يتجه الاقتصاد التركي نحو التعافي السريع منذ تخفيف القيود المرتبطة بجائحة كورونا في بداية العام الجاري، واستئناف الرحلات الدولية، محققاً نمواً قوياً خلال الربع الثاني من 2021، غير أن استمرار هذا النمو في الأمد المتوسط قد يواجه تحديات كبيرة بالنظر إلى ما تواجهه تركيا من مخاطر مالية ونقدية، خاصة مع التقلبات المستمرة في سعر الصرف التركي، هذا بالإضافة إلى ما تفرضه جائحة كورونا من تداعيات طويلة الأجل على النشاط الاقتصادي في تركيا، لاسيما بالنسبة لقطاعي السياحة والسفر.
قفزة النمو
حقق الاقتصاد التركي أداءً قوياً في الـفترة الممتدة من 2002 وحتى 2017، وهو ما أشادت به المؤسسات الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ثم أخذ منحنى النمو الاقتصادي في التراجع الشديد في السنوات الأخيرة نتيجة البيئة السياسية غير المستقرة، وظروف جائحة كورونا الأخيرة، بالإضافة إلى الإدارة غير السليمة للاقتصاد. ويتضح ذلك على النحو التالي:
1- تباطؤ النمو قبل الجائحة: شهدت السنوات الثلاث السابقة لجائحة كورونا تباطؤاً في نمو الناتج المحلي التركي، حيث تكشف بيانات البنك الدولي عن تراجع معدل النمو الاقتصادي من 7.5% عام 2017 إلى 3% عام 2018، واستمر في تراجعه حتى وصل إلى 0.9% في عام 2019، و1.8% في 2020.
2- ضغوط الجائحة: حقق الناتج المحلي الإجمالي التركي نمواً بنسبة 4.4% في الربع الأول من عام 2020، لكن مع تفشي جائحة كورونا انكمش الاقتصاد التركي بنسبة 10.4% في الربع الثاني.
ثم مع اتخاذ الحكومة التركية سلسلة من التدابير لمواجهة الجائحة، عاد الأداء الإيجابي، وحقق الناتج المحلي الإجمالي نمواً بنسبة 6.3% في الربع الثالث، ثم بنسبة 6.2% في الربع الأخير من العام الماضي، وبذلك حقق الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020 نمواً بنسبة 1.8% على أساس سنوي.
3- قفزة الأداء: تواصل زخم نمو الاقتصاد التركي في الربع الأول من العام الجاري مسجلاً نمواً بما نسبته 7.2%، ثم بنسبة 21.7% خلال الربع الثاني من العام 2021، ليصبح بذلك ثاني أسرع الاقتصادات نمواً خلال هذا الربع بعد الاقتصاد الصيني.
ويمكن تبرير الصعود القوي للاقتصادي التركي، بأنه عادة ما تشهد الاقتصادات معدلات نمو متسارعة عقب خروجها من الأزمات الاقتصادية، حيث تسترد الاقتصادات ما فقدته من خسائر مع عودة العمليات التشغيلية داخل الأنشطة الاقتصادية المختلفة، واستئناف الأصول المتوقفة الإنتاج مرة أخرى، على نحو يضيف، ظاهرياً فقط، قيماً جديدة للاقتصاد، لكنه في نهاية المطاف لا يعكس نمواً حقيقياً له.
ولذا، فإن مقارنة أداء الاقتصاد التركي خلال الربع الثاني من 2021، بمثيلها في العام السابق وقت حدوث الجائحة تشير إلى مدى سرعة تعافي الاقتصاد من الأزمة، ولكنها لا تعكس آفاق أداء هذا الاقتصاد إذا ما كانت الظروف طبيعية.
محركات النمو
تسببت جائحة كورونا في تراجع الاستهلاك الخاص بتركيا، إلا أن الإجراءات التحفيزية التي تبنتها الحكومة التركية نجحت في دفع نمو العديد من الأنشطة، وليحقق الاقتصاد نمواً لافتاً خلال العام الجاري، والتي يمكن استعراض أبرزها على النحو التالي:
1- إجراءات حكومية تعويضية: سعت الحكومة إلى التخفيف من آثار جائحة كورونا من خلال سلسلة من تدابير الدعم، والتي ساهمت في تحفيز الطلب المحلي، وذلك من خلال دعم الأفراد والشركات لتشجيع الطلب الخاص، أو من خلال التوسع في الإنفاق الحكومي الذي حفز الطلب العام.
وشملت سلسلة تدابير الدعم تقديم إعانات الإجازات غير مدفوعة الأجر للعاملين، وتقديم خطوط ائتمان مدعومة للأفراد، ودعم الشركات، وعلى رأسها شركات السياحة، بالإضافة إلى تخفيف القيود النقدية. وبذلك فإن القطاع الحكومي كان هو المحرك الأساسي للطلب في الاقتصاد خلال فترة التعافي من الجائحة.
2- تسارع الصادرات مقارنة بالواردات: ارتفعت صادرات السلع والخدمات بنسبة 59.9% في الربع الثاني من عام 2021 مقارنة بالربع المماثل من العام السابق، في المقابل ارتفعت واردات السلع والخدمات بنسبة 19.2%. ويرجع هذا التسارع في الصادرات لسببين رئيسيين؛ الأول هو تعافي الاقتصادات الأوروبية، خاصة منطقة اليورو، حيث نشط الطلب على صادرات تركيا. أما الثاني فهو انخفاض سعر صرف الليرة الذي دعم تنافسية الصادرات في الخارج.
3- تعافي القطاعين الصناعي والخدمات: استعادت المنشآت الصناعية والخدمية، التي تمثل معاً 82% تقريباً من الناتج التركي، نشاطها المعتاد عقب تخفيف قيود كورونا، وإنهاء إغلاق الاقتصاد في يونيو الماضي، ونجحت في دفع نمو الناتج المحلي الإجمالي، حيث جاءت أكبر مساهمة في النمو خلال الربع الأول من العام 2021 من قطاع الخدمات الذي ارتفاع خلال الربع الثاني من 2021 بنسبة 45.8%، بينما زاد نمو القطاع الصناعي بنسبة 40.5%.
تداعيات معاكسة
توجد بعض العوامل التي قد تعرقل استدامة نمو الاقتصاد التركي في الأمد المتوسط، وتتضح على النحو التالي:
1- اضطراب المؤشرات النقدية: يقع الاقتصاد التركي تحت ضغوط التراجع المستمر لسعر صرف الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي، بسبب السياسة النقدية غير الرشيدة، وهو ما يقود في محصلته إلى عدم اليقين بشأن المعاملات الاقتصادية والتجارية في تركيا، فضلاً عن تراجع القوة الشرائية للأفراد، واستنزاف مدخراتهم.
وتشير البيانات إلى أن قيمة الليرة التركية انخفضت بنسبة 19.6% سنوياً مقابل الدولار الأمريكي في السنوات من 2018 إلى 2020، كما انخفضت مرة أخرى بنسبة 15% منذ بداية العام 2021 حتى يوليو الفائت.
ويعود هذا الاضطراب إلى الخلافات المستمرة بين محافظي البنك المركزي والرئيس التركي رجب طيب أردوغان في السنوات الماضية حول إقرار سعر الفائدة، حيث يرغب الأخير في أن تظل الأخيرة منخفضة من أجل تشجيع الائتمان، وتحفيز نمو الاقتصاد، وذلك في تعارض واضح مع ما تذهب له القواعد الاقتصادية بضرورة التشديد النقدي لاحتواء التضخم. لكن ما يحصل في تركيا العكس، ما أدى إلى ارتفاع معدل التضخم إلى 19.25% على أساس سنوي في أغسطس الماضي، وهو أعلى معدل بلغه منذ العام 2019.
وبالفعل، فقد خفض البنك المركزي مؤخراً سعر الفائدة الرئيسي إلى 18%، على نحو دفع الليرة التركية فوراً لقاع جديد، إذ لامست في الأيام الماضية نحو 9 ليرات مقابل الدولار الأمريكي الواحد. وقد ينجم الانخفاض المستمر لسعر صرف الليرة ارتفاع معدل الدولرة في الاقتصاد، ولجوء الأفراد لحماية مدخراتهم بتحويلها إلى ذهب، بما قد يضر في نهاية المطاف القطاع المالي التركي، الذي يلعب دوراً حيوياً في تقديم الدعم المالي للمشاريع العامة والخاصة.
2- انتهاء الخطط التحفيزية: من المقرر أن تنتهي قريباً فعالية التدابير الحكومية التي سبق اتخاذها منذ بداية الجائحة، بهدف دعم التوظيف والأجور. وفي العام الماضي، استفاد أكثر من 3.5 مليون شخص من برامج الدعم الحكومي لأجور العمالة خلال 2020. فيما ألغى البنك المركزي التركي أيضاً تأجيل احتساب القروض المتعثرة بالبنوك التركية. وقد ينتج عن سحب تلك الإجراءات ارتدادات سلبية على نمو النشاط الاقتصادي، مصحوباً ببعض الظواهر الأخرى، مثل تسريح العمالة، وارتفاع معدل البطالة.
3- موجة جديدة من سلالة كورونا: على الرغم من تسارع برامج التطعيم ضد فيروس كورونا، ما زال الاقتصاد العالمي يعاني مخاطر ارتفاع اللايقين بسبب مخاطر حدوث موجة رابعة لفيروس كورونا.
وأمام احتمالية انتشار سلالات جديدة لكورونا، مثل دلتا، فإن تركيا عرضة مرة أخرى للإغلاق الجزئي، أو حتى شركائها التجاريين والاستثماريين، على نحو قد يواجه الاقتصاد التركي معه تراجعاً في الطلب على الصادرات والسياحة، إلى جانب مخاطر تعثر سلاسل التوريد، وهو ما سيعرقل بدوره الإنتاج الصناعي المحلي.
رهان الاستمرار
واستنتاجاً من المعطيات السابقة، يمكن القول إن القفزة القوية لنمو الاقتصاد التركي، جاءت كأثر مرتد أساسي لإعادة فتح الاقتصاد مرة أخرى، مدعوماً بتبني الحكومة التركية آليات قصيرة الأجل تمثلت في تحفيز مالي مباشر للأفراد والشركات، بالتوازي مع الاستفادة من ضعف الليرة في تحفيز الصادرات.
وعليه، يبدو أن الاقتصاد التركي لن يستطيع ضمان استدامة طفرة الربع الثاني من العام الجاري نفسها، فمن المتوقع أن ينمو بنسبة 5% في كامل عام 2021، وهو أقل بشكل طفيف من توقعات صندوق النقد الدولي في العام نفسه عند 5.8%.
ولا تزال تلك المستويات أقل من المعدلات المعهودة للاقتصاد التركي قبل أزمة العملة عام 2018. فيما يتوقع أن يتراجع النمو إلى 4.5% عام 2022 وفق تقديرات البنك الدولي، وهو أكثر تفاؤلاً من تنبؤات صندوق النقد التي تشير إلى أن نمو الاقتصاد التركي قد يتراجع إلى 3.3% في العام المقبل.
وختاماً، يمكن القول إن استمرار زخم نمو الاقتصاد التركي سيتوقف على تبني آليات اقتصادية جديدة لتحفيز النشاط الاقتصادي في الأمدين المتوسط والطويل، فضلاً عن معالجة التحديات المالية والنقدية التي تواجهها البلاد حالياً. فبدون احتوائها، يمكن أن تقود لتأزم وشيك للوضع الاقتصادي التركي.