انتشر متحور "دلتا كورونا" في حوالي 80 دولة حول العالم ليهدد بذلك سياسات التعافي الاقتصادي، ويحبط الخطط الرامية إلى إعادة تشغيل الاقتصادات بشكل كامل. وانقسمت الدول الأوروبية حيال كيفية التعامل مع هذا التطور بين من تبنى إجراءات الغلق الكامل للاقتصاد وبين من تبني تدابير جزئية.
أثارت منظمة الصحة العالمية قلقاً كبيراً، بعدما أعلنت أن "متحور دلتا" من فيروس كورونا، والذي ظهر في الهند، في طريقه ليصبح "السلالة السائدة" في العالم، خاصة بعد تسجيل سرعة كبيرة في معدلات انتشاره وتفشيه بين البشر، حيث أعربت المنظمة عن قلقها إزاء هذه السلالة كونها أكثر خطورة من النسخة الأصلية، لأنها أشد عدوى وأكثر فتكاً، كما لايزال من غير المعروف ما إذا كانت اللقاحات الموجودة حالياً توفر الحماية ضدها أم لا.
واكتسبت تحذيرات الصحة العالمية من سلالة "دلتا كورونا" مصداقية، مع انتشارها بالفعل إلى حوالي 80 دولة. وكانت العديد من البلدان، بما في ذلك الدول الأوروبية، تأمل في رفع قيود السفر وتخفيف سياسات الإغلاق، خاصة مع بدء موسم السياحة الصيفي في القارة الأوروبية، ومن ثم تحقيق التعافي الاقتصادي، جاء المتحور "بي 1,617" المعروف باسم "متحور دلتا" ليعيق هذه الجهود.
ويمكن توقع تداعيات "دلتا كورونا" على سياسات التعافي الاقتصادي من خلال التركيز على حالتي بريطانيا والبرتغال باعتبارهما من الدول الأوروبية التي تشهد انتشاراً كبيراً لهذه السلالة.
تداعيات مبدئية:
توقع المركز الأوروبي لمكافحة الأمراض السارية والوقاية منها أن تشكل طفرة "دلتا" نحو 90% من إصابات كورونا الجديدة في الاتحاد الأوروبي بنهاية أغسطس المقبل، ولذلك، دعا خبراء الصحة العامة إلى:
1- ضرورة تأجيل رفع الإجراءات الاحترازية: تتمثل في التدابير التالية: ارتداء الكمامات، والالتزام بمعايير التهوية الكافية والتباعد الاجتماعي. كما حذر المركز الأوروبي الحكومات من إلغاء إلزامية استخدام الأقنعة الطبية الواقية في الهواء الطلق والشوارع، وطالب بضرورة أن تلازم الأقنعة الطبية المواطنين كلما خرجوا من المنزل، فلا يزال من الواجب ارتداؤها في المتاجر والأماكن المغلقة والشوارع المزدحمة والمقاهي المفتوحة ووسائل النقل، وحتى في الهواء الطلق، إذا تعذر الحفاظ على مسافة التباعد اللازمة.
2- توقع ارتفاع عدد الإصابات: يرى العديد من المتخصصين أن سلالة دلتا ستؤدي إلى الارتفاع القوى في الاصابات في دول الاتحاد الأوروبي، حيث إن نسبة التطعيم في دول الاتحاد أقل من نسبة تلقي اللقاح في المملكة المتحدة، إحدى الدول الأوروبية التي تشهد انتشاراً للسلالة الجديدة، مما يُرجح أن دول الاتحاد ستكون أكثر تأثراً بالسلالة مقارنة بالمملكة المتحدة، وبالتالي، سيعود مربع الانتعاش الاقتصادي إلى المربع صفر، في حالة تفاقم الوباء مرة أخرى في أوروبا، وما يصاحب ذلك من تداعيات اقتصادية فادحة.
سياستان متباينتان:
انقسمت الدول الأوروبية حول كيفية التعامل مع الوباء، ففي حين تتبع بعض البلدان الأوروبية النهج الحذر لإعادة الحياة إلى طبيعتها (مثل بريطانيا)، ترى بلدان أوروبية أخرى ضرورة إنهاء القيود (مثل البرتغال)، وجعل الحياة طبيعية، وذلك لوقف نزيف الاقتصاد الذي أدخل الدول في موجة في الديون لا حصر لها، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- السياسات البريطانية الحذرة: قاربت بريطانيا على تلقيح حوالي 60% من سكانها ضد فيروس كورونا، كما تلقى ثلاثة أرباع البالغين الجرعة الأولى، أي ما يعادل أربعين مليون شخص، في حين تلقى أكثر من 27 مليون شخص الجرعة الثانية. ومع ذلك، تمكن متحور دلتا من الانتشار خلال فترة زمنية وجيزة في بريطانيا، مهدداً المحاولات الرامية إلى إعادة الحياة إلى طبيعتها.
وتمثلت التداعيات الأولية في تأجيل "متحور دلتا" رفع قيود كورونا لمدة شهر، أي حتى 19 يوليو المقبل، بعد أن كان مقرراً إلغاؤها في 21 يونيو الماضي، بل وتراجعت الحكومة البريطانية عن تشجيع المواطنين على العودة إلى العمل من المكاتب، وأكدت ضرورة الإبقاء على قواعد التباعد الاجتماعي في الحانات والمطاعم، بالإضافة إلى القيود المفروضة على الحاضرين في المسارح ودور السينما.
وتشير الدراسات البريطانية المبدئية إلى أن قابلية انتقال متحور دلتا في بريطانيا ارتفعت بنسبة تتراوح بين 40% و80% مقارنة بمتحور ألفا الذي ظهر في انجلترا العام الماضي، وكذلك بنسبة 50% مقارنة بالسلالة الأصلية التي ظهرت في ووهان بالصين أواخر عام 2019، وهكذا سجلت المملكة المتحدة أكثر من 7000 حالة إصابة بكورونا يومياً خلال الأسبوع الثاني من شهر يونيو الماضي. ويمثل متحور "دلتا" الآن أكثر من 90٪ من الحالات الجديدة.
ويرى الاقتصاديون أن اقتصاد المملكة المتحدة يمكن أن يستوعب تأخير إعادة تشغيل الاقتصاد بشكل طبيعي لما يصل إلى ستة أسابيع من دون التعرض لعواقب وخيمة، وبالتالي، فإن المخرج الوحيد هو تلقيح كامل لأكبر عدد ممكن من الناس في أسرع وقت ممكن، قبل الانتقال إلى إعادة الحياة إلى طبيعتها وإلغاء القيود، خاصة أن هيئة الصحة العامة في بريطانيا أفادت في دراسة لها بأن لقاح "فايزر" فعال بنسبة 96٪ ضد متغير "دلتا" بعد تلقي الجرعة الثانية، أما لقاح "أسترازينيكا" فهو فعّال بنسبة 92٪.
2- تدابير برتغالية انتقائية: تُعد البرتغال من بين أولى دول الاتحاد الأوروبي التي واجهت ارتفاعاً في الإصابات بسبب السلالة الجديدة المعروفة باسم "دلتا"، وأرجع المعهد الوطني للصحة ذلك إلى ارتفاع نسبة المسافرين القادمين من الهند، مما ساهم في انتشار متحور دلتا بين السكان المحليين. ويرى المراقبون أن هذا الانتشار جاء نتيجة طبيعية لحتمية تقارب العلاقات الهندية – البرتغالية، حيث تضم لشبونة جالية هندية كبيرة.
وفي ضوء الانتشار السريع لهذه السلالة، فرضت الحكومة البرتغالية حجراً صحياً على الأشخاص الذين يصلون من الهند منذ 30 أبريل الماضي، كما أعلنت إغلاق العاصمة البرتغالية "لشبونة" في عطلات نهاية الأسبوع من أجل احتواء انتشار الوباء.
وتتمثل المشكلة التي تواجه البرتغال الآن في زيادة الضغط على المستشفيات، فبينما تسعى الحكومة إلى تهدئة المواطنين بأنها لا تتوقع تكرار سيناريو الضغط الذي واجهه النظام الصحي البرتغالي في الموجة الأولى من كورونا، فإن الحكومة البرتغالية لا تزال تواجه انتقادات شديدة لسماحها بإقامة نهائي دوري أبطال أوروبا؛ أكبر مباراة في موسم كرة القدم في أوروبا، في مدينة بورتو البرتغالية في أواخر مايو الماضي، مما أدى إلى انتشار أوسع للوباء في المدن البرتغالية.
التداعيات الاقتصادية لـ "دلتا":
يرى الخبراء الاقتصاديون أن سلالة دلتا وغيرها من السلالات المتحورة من كورونا، قد تؤثر سلباً على خطة الإنعاش الاقتصادي الأوروبية البالغ قيمتها 750 مليار يورو، والتي دخلت حيز التنفيذ مطلع يونيو الجاري تحت شعار "جيل الاتحاد الأوروبى القادم"، وفيما يلي أبرز التداعيات التي من شأنها أن تؤثر على سياسات التعافي الاقتصادي:
1- تشديد أو إطالة القيود المفروضة على التنقل: سيؤدي استمرار هذه النوعية من القيود إلى استمرار الحد من تنامي أنشطة الأعمال والتجارة اللازمة لإنعاش الدول الأوروبية من الناحية الاقتصادية، كما أنها ستؤثر سلباً على القطاعات الاقتصادية الحيوية، مثل السياحة والصناعة.
2- الدخول في حالة ركود ثانية: إن إعادة فرض تدابير التباعد الاجتماعي الصارمة، مثل الحجر الصحي وحظر التجول والإغلاق في أوروبا، ستؤثر سلباً على اقتصادات منطقة اليورو، وهذا يعني أن منطقة العملة الأوروبية الموحدة ستدخل فعلياً في ثاني حالة ركود لها نتيجة الجائحة، وهو ما يشير إلى هشاشة التعافي الأخير للاقتصاد.
3- التأثيرات سلباً على مشروعات البنية التحتية: قد تتأخر الأموال اللازمة والتي تم الاتفاق عليها ضمن الخطة الأوروبية، والتي تم تخصيصها لمشاريع البنى التحتية الكبرى والمشاريع البيئية على غرار تطوير شبكة محطات شحن السيارات الكهربائية.
4- تأخير خطط تحديث القطاع الصحي: يعتبر تطوير القطاع الصحي أحد مكونات خطة التعافي الأوروبية، إذ كان من المقرر، العمل على تحديث الأنظمة الصحية حتى تتمكن المستشفيات في كل دولة من دول الاتحاد الأوروبي من الوصول بشكل أفضل إلى التكنولوجيا الجديدة والإمدادات الطبية، مع العمل على تمويل تدريب المتخصصين في الطب والرعاية الصحية في أوروبا.
وفي الختام، يمكن القول إن الدول الأوروبية تخشى من تكرار سيناريو الموجة الأولى لوباء كورونا، بما يستتبعه ذلك من إغلاق الاقتصاد، وإحباط فاعلية خطة الإنعاش الاقتصادي، ويتوقف كل ما سبق على مدى فاعلية لقاحات كورونا في مواجهة متحور "دلتا"، وهو ما يجب على كل دولة إجراء دراسات وأبحاث حوله للوقوف بدقة، على ما إذا كانت تستطيع مواجهة موجة "دلتا كورونا" أم لا.