وجّهت الولايات المتحدة ضربات عسكرية في 28 يونيو الجاري على جانبى الحدود العراقية- السورية، وأعلنت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) رسمياً أن المواقع المستهدفة تستخدم كمخازن لطائرات من دون طيار إيرانية متقدمة الصنع، استخدمتها الميليشيات العراقية الموالية لإيران ضد القوات الأمريكية في العراق وسوريا في الفترة الأخيرة. وتعكس هذه الضرية- وهى الثانية من نوعها في عهد إدارة الرئيس جو بادين حيث كانت الضرية الأولى في فبراير 2021 - تداعيات عسكرية تتعلق بمستقبل الوجود العسكري الأمريكي في العراق وسوريا، فى ظل الجدل الذي شهده الكونجرس حول دوافع الإدارة لتكرار الضربات العسكرية فى تلك المواقع، بالإضافة إلى شكوك أخرى يبديها المراقبون من احتمال اننكاس مباحثات فيينا بين واشنطن وطهران لاستئناف العمل بالاتفاق النووي، في ظل نفاد الوقت مع قرب انتهاء ولاية الرئيس الإيراني حسن روحاني ووصول إدارة أكثر تشدداً تجاه واشنطن برئاسة إبراهيم رئيسي.
خطوات تصعيدية:
تزامنت الضربات الأمريكية مع انعقاد المؤتمر الدولي فى العاصمة الإيطالية روما للحرب ضد تنظيم "داعش" في العراق وسوريا، الأمر الذي دفع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى التعليق على تلك الضربات، حيث قال أن "الولايات المتحدة اتخذت إجراءاً ضرورياً ومناسباً ومدروساً عندما شنت الضربات الجوية التي استهدفت الفصائل المدعومة من إيران في العراق وسوريا، موجهة رسالة قوية ومهمة"، وبنفس اللهجة تقريباً جاءت تصريحات المتحدث باسم البنتاجون جون كيربي الذي أشار إلى أن "الولايات المتحدة اتخذت إجراءاً ضرورياً ومناسباً ومدروساً للحد من مخاطر التصعيد"، كما دخلت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي على الخط في سياق الجدل حول دوافع الضربة وصلاحيات الإدارة لتؤكد أن هذه الضربات الدفاعية هى رد متوازن لديه هدف محدد للتصدي لخطر جدي، موضحة أن الرئيس بايدن استعمل صلاحياته كقائد للقوات المسلحة وفق البند الثاني من الدستور، وهو ما يعكس إصرار الجانب الأمريكي على الرد على الهجمات التي تشنها الميليشيات الموالية لإيران في العراق وسوريا ضد القوات الأمريكية.
في المقابل، عارض الجيش العراقي تلك الهجمات التي طالت مواقع اللواءين 14، و64 لفصائل "الحشد الشعبي" العراقية اللذين تنتشر عناصرهما على الحدود مع سوريا، معتبراً أن تلك الضربات تشكل انتهاكاً للسيادة العراقية، وأعلنت الخارجية العراقية عن فتح تحقيق حول ملابسات تلك الضربات، بينما كانت تلك اللهجة دبلوماسية إذا ما قورنت بلهجة الوعيد والتهديد التي وجهتها الفصائل المسلحة العراقية ضد الولايات المتحدة، لاسيما من فصيلى "حزب الله العراقي"، و"كتائب سيد الشهداء"، اللذين يرجح أن الضربات طالت عناصر وقيادات منهما. فيما أكدت ميليشيا "الحشد الشعبي" ذاتها احتفاظها بحق الرد على الأراضي العراقية. وعلى الجانب الإيراني، أعلن المتحدث باسم الخارجية سعيد خطيب زاده أن "ما تقوم به الولايات المتحدة يزعزع أمن المنطقة" وأن "من ضحايا زعزعة الاستقرار في المنطقة ستكون الولايات المتحدة نفسها".
وترجح الرسائل المتبادلة على هذا النحو تنامي مسار التصعيد المسلح في الفترة المقبلة على الساحتين العراقية والسورية بين القوات الأمريكية والفصائل المسلحة الموالية لإيران، وقد بدأت هذه الجولة بالفعل على الساحة السورية في أعقاب الضربات الأمريكية، حيث تعرضت القوات الأمريكية في نطاق حقل "العمر" النفطي بريف دير الزور شرقى سوريا لهجوم صاروخي وفق المتحدث باسم قوات التحالف الدولي واين ماراتو الذي أكد في الوقت ذاته أن تلك الضربات لم تسفر عن خسائر من أى نوع. وكرد فعل على تلك الضربات الصاروخية قامت قوات "قسد" بمحاولة شن هجوم بالرشاشات الثقيلة على أطراف بلدة الشحيل، واستهدفت نقطة للجيش السوري في بلدة بقرص في ريف دير الزور الشرقي.
تداعيات محتملة:
اللافت للانتباه في الضربتين الأولى والثانية، هو التركيز على الحدود السورية- العراقية، وبالتالي تحركات الميليشيات، وهو ما يمثل محاولة أمريكية لتضييق مسرح المواجهة، لكن على العكس من ذلك، فإن الميليشيات الموالية لإيران توسع بشكل تقليدي من نطاق الأهداف ضد القوات الأمريكية في العراق وسوريا، وبالتالي لا تزال قواعد الاشتباك قائمة على الجانبين دون تغير جوهري، دون أن ينفي ذلك أن هناك تغيراً في مستوى وكثافة الضربات. لكن على المستوى العسكري، هناك عدة احتمالات ترجح أغلبها تكرار سيناريو التصعيد العسكري على الجانبين، وربما على مدى زمني أقل، لكنه سيتوقف على عدة عوامل، منها مستوى التصعيد الإيراني في المرحلة المقبلة، في ظل التهديدات المشار إليها سلفاً، بالإضافة إلى طبيعة التعزيزات العسكرية الإيرانية إلى كل من العراق وسوريا، في ضوء ما كشفت عنه تقارير استخبارية أمريكية من تطوير القدرات الهجومية الإيرانية باستخدام طائرات من دون طيار متقدمة يمكنها تفادي عمليات الرصد والتشويش التي تقوم بها القوات الأمريكية في تلك المناطق.
وعلى الجانب الآخر، سيتوقف ذلك على طبيعة دور "قسد" في المرحلة المقبلة، لمواجهة المخاوف من مساعي إيران لدعم توسيع نطاق مناطق السيطرة بالانتقال إلى مناطق شرقى الفرات، وهو ما سيستقطع من نفوذ " قسد"، وما إذا كانت واشنطن ستقرر إعادة دعم القدرات العسكرية للأكراد بعد أن تراجع مستوى هذا الدعم منذ عام 2019 في ضوء اتخاذ الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قراراً بالانسحاب من سوريا، حتى وإن لم ينفذ لكن التكتيكات التالية للقرار سعت إلى إحداث نوع من التوازن بين "قسد" والقوات التركية التي احتلت مساحات واسعة من الشمال السوري لإبعاد الأكراد، لكن هذا الدعم سيتطلب تحركاً جديداً من الإدارة في الكونجرس مرة أخرى لدعم هذا التوجه.
على المستوى السياسي، يمكن القول إن الضرية الأمريكية الثانية تمثل بالون اختبار جديداً لمسار فيينا النووي، فقد كانت الضربة الأولى قبيل إطلاق المباحثات بوقت قصير، بينما تأتي الضربة الثانية بعد ست جولات وربما قبل المنعطف الأخير للوصول إلى اتفاق، ويعتقد أن الرابط بين الضربتين في هذا السياق هو رابط الرسائل المتبادلة، فالضربة الأولى حملت رسائل إلى حكومة روحاني بأنه على طهران أن تتراجع عن الأنشطة الإقليمية بشكل عام، لكن الرسالة الثانية يبدو أنها موجهة تحديداً إلى الرئيس الإيراني المنتخب إبراهيم رئيسي، الذي علّق فور إعلان فوزه في الانتخابات بأن إدارته لن تتفاوض حول مشروعها الإقليمي، ومن ثم يفصل رئيسي بين المباحثات النووية، وملف الأنشطة الإقليمية لطهران، إضافة إلى أنه الأقرب إلى الحرس الثوري مقارنة بإدارة الرئيس روحاني لاسيما وزير الخارجية محمد جواد ظريف، الذي سعى إلى إظهار قدر من التوازن الدبلوماسي، وبالتالي من المتصور أن هناك مأزقاً في المرحلة الانتقالية بين الإدارتين من حيث إمكانية الانتهاء من المفاوضات النووية من جانب، ومن جانب آخر عدم توجيه ضربة أمريكية جديدة خلال تلك الفترة المقبلة يمكن أن تؤدي إلى انهيار هذه المفاوضات.
لكن يظل أيضاً هناك مسار ثالث تطرحه بعض التقديرات، وهو التوصل إلى حل وسط، بحيث لا تتراجع إيران إقليمياً، لكن هذا الحل يشترط على طهران ألا تشكل تهديداً مباشراً للتواجد العسكري والمصالح الأمريكية، وهو أمر لا يخضع لضمانات.
في الأخير، يمكن القول إنه من غير المتوقع في المدى المتوسط حدوث انفراجة نوعية في إطار العلاقات الأمريكية- الإيرانية، في ظل ثبات معادلة الاشتباك بين الطرفين، حيث ستسعى إيران إلى التركيز على سياسة فصل الملفات، بهدف جنى الأرباح من الملف النووي، ومن الملف الإقليمي في الوقت ذاته. في المقابل، ستسعى واشنطن إلى تكتيك تقليل الخسائر قدر المستطاع. أما سياسياً، فلا شك أن العراق أصبحت الطرف الضعيف في تلك الحلقة، إلى جانب سوريا التي أصبحت ساحة رئيسية لانعكاس فائض الصدام بين الطرفين.