أشار الرئيس الأمريكي، جو بايدن، وفريقه إلى النهج الجديد الذي سيتبعه في الشرق الأوسط، وهو النهج القائم على إعطاء الأولوية للدبلوماسية كوسيلة في حل النزاعات. وبناءً عليه، كان من الطبيعي أن يصبح لبنان نتيجة لما تشهده البلاد من أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية، أحد أهم نماذج تطبيق نهج إدارة بايدن الجديد في سياسته الخارجية بالشرق الأوسط لضمان الاستقرار الإقليمي بالمنطقة.
يعاني لبنان، في الوقت الراهن، من الانهيار في عديد من القطاعات، الذي هو في الحقيقة نتاج أعوام من فشل السياسيين في تنفيذ الإصلاحات السياسية والاقتصادية الضرورية، وهو ما تجلى في الديون المتصاعدة، وانخفاض العملة، وارتفاع أسعار المواد الغذائية، وارتفاع نسب الفقر إلى أكثر من 50%، فضلاً عن التوترات الأمنية التي تفاقمت مؤخراً بعد حادث انفجار ميناء بيروت، 4 أغسطس/آب 2020، ناهيك عن استمرار جائحة فيروس “كورونا” والفشل في التعامل مع الإصابات المتزايدة باستمرار.
صحيح أن المسؤولية الرئيسية عن إنقاذ لبنان يجب أن تقع على عاتق اللبنانيين أنفسهم، وهو ما تجلى في قيام قطاع عريض من اللبنانيين بثورة مفتوحة، منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019، للمطالبة بتغيير فوري وأساسي؛ إلا أن الائتلاف الطائفي الحاكم، بدعم كبير من حزب الله، قاوم كل الدعوات للتغيير مع إغراق السكان في الفقر واليأس. وبناءً عليه، أصبحت هنالك حاجة ماسة إلى عمل دبلوماسي أمريكي مكثف بشأن لبنان لمنع المزيد من الانهيار الداخلي للبنان ولتعزيز سياسة بايدن في الشرق الأوسط.
لذلك، يجب أن ينصبّ تركيز الدبلوماسية الأمريكية المستهدفة في لبنان على دفع قادة لبنان للاستجابة للاحتياجات الأساسية والمتنامية لشعبهم، كما يجب ألا تتطلب مشاركة الولايات المتحدة قدراً كبيراً من الموارد الأمريكية والوقت والجهد، لذا سيتوجب على الولايات المتحدة أن تقوم بالتنسيق مع شركائها الأوروبيين والعرب لضمان تقاسم الأعباء الخاصة بحل الأزمة في لبنان.
ففي الوقت الذي تسعى الولايات المتحدة فيه إلى تحقيق مصالحها الخاصة بالأمن القومي، يمكنها أيضاً إظهار مبادئها لمساعدة الآخرين في الدفاع عن الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والسيادة الوطنية، والتحرر من حكم المليشيات المدعومة من الخارج. وحدها الولايات المتحدة لديها القدرة على قيادة جهد دبلوماسي دولي فعال لتجنب ظهور دولة أخرى فاشلة في المنطقة، ومساعدة اللبنانيين على نقل بلادهم بعيداً عن الانهيار وحكم المليشيات نحو مستقبل أكثر ديمقراطية واستقراراً.
في هذا السياق، أصدر معهد الشرق الأوسط بالتعاون مع فرقة العمل الأمريكية بشأن لبنان – ATFL والمديرين التنفيذيين الماليين الدوليين اللبنانيين – LIFE، تقريراً موجزاً بعنوان “6 خطوات رئيسية بالنسبة للدبلوماسية الأمريكية المستهدفة لاستقرار لبنان وتعزيز السياسة الخارجية الأمريكية”، لمناقشة الأزمات السياسية والاقتصادية في لبنان، مع طرح مجموعة من التوصيات الموجهة إلى إدارة بايدن لتشكيل تحالف دولي واسع لدعم الشعب اللبناني، وتعزيز قدرته على الترويج للتغيير الحقيقي في البلاد.
الدبلوماسية الوقائية
يُشير التقرير إلى ضرورة قيام الولايات المتحدة بحزمة من الاتصالات الدولية الجديدة والرفيعة المستوى لتنسيق نهج دبلوماسي فعال مع كل من الاتحاد الأوروبي ولا سيما فرنسا، والجهات الفاعلة الإقليمية الرئيسية في الشرق الأوسط، بما في ذلك دول مجلس التعاون الخليجي لفرض التكاليف وتقديم الحوافز، سواء المادية أو المعنوية لقادة لبنان لإجراء كافة الإصلاحات الفورية.
وعليه، سينصبّ التركيز الرئيسي لهذه المبادرة على تشكيل حكومة جديدة تتمتع بالمصداقية، حيث ستقوم بتنفيذ إصلاحات رئيسية في كافة القطاعات، مع العمل على المشاركة في محادثات فورية مع صندوق النقد الدولي والمجتمع الدولي لتوجيه لبنان نحو الانتعاش الاجتماعي والاقتصادي.
ليس هذا فحسب، فقد نوه التقرير إلى ضرورة أن يكون أحد المكونات الرئيسية للدبلوماسية الأمريكية هو إنشاء صندوق دولي جديد مع الشركاء الدوليين والإقليميين يتخطى في البداية المؤسسات الحكومية اللبنانية لتوفير شبكة أمان اجتماعية لدعم الشعب اللبناني، ومع ذلك حينما يتم تشكيل حكومة لبنانية جديدة والتي ستبدأ بالإصلاحات المالية والمصرفية، يجب التنسيق بينها وبين هذا الصندوق الدولي لضمان سير الدعم المادي المباشر لكافة أرجاء الدولة اللبنانية.
وبناءً عليه، سيؤدي النشر السريع لهذا الصندوق إلى تلبية الاحتياجات الملحة للأمن الغذائي اللبناني والاحتياجات الإنسانية، ومساعدة اللاجئين، وتمويل المجتمع المدني لدعم وتقديم الخدمات الأساسية للشعب اللبناني. أخيراً، يجب على الولايات المتحدة أيضاً تقديم مساعدة عاجلة للجامعات الأمريكية التاريخية في لبنان، كالجامعة الأمريكية في بيروت والجامعة اللبنانية الأمريكية.
إنعاش الاقتصاد
يُجادل التقرير بأهمية تسريع البرامج التحويلية من قبل المؤسسات المالية الدولية، كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والتي ستشجع على اعتماد وتنفيذ برامج إعادة الهيكلة المالية والمصرفية بشفافية ومصداقية داخل لبنان، وهو ما سيُساهم في استعادة بعض الثقة في القطاع المصرفي الممزق، واستقرار الليرة اللبنانية، ودعم الانتعاش الاقتصادي في جميع أنحاء البلاد، من خلال تمكين الشركات الصغيرة والمتوسطة، والاستثمارات الشفافة في القطاعات الإنتاجية، مع الخصخصة المنظمة للأعمال العامة والبنية التحتية، والتي ستعمل في نهاية المطاف على جذب المستثمرين والمنظمات الدولية ومشاركة القطاع الخاص اللبناني بشكل استباقي.
بناء الاستراتيجيات الأمنية
يُشير التقرير إلى ضرورة تعزيز الدبلوماسية الأمريكية باستراتيجية أمنية تحافظ على التعاون الوثيق مع القوات المسلحة اللبنانية لزيادة الاستقرار في البلاد. ومن ثم، ينبغي على اللجنة العسكرية المشتركة القائمة بين الجيش اللبناني والبنتاغون أن تناقش فكرة إنشاء صندوق طوارئ لمعالجة الأزمة المتفاقمة نتيجة للانهيار الاقتصادي في لبنان، والذي وضع ضغوطاً غير مسبوقة على عمليات الجيش اللبناني وموظفيه.
انطلاقاً من هذا، سيتوجب على الولايات المتحدة أن تنخرط مع شركائها في أوروبا ودول مجلس التعاون الخليجي لتقديم الدعم المالي الذي تشتد الحاجة إليه لدعم أسر القوات المسلحة اللبنانية، مع العمل على استئناف مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل.
الديمقراطية ومكافحة الفساد العالمي
لقد أشارت إدارة بايدن إلى التزام الولايات المتحدة بإعطاء الأولوية للديمقراطية وحقوق الإنسان في السياسة الخارجية الأمريكية، وبناءً عليه سيمثل لبنان حالة اختبار مهمة لهذا الالتزام، فبالإضافة إلى استخدام النفوذ الأمريكي بالتنسيق مع الحلفاء الأوروبيين لتحفيز القادة السياسيين اللبنانيين على اتخاذ إجراءات وسياسات بنّاءة، سينبغي على الولايات المتحدة العمل على تشجيع جهود منظمات المجتمع المدني لبناء رؤية وطنية فعّالة داخل لبنان. وهو ما سيتم من خلال قيام الولايات المتحدة والديمقراطيات الأخرى بتنسيق البرامج الملموسة التي ستوفر التشجيع والدعم للحركات المؤيدة للديمقراطية والإصلاح، وبناء قدرات الأفراد والمجتمع المدني لمعالجة الإصلاح الانتخابي، والتحضير للانتخابات، وحماية حقوق الإنسان.
وبناءً عليه، سيتوجب على الولايات المتحدة والمجتمع الدولي الإصرار على إجراء الانتخابات البرلمانية في موعدها، ربيع العام 2022، وجعلها شرطاً رئيسياً لإعادة المشاركة والدعم، هذا من جانب.
على الجانب الآخر، يجب وضع لبنان على أجندة إدارة بايدن التي تتعلق بمواجهة الفساد العالمي، وذلك بتحديد وتطبيق العقوبات والآليات الدولية على الكيانات والأفراد المتورطين في الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان والأنشطة الإرهابية بغض النظر عن الانتماءات السياسية أو الطائفية، كما يجب أن تعمل الولايات المتحدة مع الدول الأخرى لكشف ومنع التدفق غير المنظم للأموال غير المشروعة من لبنان، وأن تأخذ زمام المبادرة في الجهود الدولية لإعادة الأموال المسروقة إلى اللبنانيين.
ختاماً، إذا لم تتحرك الولايات المتحدة بخطوات سريعة وملموسة لحل الأزمة في لبنان، فسنصبح أمام دولة فاشلة بمجتمع مشتت ومقسم، ولا سيما مع عدم قدرة القيادة السياسية وعدم استعدادها لتبني الإصلاحات اللازمة لإطلاق المساعدات الدولية، وهو ما سيؤدي إلى عودة ظهور “داعش” و”القاعدة”، وتدفق أعداد كبيرة من اللاجئين اللبنانيين والسوريين إلى أوروبا، وزيادة توسع نفوذ حزب الله في البلاد.
المصدر : مركز سيتا