلفة، وهى الحسابات التي يعكسها خطاب وتوجهات الجيش والأجهزة الأمنية في العراق.

وتتبنى هذه الحسابات رؤية سلبية تجاه دور الكيانات شبه الأمنية الموازية للدولة، لاسيما أذرع المليشيات التي تعمل خارج المنظومة الأمنية والعسكرية الرسمية، خاصة بعد مأسسة "الحشد الشعبي"، وهو ما ظهر بوضوح لدى الاعتراض بشكل محدد على الهجمات التي طالت معسكرات التدريب المشتركة في بغداد في الآونة الأخيرة، بما يعني أن تلك المنظومة تشارك رئيس الوزراء في أهمية حصر السلاح والقرار الأمني والعسكرى في يد الدولة فقط.    

تداعيات محتملة:

ربما يفرض هذا التصعيد تداعيات عديدة محتملة يتمثل أبرزها في:

1- إضعاف الحكومة: لم يقتصر التصعيد بين المليشيات ورئيس الحكومة على خلفية قضية "خلايا الكاتيوشا" والتي وصلت إلى ذروتها مع اعتقال إحداها الأسبوع الماضي، قبل أن يتم الإفراج عن عناصرها قضائياً لعدم كفاية الأدلة. فعلى التوازي، يقود هادي العامري زعيم تحالف الفتح حملة توقيعات برلمانية لاستدعاء رئيس الوزراء إلى البرلمان بدعوى تقييم دوره في مكافحة جائحة "كورونا"، وهو ما يطرح دلالات عديدة، منها على سبيل المثال، إعادة توجيه اهتمام الحكومة إزاء القضايا المحلية، وتقليص هامش شعبية برنامج رئيس الوزراء. لكن هذا التوجه يعكس أيضاً طبيعة التوازنات في المرحلة الانتقالية، والتي لا تزال تميل لصالح "الدولة العميقة" والأطراف الموالية لإيران على حساب رئيس الحكومة.

2- استمرار التوتر الأمني: من المتصور أن المنظومة الأمنية غير الرسمية المتمثلة في المليشيات لن تتراجع عن التصعيد في مواجهة الوجود الأمريكي في العراق، أمنيا ًوسياسياً، وبالتالي لا يعتقد أن حدة الهجمات ستتقلص بل على العكس قد تتزايد في الفترة المقبلة، مع استمرار الحوار الاستراتيجي العراقي– الأمريكي، الذي تعارضه تلك المليشيات وغيرها، وتهدف إلى التأثير عليه من خلال اللجوء إلى القوة.

ومن هنا، ربما ترتفع وتيرة تلك الهجمات بالتزامن مع انعقاد الجولة المقبلة المرتقبة في واشنطن خلال الأسابيع القادمة. وفي المقابل، فإن أجهزة الأمن العراقية تعمل وفق استراتيجية الضربات الاستباقية لإحباط العمليات التي تقوم بها "خلايا الكاتيوشا"، لكن هذه الضربات لن تقلل من مستوى التصعيد، لاسيما في ظل ما يشير إليه مراقبون محليون من قدرة تلك المليشيات على اختراق المنظومة الأمنية الرسمية أيضاً. 

3- إرباك المرحلة الانتقالية: يتعلق أحد الأهداف التكتيكية لتلك الفصائل بإرباك المرحلة الانتقالية، في ظل التباين بين الجانبين على جدول أعمالها واستحقاقاتها. فهناك معركة سياسية مؤجلة نسبياً ستظهر على السطح في المدى المتوسط بين الطرفين، ويعتقد على نطاق واسع أن تلك المعركة ستتوقف على ما ستسفر عنه خريطة التوازنات السياسية التي تتبلور حالياً في ضوء اتجاه العديد من القوى السياسية إلى إعادة تشكيل التحالفات الداخلية استعداداً للانتخابات المقبلة، وهناك مؤشرات عديدة في هذا المسار لعل أبرزها إعلان الزعيم الشيعي البارز عمار الحكيم عن تحالف جديد يحمل اسم "عراقيون". 

سيناريوهان رئيسيان: 

يمكن القول إن سيناريوهات المرحلة المقبلة ستتراوح بين الاحتواء وزيادة التصعيد، وهو ما سيتوقف على عدد من المحددات الرئيسية ومنها:  

1- مسارات العلاقة بين طهران وواشنطن: والتي يحكمها أكثر من محدد، منها، على سبيل المثال، استمرار سياسة الضغوط القصوى الأمريكية ضد إيران، والتي ستنعكس على الأوضاع السياسية والأمنية في العراق، في ظل إصرار الإدارة الأمريكية على تمديد حظر الأسلحة المفروض على إيران، التي يبدو أنها ستراقب بدقة مشهد الانتخابات الأمريكية المقبلة وربما تحاول التأثير على الإدارة الأمريكية الحالية باستغلال العديد من الملفات الإقليمية ضدها وفي المقدمة منها الملف العراقي. 

2- موقف إيران من الكاظمي: على الرغم من إدراك رئيس الوزراء العراقي لأهمية العلاقة مع طهران، إلا أنه لم يستثن الأخيرة من خطاب "السيادة"، بما يعني أنه يصر على التعامل مع معضلة الدور الإيراني في العراق، وربما تسفر زيارته المرتقبة إلى طهران عن نتائج هامة على صعيد تأطير العلاقة بين الطرفين، ومدى قدرة أى منهما على إقناع الآخر بالسياسات التي ينتهجها في المرحلة الحالية.  

3- مصير حكومة الكاظمي: إذ أن الحكومة الجديدة تبدو مصممة على استكمال المسار الحالي حتى نهاية الفترة الانتقالية. لكن ذلك لا ينفي أنها قد تتعثر في مرحلة ما، بشكل سوف يعيد الأزمة إلى مربعها الأول مرة أخرى، خاصة مع زيادة التهديدات التي يتعرض لها الكاظمي مع سعى المليشيات إلى إفشال إدارته وتقويض هامش تحركاتها الداخلية والخارجية، وهو ما يمكن أن يضطر معه الأخير إلى الانسحاب من هذا المشهد وفق ما أشار إليه هو شخصياً مؤخراً. 

وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إن ثمة سيناريوهين محتملين قد تتجه التطورات السياسية في العراق إلى أحدهما خلال المرحلة القادمة: السيناريو الأول، هو فشل الكاظمي، إذ لا يرجح أن يقوم الأخير بتغيير سياسته تجاه تلك المليشيات، أو خطابه السياسي القائم على مشروع استعادة سيادة الدولة، لكن طول مسار المواجهة من جهة، إضافة إلى غياب حاضنة سياسية تدعمه من جهة أخرى، سيشكل استنزافاً سياسياً له.

 ومع ذلك، فإن دخوله معركة مع دولة المليشيات العميقة يؤكد أنه اختار المسار الأصعب، ولا يعتقد أنه كرئيس وزراء انتقالي يمكنه إنجاز الكثير في هذا الصدد، وبالتالي فالاحتمال الأقرب هو عدم قدرته على إدارة المرحلة الانتقالية حتى نهايتها، إلا أنه سيحسب له أنه أول المبادرين إلى محاولة اختراق الحاجز الذي تشكله دولة المليشيات العميقة في العراق. 

والسيناريو الثاني، هو الاحتواء التكتيكي، حيث ربما تبادر إيران إلى الضغط على الطرفين للتراجع خطوة إلى الوراء، وتقليص حدة التصعيد بينهما، لكن دون تسوية الخلاف على الجانبين، ومن ثم ستتوقف هذه الخطوة على الخطة التى سيتبعها الكاظمي في المقابل إزاء مستقبل العلاقات مع الولايات المتحدة في الحوار الاستراتيجي، ومدى القبول الإيراني بحدود ونمط الدور الأمريكي في العراق مستقبلاً.  

في المحصلة الأخيرة، تدفع العراق فاتورة فائض حسابات التصعيد الإيراني– الأمريكي في المقام الأول، وبشكل عام ستظل معادلة الاستقرار فيها مرتبطة بالقدرة على ضبط التوازنات السياسية دخلياً وخارجياً، والتي تبدو مختلة، إلى حد كبير، خلال المرحلة الحالية، في ظل طبيعة العلاقة بين أكثر قوتين تأثيراً على الساحة العراقية، وهما الولايات المتحدة وإيران.

 ومن هنا، فإن نتيجة اختبار نجاح أو فشل حكومة الكاظمي ستتوقف على مدى قدرتها على إدارة العلاقة على الجانبين من خلال خيارات سياسية وليس عبر اللجوء الى التصعيد وتصفية الحسابات على الساحة العراقية. وبالتبعية ستنعكس محصلة معادلة الصراع الأمريكي– الإيراني على الساحة الداخلية سياسياً.