نجح رئيس السلطة القضائية إبراهيم رئيسي في الفوز بالانتخابات الرئاسية الإيرانية التي أجريت في 18 يونيو الجاري، حيث لم يحتاج إلى الانتقال لجولة ثانية، في ظل عدم قدرة المرشحين الثلاثة الآخرين على منافسته، على نحو انعكس في حصوله على 62% من أصوات الناخبين الذين شاركوا في الانتخابات.
وربما يمكن القول إن فوز رئيسي بمنصب الرئيس سوف يفرض ارتدادات قوية على الصعيدين الداخلي والخارجي. لكن قد يكون أهم ما سينتج عن ذلك هو أن التوافق سوف يكون، في الغالب، هو العنوان الأبرز في العلاقات بين القوى النافذة داخل النظام الإيراني. وقد بدا أن هذا التوافق يتعرض لأزمات أو اختبارات، في بعض الأحيان، خلال عهد الرئيس الحالي حسن روحاني، على نحو انعكس في أزمة التسجيل المسرب لوزير الخارجية الحالي محمد جواد ظريف، والتي تصاعدت حدتها في مارس الماضي، لاسيما أن ظريف انتقد فيه تدخل الحرس الثوري، لاسيما قبيل مقتل قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني، في إدارة السياسة الخارجية الإيرانية.
وربما يكون ذلك هو أحد الأسباب التي دفعت النظام بقيادة المرشد الأعلى علي خامنئي إلى تهيئة المجال أمام فوز "مريح" و"سريع" لرئيسي. إذ أنه لم يتدخل في قرارات مجلس صيانة الدستور التي أطاحت بعدد من المنافسين المحتملين لرئيسي في الانتخابات، والذين كانوا من الممكن أن يقتنصوا المنصب منه، على غرار علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى السابق. وعندما دعا المرشد إلى رد اعتبار من رفضت صلاحيتهم تم الترويج إلى أن ذلك لا يعني أن مجلس الصيانة سوف يقوم بمراجعة قراراته، وأن رد الاعتبار يقع على عاتق الجهات التي قدمت تفسيرات "غير واقعية" لأسباب الرفض منها أسباب مرتبطة بعائلات المرشحين.
ومن هنا أيضاً ربما يمكن تفسير أسباب الحرص على استبعاد بعض القادة العسكريين من الترشيح، حيث أعلن وزير الدفاع الأسبق حسين دهقان انسحابه لصالح رئيسي قبل قرارات مجلس صيانة الدستور، فيما لم يقبل الأخير أهلية قائد مقر خاتم الأنبياء التابع للحرس الثوري سعيد محمد للترشيح في الانتخابات. وتشير تقارير إيرانية إلى أن أحدهما أو كليهما قد يكونا ضمن طاقم رئيسي خلال فترة رئاسته الأولى، إلى جانب المرشحين المنسحبين لصالحه، على غرار أمين مجلس الأمن القومي السابق سعيد جليلي.
انعكاسات مباشرة:
هذا التوافق المحتمل سوف تظهر مؤشراته خلال المرحلة القادمة، لاسيما أنه يتوازى مع استمرار مفاوضات فيينا التي تجري بين إيران ومجموعة "4+1" بمشاركة غير مباشرة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية. ويمكن تناول أبرز انعكاسات ذلك على النحو التالي:
1- ملف مزدوجي الجنسية: قد يبرز هذا الملف كأحد محاور الخلاف بين إيران والدول الغربية، والذي كان لإبراهيم رئيسي، باعتباره رئيس السلطة القضائية، دور بارز فيه، حيث من المتوقع أن تواصل إيران استغلال هذا الملف في ممارسة ضغوط على الدول الغربية خلال المرحلة القادمة، خاصة أن الخلافات سوف تتواصل حول العديد من الملفات حتى لم تم التوصل إلى صفقة جديدة في مفاوضات فيينا تعزز من استمرار العمل بالاتفاق النووي الحالي. ومع ذلك، لا يمكن استبعاد أن تقدم إيران على استغلال هذا الملف للانخراط في صفقات للمقايضة مع الدول الغربية، على غرار ما قامت به مرات عديدة في الفترة الماضية.
2- تصعيد مباشر: قد تتجه إيران خلال المرحلة القادمة إلى توجيه رسائل تصعيدية إلى الدول الغربية، مفادها أنه أياً كان المسار الذي سوف تنتهي إليه مفاوضات فيينا، فإنها لن تتوانى عن الضغط من أجل إخراج القوات الأمريكية من المنطقة، لاسيما من العراق، على نحو يوحي بأن إيران، في عهد رئيسي، لن تتراجع عن إدارة العمليات التي تقوم بها الميليشيات الولائية العراقية ضد المصالح الأمريكية. وهنا، كان لافتاً أن حكومة روحاني، حسب تقارير عديدة، كان لها دور في الهدوء الحذر الذي ساد المشهد الأمني العراقي في الفترة الأخيرة، بالتوازي مع انعقاد مفاوضات فيينا، على نحو يوحي بأنها كانت تضغط من أجل عدم منح الفرصة للقوى المناوئة للاتفاق النووي من أجل عرقلة الوصول إلى صفقة جديدة في فيينا.
3- رسائل مضادة: قد يمعن الحرس الثوري، بدعم من الرئيس الجديد، في توجيه رسائل بأن الصفقة النووية لن تدفعه إلى التهدئة في ملفات أخرى. وهنا، فإن المرحلة الحالية التي لم تشهد إجراء إيران تجارب جديدة على الصواريخ الباليستية، بضغط من حكومة روحاني أيضاً، قد تنتهي في الفترة القادمة. وحتى لو نجحت مفاوضات فيينا، فإن الحرس والحكومة سوف يدعمان خيار تطوير البرنامج وإجراء تجارب جديدة من أجل الإيحاء بأن هذه الصفقة تنحصر فقط في الاتفاق النووي ولا تمتد إلى الملفات الأخرى. وبمعنى آخر، فإن الحرس الثوري سوف يسعى إلى تكرار ما قام به، بعد الوصول إلى الاتفاق النووي الحالي في 14 يوليو 2015، خاصة ما يتعلق بإحراج الإدارة الأمريكية، على نحو بدا جلياً في احتجاز البحارة الأمريكيين في 12 يناير 2016، والذي أثار عاصفة داخل الولايات المتحدة الأمريكية فرضت ضغوطاً قوية على إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما.
تراجع الازدواجية:
رغم ذلك، فإن هذا التوافق قد يفرض ضغوطاً قوية على إيران. إذ أن التباين الظاهري بين الحكومة والقوى الأخرى، لاسيما الحرس الثوري، كان يمنح إيران فرصاً عديدة، لاسيما في المفاوضات مع القوى الدولية، حيث كان لدى إيران هامش أوسع من حرية الحركة، حاولت استغلاله للحصول على أكبر قدر من العوائد وتقديم أقل مستوى من التنازلات.
وبدا ذلك جلياً في الاتفاق النووي الذي توصلت إليه إيران مع مجموعة "5+1" في 14 يوليو 2015، والذي تضمن مكاسب استراتيجية عديدة للأولى، لاسيما على صعيد الاحتفاظ بعمليات تخصيب اليورانيوم- حتى لو كان بمستوى منخفض- وفي الوقت نفسه رفع معظم العقوبات الدولية والأمريكية التي كانت مفروضة عليها.
من هنا، فإن إيران بهذا التوافق سوف تفقد قسماً يعتد به من هامش المناورة الذي كان متاحاً أمامها في الفترة الماضية، وهو ما سوف يتوازى مع استمرار التوتر والخلافات مع القوى الدولية حول العديد من الملفات الأخرى، وفي مقدمتها برنامج الصواريخ الباليستية والدور الإقليمي، إلى جانب ملف حقوق الإنسان الذي فرضت بمقتضاه واشنطن عقوبات على رئيسي نفسه، على نحو يعني في النهاية بأن التوتر سوف يبقى عنواناً بارزاً في العلاقات بين إيران والدول الغربية في عهد الرئيس الجديد حتى لو تم التوصل إلى صفقة محتملة في فيينا.