الت ورقة بحثية نشرها مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المستقبلية إن هناك مؤشرات تدل على تعاظم تأثير أعمال الصيانة والحماية والإنتاج والنقل والتصدير لمعدن الفوسفاط في تفاعلات داخل وبين دول الشرق الأوسط.
وأشارت الورقة إلى أن معدن الفوسفاط هو مورد اقتصادي له انعكاسات سياسية؛ منها رفض دعوى جبهة البوليساريو المقدمة للمحكمة العليا في نيوزيلاندا ضد واردات الفوسفاط المغربي، وعرقلة حركة الاحتجاج “المناطقي” لإنتاج الفوسفاط التونسي، وانطلاق مشروع تحويل الفوسفاط الجزائري في نهاية مارس 2021، وتعزيز جاذبية الفوسفاط السوري للاستثمارات المحلية والأجنبية للحد من تكلفة الاستيراد.
كما تتجلى الانعكاسات السياسية المرتبطة بهذا المعدن في استحواذ روسيا على التنقيب واستخراج الفوسفاط السوري وبعقود طويلة الأجل، وإعادة تأهيل منشآت الطاقة المتوقفة، وتقليص أحد مصادر تمويل تنظيم “داعش” من عائدات بيع الفوسفاط السوري، وتواصل نقل الفوسفاط السوري بواسطة الحرس الثوري عبر الحدود العراقية إلى إيران.
وبحسب الورقة البحثية، فإن هناك اتجاها رئيسيا في الكتابات يشير إلى محورية تأثير المعادن في التفاعلات الدولية والإقليمية، وإن كان يركز بشكل رئيسي على دور النفط والغاز كمحركين للاقتصاد العالمي، في حين تتجاهل الكتابات تأثير الفوسفاط، التي برزت أبعادها في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، وفي المغرب وتونس والجزائر وسوريا والعراق وإيران بشكل خاص.
الفوسفاط المغربي
من أبرز تجليات هذا التأثير رفض دعوى البوليساريو ضد واردات الفوسفاط المغربي، وهو ما قامت به المحكمة العليا في نيوزيلاندا في منتصف مارس الجاري ردا على الدعوى التي رفعتها جبهة البوليساريو ضد صندوق سيادي “نيوزلاندا سوبر فاند” بهدف توقيف واردات الفوسفاط القادمة من الصحراء المغربية، حيث اتهمت الصندوق بـ”الاستثمار في واردات الفوسفاط التي مصدرها أراضي محتلة في الصحراء”، وفقا لما أفادت به وكالة أنباء تابعة للجبهة، و”هو ما يتعين معه حماية الموارد الطبيعية بكل الوسائل المتاحة”.
وقد بررت المحكمة موقفها بأن الصندوق السيادي يتمتع بسلطة اتخاذ القرارات التي منحها له القانون، بما يعني في المقابل أنه ليس من صلاحية “جبهة البوليساريو” التدخل في قرارات الصندوق، الذي يعتبر أداة للادخار ويتبع الحكومة النيوزيلاندية؛ إذ تم استحداثه منذ سنوات لدعم معاشات التقاعد وتصل قيمة المبالغ المالية المتوافرة لديه أكثر من 44.5 مليار دولار. كما أن الصندوق يحظى بسمعة عالمية باعتباره عضوا في المنتدى العالمي للصناديق السيادية. ولعل قرار المحكمة العليا في نيوزيلاندا يمثل ضربة لجبهة البوليساريو.
احتجاج تونس
التجلي الثاني يظهر في الاحتجاجات والاعتصامات الاجتماعية والإضرابات العمالية التي شهدتها بعض المناطق التونسية، وخاصة في محافظة قفصة بالجنوب الغربي، والتي أدت إلى التأثير سلبا على قطاع الفوسفاط؛ إذ تسببت في وقف الإنتاج خلال السنوات العشر الماضية على نحو أفقد تونس ميزة التصدير للأسواق العالمية، وخاصة الآسيوية والأوروبية والأمريكية واللاتينية. هذا فضلا عن تعثر توسيع مجالات الاستكشاف واستغلال مناجم جديدة للفوسفاط على غرار الموجودة في منطقة صراورتان شمال غربي تونس.
وأشارت الورقة البحثية إلى “فشل الحكومات التونسية، سواء قبل الثورة أو بعدها، في إيجاد حلول مستدامة للتنمية والتشغيل في المناطق الطرفية، وبصفة خاصة في منطقة الحوض المنجمي التي تعرف بأوضاعها الاجتماعية الهشة وعدم القدرة على استيعاب مطالب المتعطلين عن العمل، الأمر الذي جعل مطالب التشغيل تتجه إلى شركة فوسفاط قفصة. وقد أدى ذلك إلى تأجيج الوضع الاجتماعي والشعور بالغبن من سكان تلك المناطق تجاه الدولة، وهو ما يهدد الثروة الوطنية المتعلقة بقطاع الفوسفاط نظرا للخسائر المالية الناتجة عن تعطل إنتاج هذا القطاع”.
مشروع جزائري
وفي الجارة الجزائر، أعلن محمد عرقاب، وزير المناجم، في تصريح صحافي بتاريخ 27 أكتوبر الماضي، عن انطلاق مشروع تحويل الفوسفاط في مختلف ربوع الوطن، نهاية مارس 2021؛ إذ إن الحكومة تتبنى استراتيجية جديدة للبحث عن الشراكة الأجنبية في مشروع تحويل الفوسفاط انطلاقا من منجم بلاد الحدبة في بئر العاتر جنوب تبسة، بالنظر لضخامة التمويل والبحث عن أسواق عالمية للتصدير، وهو ما يشير إلى تغير استراتيجية الحكومة خلال حكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة بتعزيز الشراكة مع الصين.
سوريا وروسيا
وفي سوريا، أطلقت وزارة النفط والثروة المعدنية خطة مرحلية خلال الفترة القادمة تتمثل في إحلال صناعات جديدة تعتمد على وجود الخامات الأساسية في الأراضي السورية، الأمر الذي يسهم في خفض فاتورة الاستيراد من ناحية وإعادة العمل في منشآت دمرها تنظيم “داعش” وتأهيلها على أسس جديدة من ناحية أخرى، خاصة في ظل الحصار العالمي المفروض على النظام السوري.
ويتمتع الفوسفاط السوري بمكانة محورية في الأسواق العالمية؛ إذ يعد الثاني بعد الفوسفاط المغربي الذي يحظى بمواصفات ممتازة، وهو ما يفسر مصادقة مجلس الشعب السوري في مارس 2018 على اتفاق بين المؤسسة الحكومية للجيولوجيا والثروة المعدنية وشركة “ستروي ترانس غاز” الروسية، أعطى الأخيرة حق الاستثمار مدة 50 سنة في مناجم تدمر-البادية السورية، أكبر المناجم في سوريا. وتحصل الشركة الروسية بموجب الاتفاق على 70 في المئة من الإنتاج، فيما تبلغ حصة النظام 30 في المئة مقابل تسديد قيمة أجور الأرض والتراخيص وأجور ونفقات إشراف المؤسسة والضرائب والرسوم الأخرى.
تسييس الفوسفاط
خلصت الورقة البحثية إلى أن معدن الفوسفاط يعبر عن تفاعلات جارية في الشرق الأوسط، سواء على صعيد التطورات الداخلية أو العلاقات الإقليمية أو التأثيرات الدولية، وهو ما برز جليا خلال الأعوام القليلة الماضية.
وذكر المركز البحثي أن عدم الاستقرار الحكومي في تونس واستمرار الاحتجاجات الفئوية أديا إلى عرقلة إنتاج الفوسفاط في جنوب البلاد؛ بحيث لم تعد تونس على خريطة الفاعلين الدوليين الرئيسيين، بل خسرت 6.7 مليارات دولار على مدى الأعوام الستة 2014-2020، على حد تعبير مروان العباسي، محافظ البنك المركزي التونسي، في تصريحات بتاريخ 7 فبراير 2020. وبناء عليه، صار الفوسفاط التونسي “ثروة مهدرة”.
كما أدى طول أمد الحرب في سوريا إلى التأثير على مكانة الفوسفاط السوري في الأسواق العالمية، وتعزيز هيمنة موسكو على قطاع الطاقة والفوسفاط على حساب طهران في الداخل السوري. ويعتبر الفوسفاط أيضا أحد الموارد الاقتصادية التي يعتمد عليها في مرحلة إعادة الإعمار بسوريا من حيث كونها مصدرا للدخل القومي من العملة الصعبة بعد التصدير، وتوفير فرص عمل عديدة. وعلاوة على ذلك، تراجعت سيطرة التنظيمات الإرهابية على مورد الفوسفاط في سوريا والعراق، في حين استمرت الهيمنة للمليشيات المسلحة والجيوش الموازية.
المصدر: هسبريس