أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. نيفين مسعد تكتب: (عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (بين موسكو والغرب: مستقبل جورجيا بعد فوز الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (هندسة الرد: عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (من المال إلى القوة الناعمة: الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا)

مركز سيتا:

رؤية أمريكية لمنع الفوضى في عالم متعدد الأقطاب

31 مارس، 2021


أضحى النظام الدولي يمر بمنعطف تاريخي هام، لا سيما مع استمرار الصعود الاقتصادي الآسيوي، والذي يقابله تراجع الهيمنة الغربية على العالم، في بعديها المادي والإيديولوجي، والذي كان من بين أسبابه التناقض الواضح في القيم الليبرالية الغربية وبروز التيار الشعبوي. في الوقت الذي تحاول فيه كل من الصين وروسيا استغلال هذا الموقف وخلق نموذج جديد يتحدى النموذج الغربي، سواء على المستوى الداخلي أو الدولي.

وعلى الرغم من المحاولات الجادة التي يبذلها الرئيس الأمريكي، جو بايدن، لإعادة بريق الديمقراطية الأمريكية واستعادة قيادة الولايات المتحدة للعالم، فإن هذه الجهود لن تفلح – غالباً – في تعطيل تحول هيكل النظام الدولي إلى عالم متعدد الأقطاب ومتنوع أيديولوجياً. ومن ثم فإن السؤال الذي يثور في هذا المقام هو: هل سيؤدي مثل هذا التغيير المضطرب في هيكل النظام الدولي إلى مخاطر وصراعات بين القوى الكبرى؟ لأنه من الملاحظ أن صراعات القوى العظمى على مسألة الهيمنة المادية والإيديولوجية دائماً ما تؤدي إلى اندلاع حروب كبرى. ولكن لتجنب هذه المسلمة، ينبغي أن يعترف الغرب بأن النظام الليبرالي الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية لا يمكن أن يُرسي الاستقرار المطلوب للنظام العالمي في القرن الـ 21، وهو ما يقتضي ضرورة البحث عن مسار جديد قابل للتطبيق.

وفي إطار الإجابة على هذا التساؤل طرح كل من ريتشارد هاس وتشارلز كوبشان في مقالهما المنشور في موقع مجلة “فورين أفيرز”، 23 مارس/آذار 2021، بعنوان “تحالف القوى الجديد: كيفية منع وقوع كارثة وتعزيز الاستقرار في عالم متعدد الأقطاب”، رؤية جديدة لهيكل النظام الدولي تنطلق من أن أفضل وسيلة لتعزيز الاستقرار العالمي في القرن الـ 21 هي الوفاق وخلق مساحات من التفاهم المشترك بين القوى الكبرى، وذلك من أجل تعزيز التعاون الدولي، وكبح جماح المنافسة الجيو – سياسية والإيديولوجية، والتي عادة ما تصاحب التعددية القطبية.

فمن خلال توفير وسيلة لإجراء حوار استراتيجي حقيقي ومستدام، يمكن للوفاق العالمي أن يدير الاختلافات الجيو – سياسية والإيديولوجية في سبيل الحفاظ على المصالح المشتركة والمتنافسة، وذلك لأن الوفاق هو بمثابة تحالف مرن على عكس سلوك القوى الكبرى داخل مجلس الأمن، والذي دوماً ما يصاب بالشلل التام بسبب الإسراف في استعمال حق الفيتو.

ويمكن القول إن الهدف الرئيسي من الوفاق الجديد ذي الطابع الاستشاري، هو التصدي للأزمات الناشئة والتداول حول مسألة إصلاح المؤسسات القائمة، وصياغة قواعد جديدة تتواءم مع التغير القائم، مع ترك المسائل التشغيلية مثل نشر بعثات حفظ السلام، والقيام بأعمال الإغاثة، وإبرام اتفاقيات دولية جديدة خاصة بالمناخ للأمم المتحدة والمنظمات المعنية الأخرى، وقد يكون ذلك مهماً في ظل ما تعانيه الأمم المتحدة من أزمات بيروقراطية وهيكلية. فالحفاظ على السلام في عالم متعدد الأقطاب، أصبح يتطلب الاتفاق أو الإجماع على القواعد الدولية التي ستحكم النظام الدولي، وقبول كل من الحكومات الليبرالية وغير الليبرالية كحكومات شرعية، وتعزيز عملية المشاركة في إدارة الأزمات الدولية.

وفاق دولي جديد

من الواضح أن هذا الوفاق سيتكون من 6 أعضاء: الصين، والاتحاد الأوروبي، والهند، واليابان، وروسيا، والولايات المتحدة الأمريكية، وستمثل الدول فيه على قدم المساواة، وسيكون له ثقل كبير، لا سيما وأن أعضاءه سيسيطرون على أكثر من 70% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي والإنفاق العسكري العالمي كذلك، وهو ما سيمنحه نفوذاً جيو – سياسياً كبيراً. كذلك، سيكون هناك تمثيل دائم في مقر الوفاق الدولي لأربع منظمات إقليمية: الاتحاد الإفريقي، وجامعة الدول العربية، ومنظمة الدول الأمريكية، ورابطة الآسيان، وذلك لتمثيل هذه المناطق والمشاركة في تشكيل جدول الأعمال، إلى جانب المشاركة في مناقشة القضايا التي تؤثر على هذه المناطق.

وسيعتمد الوفاق العالمي على الحوار لبناء توافق في الآراء بدلاً من القواعد المقننة، وسيحترم الوضع الإقليمي الراهن وتصورات السيادة؛ وبالتالي، سيمتنع عن استخدام القوة العسكرية أو غيرها من التدابير القسرية لتغيير الحدود القائمة أو إسقاط الأنظمة، ولن يستخدم هذه القوة إلا في حال توافر الإجماع الدولي على ذلك. كما سيوفر الوفاق مكاناً مثالياً لمناقشة قضية تأثير العولمة على السيادة، ومن ثم الحاجة إلى حجب الحصانة السيادية عن الدولة في حالة ارتكاب أنشطة، مثل: الإبادة الجماعية، وإيواء ورعاية الإرهابيين، أو التدمير المتعمد للغابات بما يؤدي إلى تفاقم مشكلة تغير المناخ.

ولكن في ظل هذا النظام الجديد، قد يكون الخلاف أمراً لا مفر منه، سيما في ظل استمرار مخاوف القوى العظمى بشأن مسائل الأمن واستمرارية النظام، بل وموقع كل منها في هيكل النظام الدولي (مسألة التسلسل الهرمي للقوة). ومن ثم، قد تحتفظ هذه الأطراف بالحق في اتخاذ إجراءات آحادية الجانب أو في ظل ائتلاف، عندما تتعرض مصالحهم الحيوية لتحديات حقيقية. ومع ذلك، قد يؤدي الحوار الاستراتيجي المباشر إلى التقليل أو الحد من هذه الإجراءات. ومثال ذلك، أن التشاور المفتوح بين واشنطن وموسكو بشأن توسع حلف الناتو أدى إلى تقليل الاحتكاك فيما بينهما؛ وبالتالي، سيغدو من الأفضل أن تتواصل كل من الصين والولايات المتحدة لتسوية القضايا العالقة كأزمة تايوان، بدلاً من التصعيد المتبادل في مضيق تايوان، والذي قد يؤدي إلى إحداث توترات عسكرية خطيرة.

وحقيق التنويه إلى أن الوفاق الجديد سيعطي مساحة واسعة لأعضائه لمناقشة المسائل المتعلقة بالديمقراطية والحقوق السياسية، دون أن يعيق ذلك – بطبيعة الحال – التعاون الدولي، إذ سيعمل الوفاق على خلق فهم مشترك لما قد يشكل تدخلاً غير مقبول في الشؤون الداخلية للدول.

تقليص التوقعات

من المسلم به أن تشكيل الوفاق العالمي الجديد سيشكل انتكاسة للمشروع الليبرالي الذي أطلقته الدول الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، لأنه سيترتب عليه تقليص التوقعات في ضوء الحقائق الجيو – سياسية للقرن الـ 21.


فبُنية النظام الدولي – على سبيل المثال – سوف تتراوح ما بين الثنائية القطبية وتعددية الأقطاب. وسوف تتمثل الثنائية القطبية في الصراع والتنافس الأمريكي – الصيني. ولكن لن تشمل المنافسة الإيديولوجية والسياسية بينهما دول العالم مثلما حدث إبان الحرب الباردة، إذ من المرجح أن يلعب الاتحاد الأوروبي وروسيا والهند، فضلاً عن دول كبيرة مثل البرازيل وإندونيسيا ونيجيريا وتركيا وجنوب إفريقيا، دوراً في تحقيق التجاوب بين القوتين العظميين، بل والحفاظ على قدر كبير من الاستقلالية. ومن المرجح – كذلك – أن تقلل الصين والولايات المتحدة من تدخلاتهما في المناطق غير المستقرة في العالم، أو قليلة الأهمية من الناحية الاستراتيجية. فالصين لطالما حافظت على مسافة سياسية بينها وبين مناطق الصراع البعيدة، وهو الأمر الذي تداركته الولايات المتحدة مؤخراً عندما شرعت في الانسحاب من الشرق الأوسط وإفريقيا؛ وبالتالي، سيشبه النظام الدولي في القرن الـ 21 النظام الأوروبي في القرن الـ 19 “الوفاق الأوروبي”، الذي كانت تحكمه قوتان رئيسيتان: المملكة المتحدة وروسيا؛ وثلاث قوى أقل مرتبة: فرنسا، وبروسيا، والنمسا. وكان هدفه الرئيسي هو الحفاظ على السلام بين أعضائه من خلال الالتزام المتبادل بدعم التسوية الإقليمية التي تم التوصل إليها في مؤتمر فيينا العام 1815. والاعتماد – كذلك – على حسن النية والشعور المشترك بالالتزام من أجل إدارة الاختلاف بعقلانية لعدم تعريض التضامن الجماعي للخطر.

لذلك، سيمثل الوفاق الدولي الجديد فرصة مواتية لتعزيز الاستقرار العالمي وسط تعددية قطبية متنوعة الإيديولوجيات، حيث سيسمح له الطابع غير الرسمي بالتكيف مع الظروف المتغيرة، مثل صعود الشعبوية والقومية. ففي مثل هذه الظروف، تفضل القوى الكبرى التجمعات الانسيابية والمرونة الدبلوماسية على الالتزامات والصيغ الثابتة. وليس من قبيل المصادفة أن الدول الكبرى كانت قد لجأت بالفعل إلى مثل هذه التجمعات المرنة، أو ما يُسمى بمجموعات الاتصال لمواجهة التحديات الصعبة، ومثال ذلك المحادثات السداسية حول البرنامج النووي لكوريا الشمالية، ومجموعة 5+1 الخاص بالتفاوض مع إيران حول برنامجها النووي، ومجموعة نورماندي التي كانت تسعى إلى حل دبلوماسي للصراع في شرق أوكرانيا. وبناءً عليه، يمكن القول إن الوفاق عبارة عن مجموعة اتصال دائمة ذات نطاق عالمي.

كما تبرز الحاجة إلى مثل هذا الوفاق، لا سيما في ظل أوجه القصور الواضحة في الهيكل الحالي للنظام الدولي، والذي يعكس تصاعداً في التنافس بين الصين والولايات المتحدة، والذي يعاني من تحديات صعبة مثل جائحة “كورونا” المدمرة وشبح تغير المناخ والتطور غير المسبوق للفضاء الإلكتروني.

فهذه التحديات وغيرها تعني أن التمسك بالوضع الراهن والاعتماد على المؤسسات والقواعد الدولية القائمة سيكون أمراً ساذجاً، بل وخطيراً. لذا، فقد أضحى لزاماً على القوى الكبرى أن تتقيد بهذا الوفاق من أجل إدارة عالم متكامل لم يعد يخضع لهيمنة أحد.

نقص البدائل

إن البدائل المطروحة للوفاق العالمي لا تخلو من نقاط الضعف. فالأمم المتحدة وإن كانت ستظل منتدى عالمياً أساسياً، إلا أن سجلها الحافل يوضح مدى القيود المفروضة على عملها. فالأداة الرئيسية للمنظمة –مجلس الأمن – تقف عاجزة أمام التصدي لأي أزمة بسبب حق الفيتو، والذي وإن كان يناسب عالم 1945، إلا أنه لم يعد كذلك. كما أن عملية توسيع العضوية في مجلس الأمن إذا نجحت في التكيف مع التوزيع الجديد للقوة، إلا أنها ستجعل المنظمة أقل فعالية مما هي عليه. لذا، سيكون من المفيد للمنظمة أن تستمر في أداء وظائفها المختلفة، بما في ذلك توفير الإغاثة الإنسانية وحفظ السلام، لأنها لن تستطيع أن ترسي دعائم الاستقرار العالمي في القرن الـ 21.

فضلاً عن أن السيطرة الأآحادية الأمريكية قد انتهت، حتى لو استعادت الديمقراطيات الغربية التزامها بالمثل الليبرالية والجمهورية، فلن يكون لديها ببساطة القوة المادية أو الأدوات السياسية اللازمة للترويج للنظام الليبرالي الدولي. كذلك، لا يمكن أن تكون هناك قيادة مشتركة للعالم بين الصين والولايات المتحدة، فحتى لو تمكنت الدولتان من إيجاد طريقة لكبح جماح تنافسهما المتصاعد؛ فإن الكثير من بقاع العالم ستبقى خارج نطاق سيطرتهما المباشرة.

كما أن التكهن بالاستقرار العالمي القائم على التعاون بين واشنطن وبكين ليس رهاناً آمناً، حيث سيكون لديهما ما يكفي من المشكلات في إدارة علاقاتهما المتبادلة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ؛ وبالتالي، سيكونان في حاجة ماسة إلى تلقي الدعم والمساعدة من الآخرين. ثم إن هذه القيادة المشتركة ستؤدي إلى توزيع مناطق النفوذ بين الدولتين في العالم، مما يشجع الميول التوسعية، ويزيد من احتمالية التنافس والانقسام الاقتصادي وانتشار الأسلحة والصراع الإقليمي. وهو الأمر الذي يهدف الوفاق العالمي إلى تجنبه.

علاوة على أن فرضية السلام الصيني لا تقدم بديلاً مناسباً هي الأخرى. فلن يكون لدى الصين القدرة ولا الطموح لإرساء دعائم نظام عالمي جديد على الأقل في الوقت الحالي، إذ تقتصر طموحاتها الجيو – سياسية الأساسية على منطقة آسيا والمحيط الهادئ. فإذا كانت الصين تسعى إلى توسيع نفوذها التجاري من خلال مبادرة “الحزام والطريق”، وهي خطوة ستعزز من نفوذها الاقتصادي والسياسي؛ إلا أنها لم تُظهر استعدادها بعد لتوفير السلع العامة العالمية، وبدلاً من ذلك اتبعت نهجاً تجارياً قائماً على المشاركة في معظم أنحاء العالم. بالإضافة إلى أنها لم تسعَ إلى تصدير آرائها حول الحكم الداخلي إلى الدول الأخرى، كما لم تسعَ إلى تشكيل قواعد جديدة لترسيخ الاستقرار العالمي. والأحرى من ذلك، لن يكون النموذج الصيني مقبولاً للأمريكيين أو للعديد من الشعوب الأخرى التي ما زالت تطمح إلى دعم المبادئ الليبرالية.

التنظيم المتوقّع

من شأن إقامة وفاق عالمي تعزيز الاستقرار الدولي من خلال التفاوض والتشاور المستمر. ولهذا، يجب أن يجتمع ممثلو الأعضاء الدائمين بشكل منتظم، على أن يدعمهم مجموعة من الموظفين وأمانة صغيرة مؤهلة تأهيلاً عالياً. ولتغطية كافة مناطق العالم ستمثل منظمات الاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية ومنظمة الآسيان ومنظمة الدول الأمريكية في الوفاق. وسوف تنعقد القمم وفقاً لجدول زمني منتظم. وستتم دعوة رؤساء المنظمات السابقة لمؤتمرات قمة الوفاق حسب الحاجة إلى جانب الدول المعنية، لمعالجة الأزمات. وستتناوب الدول الأعضاء الست على رئاسة الوفاق العالمي بصورة سنوية. أما عن المقر، فلن يكون موجوداً في أي من الدول الأعضاء، حيث تشمل المقترحات جنيف وسنغافورة. وعلى النقيض من مجلس الأمن، فإن الأعضاء الدائمين في الوفاق لن يمتلكوا حق الفيتو، وإنما سيكون العمل قائماً على تحقيق التنسيق والتوافق في الآراء.

وسيعمل الوفاق بالأساس على الحفاظ على الوضع الإقليمي الراهن، والوقوف حائلاً أمام محاولات تغييره أو قلبه. ولكن إذا ظهرت دولة معتدية تهدد مصالح الأعضاء الآخرين، فسيتم طردها من المجموعة، وحشد كافة الأعضاء لمواجهتها. 

ومن أجل تعزيز تضامن القوى العظمى، يجب أن يركز الوفاق على مسألتين أساسيتين؛ الأولى، تشجيع احترام الحدود القائمة ومقاومة التغييرات الإقليمية من خلال الإكراه أو استخدام القوة؛ وبالتالي، سيتعامل مع ادّعاءات إعمال الحق في تقرير المصير بحذر شديد، وإن كان الأعضاء سيحتفظون بالحق بالاعتراف بالدول الجديدة على النحو الذي يرونه مناسباً. كما سيتعامل الوفاق مع الدول الفاشلة أو تلك التي تنتهك بشكل منهجي حقوق الإنسان أو أحكام القانون الدولي المقبولة على نطاق واسع بشكل منفصل أو على أساس كل حالة على حدة. الثانية، محاولة توليد استجابات جماعية للتحديات والأزمات العالمية، وذلك من خلال تعزيز الدبلوماسية وتحفيز المبادرة المشتركة وإسناد التنفيذ إلى المنظمة المناسبة مثل الأمم المتحدة عند القيام بعمليات حفظ السلام، أو صندوق النقد الدولي عند تقديم الائتمان في حالات الطوارئ، أو منظمة الصحة العالمية عند اتخاذ إجراءات تخص الصحة العامة.

كما سيستثمر الوفاق في جهد طويل الأجل لتكييف القواعد والمؤسسات الحالية مع التغيير العالمي، وسيناقش أفضل السبل لتعديل القواعد والممارسات الدولية من أجل التناغم مع العالم الجديد المترابط. وفي هذا الصدد، من الممكن أن يساهم الوفاق في مواجهة انتشار أسلحة الدمار الشامل، ومعالجة البرنامج النووي لكل من إيران وكوريا الشمالية. أضف إلى ذلك، أن الوفاق سيكون مكاناً مناسباً لمعالجة قضية تغير المناخ، من خلال وضع أهداف جديدة لتقليل غازات الاحتباس الحراري واعتماد معايير جديدة للتنمية الخضراء، لا سيما وأن أكبر الدول المسببة لهذه الانبعاثات (الصين، والولايات المتحدة، والهند، واليابان، وروسيا، والاتحاد الأوروبي) ممثلة بصفة دائمة في المجموعة، وهي مسؤولة عن 65% من الانبعاثات العالمية. وكذلك الأمر بالنسبة لمواجهة جائحة “كورونا”.

حتى إن الوفاق سيكون وسيلة مفيدة لصياغة قواعد لإدارة الابتكار التكنولوجي، والأمن السيبراني، وشبكات الجيل الخامس، ووسائل التواصل الاجتماعي، والعملات الافتراضية، والذكاء الاصطناعي. ولتحقيق هذه الأهداف ولإخماد الخصومات ودرء الصراعات المحتملة يجب أن يقوم هذا التضامن على ضبط النفس والحياد بدلاً من التدخل، والاستفادة في ذلك من خبرة الوفاق الأوروبي.

ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: كيف يمكن لوفاق عالمي من هذا النوع أن ينفذ هذه التدابير المفيدة في عالم اليوم؟ في هذا السياق، يمكن القول إن الوفاق كان بإمكانه – على سبيل المثال – تنسيق الجهود للقيام بتدخل مشترك لوقف الحرب الأهلية في سوريا، العام 2011، أو كان من الممكن أن يوفر مكاناً مناسباً للجهود الدبلوماسية اللازمة لإنشاء منطقة عازلة أو منزوعة السلاح في شمال سوريا؛ وبالتالي، تجنب القتال والمعاناة الإنسانية التي أعقبت الانسحاب الأمريكي المفاجئ، وهجمات النظام المتزايدة والمكثفة على محافظة إدلب.

عقبات على الطريق

هناك عدد من الاعتراضات على الاقتراح المتعلق بإنشاء الوفاق العالمي. أحد هذه الاعتراضات هو ذلك المنصب على مسألة العضوية المتوخاة، خاصة فيما يتعلق بعضوية الاتحاد الأوروبي، إذ من المستغرب ألا تكون الدول الأوروبية الأقوى ممثلة في عضوية الوفاق، مثل ألمانيا.

في الواقع، هذا الاعتراض مردود عليه بالقول بأن الثقل الجيو – سياسي لأوروبا يأتي من قوتها الكلية، وليس من قوة الأعضاء المنفردة. فالناتج المحلي الإجمالي لألمانيا يبلغ حوالي 4 تريليونات دولار، وإنفاقها العسكري حوالي 40 مليار دولار، في حين يبلغ الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي حوالي 19 تريليون دولار، ويقترب إنفاقه العسكري من 300 مليار دولار. كما أن عضوية الاتحاد الأوروبي في الوفاق ستخلق حافزاً قوياً للمملكة المتحدة والاتحاد ذاته للتنسيق في السياسات الخارجية والأمنية، على الرغم من انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد.

وقد يشكك البعض – كذلك – في عضوية روسيا، لأنها تحتل مراكز متأخرة في تصنيف الدول من حيث ناتجها المحلي الإجمالي، إذ تأتي خلف البرازيل وكندا. ولكن، روسيا قوة نووية كبرى ولها وزن لا يستهان به على المسرح العالمي. فعلاقاتها مع الصين والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ستؤثر بشدة في الجغرافيا السياسية للقرن الـ 21، ناهيك عن تمدد نفوذها في الشرق الأوسط وإفريقيا.

والحقيقة، سوف يعتمد الوفاق على حصر العضوية في الجهات الفاعلة والأكثر تأثيراً وأهمية على الساحة الدولية، وذلك من أجل تسهيل التعاون وتحقيق الفعالية المطلوبة. ولهذا، فإن تمثيل المنظمات الإقليمية الأربع السابقة الدائم في الوفاق سيكون بصدد حضور الاجتماعات التي تكون فيها القضايا ذات الصلة المباشرة بهم قيد المناقشة فقط. كما ستظل الدول غير الممثلة في المجموعة قادرة على ممارسة نفوذها في الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية الأخرى. والأهم، أن الوفاق سيحظى بالمرونة اللازمة لتغيير عضويته بمرور الوقت، إذا توافر الإجماع على ذلك.

وأحد الاعتراضات الأخرى – أيضاً – هي تلك المتعلقة بأن الوفاق سوف يؤدي إلى تشكيل مناطق للنفوذ تخضع للقوى العظمى على غرار الوفاق الأوروبي في القرن الـ 19، ولكن هذا التخوف أو الاعتراض ليس في حقيقته كذلك، إذ لن يشجع الوفاق مثل هذه الظاهرة، بل على العكس سيعزز من مبادرات التكامل الإقليمي، وسيشجع على ضبط النفس. كما سيعمل على تعزيز التشاور بين القوى العظمى والإدارة المشتركة للقضايا الإقليمية الخلافية، من أجل تسهيل التنسيق العالمي في ضوء الاعتراف بسلطة ومسؤولية الهيئات الإقليمية.

وإلى جانب ما سبق، يزعم البعض أن الوفاق الجديد سوف يتمحور بدرجة كبيرة حول الدولة ذات السيادة. ولكن هذا اعتقاد خاطئ، فذلك الأمر إن كان مناسباً لوفاق أوروبا، إلا أنه لا يصلح لعالم اليوم الذي تنشط فيه الحركات الاجتماعية والمنظمات غير الحكومية والشركات والجهات الفاعلة الأخرى؛ وبالتالي، أضحى تمكينهم أمراً منطقياً، وهو ما يفرض على الوفاق الجديد أن يعمل على تمثيل هذه الجهات في مناقشاته عند الاقتضاء، مثل شركة “غوغل” مثلاً عند مناقشة الحوكمة الرقمية. فالغرض من الوفاق هو دمج مساهمة هذه الجهات الفاعلة في الحوكمة العالمية، لا أن يحل محلها.

وأخيراً، من بين الاعتراضات – كذلك – ذلك المتعلق بإضفاء الطابع المؤسسي على الوفاق على الرغم من مرونته وكونه إطاراً غير رسمي، وعدم الحاجة إليه في ظل وجود مجموعتي الـ 7 والـ 20. أما عن إضفاء الطابع المؤسسي على الوفاق، فتبرز الحاجة إليه لتحقيق الفعالية المطلوبة: فالاجتماعات المنتظمة للأعضاء الـ 6، والعمل اليومي للأمانة، وحضور الوفود من جميع المناطق الرئيسية، والقمم العادية والطارئة، هذه الأمور ستمنح الوفاق العالمي الدوام والسلطة والشرعية. وستنبع أهمية الأمانة الدائمة من توفير الخبرة والحوار الدائم والمنظور طويل الأجل لمعالجة القضايا غير التقليدية، مثل الأمن السيبراني والصحة العالمية. كما يوفّر الهيكل الدائم وسيلة جاهزة للاستجابة للأزمات غير المتوقعة. فقد كان من الممكن احتواء جائحة كورونا بشكل أفضل لو كان الوفاق العالمي قادراً على تنسيق استجابة عالمية عاجلة.

وأما عن عدم الحاجة إلى هذا الوفاق في ظل وجود مجموعتي الـ 7 والـ 20، يمكن القول إن الوفاق العالمي بخصائصه السابقة ستكون لديه القدرة على أن يحل محل مجموعتي الـ 7 والـ 20. فمن المرجّح أن تركز الولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي طاقتها على الهيئة الجديدة، مما قد يترك مجموعة الـ 7 في حالة ضمور. وإذا حقق الوفاق مكانة عالمية رائدة من خلال تنسيق السياسات المختلفة فستفقد مجموعة الـ 20 أسباب وجودها، حتى في ظل استياء دول مثل البرازيل وإندونيسيا والسعودية وجنوب إفريقيا وتركيا من حدوث ذلك.

لا بديل عن الوفاق

في الحقيقة لن يكون إنشاء الوفاق العالمي حلاً سحرياً للقضاء على المشكلات العالمية، فخبرة الوفاق الأوروبي تكشف عن تحقيق نتائج سلبية، فعلى الرغم من حفاظ هذا الوفاق على السلام في أوروبا لعقود، إلا أنه لم يمنع من اندلاع حرب القرم بين روسيا وفرنسا والمملكة المتحدة في نهاية المطاف. وهو ما يحدث الآن، فروسيا في نزاع مع جيرانها الأوروبيين حول منطقة القرم، وهذا ما يؤكد الطبيعة المراوغة لتضامن القوى العظمى، والذي أفشل جهود التسوية التي قام بها تجمع “نورماندي” الذي ضم فرنسا وروسيا وألمانيا وأوكرانيا، وهو تجمع أشبه بفكرة الوفاق العالمي.


المصدر : مركز سيتا