أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

إنذار خطر:

هل تستطيع القوى العظمى منع الحرب العالمية القادمة؟

29 يوليو، 2024


عرض: عبدالمنعم علي

شكَّل سقوط حائط برلين عام 1989 وانهيار الاتحاد السوفيتي محطة فاصلة اعتبرها الكثيرون، وفي مقدمتهم فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ، لكن تلك الرؤية تبدّلت مع بداية الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022؛ إذ عاد السياق الصراعي بين القوى العظمى مرة أخرى إلى حالة تقترب نسبياً من تلك التي كانت موجودة في عام 1939؛ أي قبيل نشوب الحرب العالمية الثانية. 

ويفرض هذا الصراع المتصاعد تساؤلاً حول ما إذا كانت كل من القوى الغربية وروسيا والصين لديها القدرة على منع نشوب حرب عالمية محتملة، وهو ما تطرّق إليه الكاتب جيم سيوتو في كتابه تحت عنوان "عودة القوى العظمى روسيا والصين والحرب العالمية القادمة"؛ إذ تناول التطورات المختلفة التي يشهدها العالم في الفترة الأخيرة وتغير النظام العالمي، الذي تم بناؤه لعقود من الزمن من جانب القوى الغربية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، عقب صعود كل من روسيا والصين.

نظام عالمي جديد: 

بعد الحرب العالمية الثانية، انحدر العالم إلى حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي؛ إذ كان هناك قدر من الحفاظ النسبي على السلام، وعندما انهار الاتحاد السوفيتي احتفل كثيرون بنهاية التاريخ، وهو ما لبث وأن عاد في الوقت الحالي مع الصعود الروسي والصيني الذي ينذر بنشوء نظام عالمي جديد يتسم بالآتي:

- تعقّد الصراعات: إن التنافس بين القوى العظمى الثلاث يعزز تعقيد الصراعات وإطالة أمدها، ويزيد من فجوة التفاعل الدبلوماسي والاقتصادي وتراجع الاتصالات العسكرية؛ وهو ما يؤدي إلى تضاؤل حواجز الحماية والقنوات الدبلوماسية والعسكرية التي تم تطويرها خلال الحرب الباردة الأخيرة؛ إذ تُعد قنوات الاتصالات المختلفة أبرز أدوات إدارة الأزمات.

- سباق التسلح: تسعى القوى العظمى إلى تعزيز ترسانتها النووية والفئات الجديدة من الأسلحة؛ مما جمد بعض المعاهدات التي تنظم هذه الأسلحة، والتي جاءت نتيجة أزمة الصواريخ الكوبية، عندما كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على وشك الانزلاق إلى حرب نووية؛ الأمر الذي دفع تلك القوى إلى بناء قواعد للتفاعل ومعاهدات متعددة الأطراف لتجنب خطر الانزلاق في صراع مباشر مسلح. 

- سياسات الاستقطاب: هناك مساعٍ من جانب القوى العظمى الراهنة لاجتذاب القوى المتوسطة والفاعلة في الدوائر الإقليمية والدولية؛ لتعظيم الاستفادة منها في ضوء الصراعات المفتوحة الراهنة؛ إذ أدت عودة القوى العظمى إلى قلب النظام العالمي في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة رأساً على عقب، واستبدلته بنظام جديد أقل استقراراً. 

تعدد جبهات التصعيد:

تواجه الولايات المتحدة جانبين من التصعيد سواء على صعيد الدائرة الأوروبية وخاصةً في أوكرانيا، أم في جنوب شرق آسيا وتحديداً في مضيق تايوان، وما يزيد الأمر سوءاً هو أن الاستخبارات الأمريكية لا تزال تعاني فشلها في توقع الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم في عام 2014. والذي سبقه التقييم الخاطئ الذي أجرته وكالة الاستخبارات المركزية في عام 2003 لبرنامج أسلحة الدمار الشامل في العراق؛ إذ يمكن القول إن هناك مسارين للضغط على المصالح الأمريكية يمكن توضيحهما في الآتي:

- الغزو الروسي لأوكرانيا: لم يكن الصراع الروسي الأوكراني وليد عام 2022، لكن كانت هناك تحركات قامت بها روسيا في عام 2014 في شرق أوروبا ومنها السيطرة على جزيرة القرم، لكن في أوائل عام 2022 كانت المعلومات الاستخباراتية الأمريكية وكذلك البريطانية تشير إلى أن هناك غزواً عسكرياً روسياً محتملاً لأوكرانيا، خاصةً في ظل حشد موسكو ما يقرب من 75% من قواتها التقليدية المتمركزة ضد أوكرانيا، وشمل ذلك حوالي 120 من إجمالي 160 كتيبة تكتيكية روسية، وقد اتبعت موسكو تكتيك الحشد والتعبئة العسكرية لشن حرب خاطفة يتم من خلالها شن ضربات جوية يتبعها هجوم بري واسع، لإحداث سيطرة شاملة على أوكرانيا وإزالة واستبدال قادتها، وجعل أوكرانيا قطعة في لعبة الشطرنج الجيوسياسية بين الولايات المتحدة وروسيا.

- سيادة الصين على تايوان: مع قيام الولايات المتحدة بتقييم الاستعدادات الروسية والتخطيط لغزو أوكرانيا، لاح في الأفق تهديد آخر في جنوب شرق آسيا؛ في ضوء مساعي بكين للاستيلاء على تايوان بالقوة باعتبارها جزءاً شرعياً من سيادة الصين؛ إذ كانت "إعادة التوحيد" طموحاً أعرب عنه الرئيس الصيني شي جين بينج منذ فترة طويلة. وكان السيناريو الأكثر خطراً هو أن كلاً من روسيا والصين تقرران التحرك في نفس الوقت، واغتنام الصين فرصة الغزو الروسي "الحرب الخاطفة" لأوكرانيا بمماثلة هذا السيناريو من جانبها ضد تايوان.

تجربة تكتيكات الحرب: 

ثمة خط متنامٍ من جانب روسيا لإعادة السيطرة والتنافس مع الغرب وحلف "الناتو" على وجه الخصوص، تجلى ذلك عبر توظيف الإعلام والنخبة الفكرية وحشد الأوساط الأكاديمية والبيروقراطية لدعم خطط التوسع الخارجي، خاصة في إطار ملف أوكرانيا، التي تم التسويق الإعلامي بأنها كانت وستظل دائماً جزءاً من روسيا، وأن الشعب الأوكراني جزء من الشعب الروسي.

واتصالاً بذلك؛ فقد أثبتت الحرب في أوكرانيا أنها مختبر حقيقي للحرب الحديثة، جمعت بين تكتيكات وأسلحة قديمة وجديدة، وأصبحت أيضاً مجالاً لتجربة حقيقية في حرب القوى العظمى؛ إذ بيّنت تلك الحرب تبدّلات المواقف الميدانية وتكتيكات الحرب سواء على صعيد أوكرانيا والغرب الداعم لها، أم على صعيد القوات الروسية. إن حالة التنسيق والتعاون الغربي (الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو) مع أوكرانيا في سياق حربها ضد روسيا؛ من شأنها أن تعيد صياغة موازين القوى، في ضوء ما تكشّف عن تلك الحرب من أبعاد كالتالي: 

- تحولات استراتيجية: من الناحية الاستراتيجية أدت الحرب إلى تفاقم مبررات روسيا المعلنة للغزو والمتعلقة بحتمية تقليص وجود حلف شمال الأطلسي وإزالة البنية الأساسية العسكرية من الحلفاء الذين انضموا منذ عام 1997، وعدم قبول عضوية أوكرانيا؛ إذ جاءت الحرب لتفرض واقعاً مغايراً للتخوفات الروسية؛ إذ إن المزيد من قوات "الناتو" قد تم نشرها في الجزء الشرقي من الحلف، علاوة على توسع عضوية الحلف بانضمام فنلندا والسويد، وباتت أوكرانيا أقرب إلى عضوية "الناتو".

- فشل تحقيق الأهداف: واحدة من بين أبعاد الحرب في أوكرانيا؛ هو فشل روسيا في تنفيذ أية عملية برية في المستقبل المنظور، إثر الخسائر المدمرة من الناحية الإنسانية البحتة؛ إذ قدّرت خسائر روسيا في مايو 2023 بسقوط ما بين 40 إلى 55 ألف جندي وإصابة نحو 78 ألف جندي روسي تركوا الخدمة العسكرية.

- خلل في عمليات التسليح: كشفت الحرب الروسية الأوكرانية عن أوجه قصور عميقة في سلسلة توريد التسليح في ضوء تركيز القادة الغربيين في أعقاب الحرب العالمية الثانية على صناعة السلام بدلاً من تنشيط وتعزيز قدراتهم العسكرية؛ وهذا الأمر بات ضرورياً؛ إذ تزايدت سياسات تطوير الجيوش وزيادة الاستثمار في الدفاع.

- ترسيخ مناطق النفوذ: انطلقت تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا من أوروبا الشرقية مثل موجات الصدمة الناجمة عن ضربة صاروخية؛ مما أدى إلى إطالة وتصلب الخطوط الفاصلة بين القوى العظمى عبر كل من أوروبا وآسيا، وترسيخ مناطق النفوذ التي تشمل دوائر متباينة من روسيا والصين، للولايات المتحدة وحلفائها، وتتشدد القوى العظمى وتعزز نطاق النفوذ الجديدة من خلال نشر المزيد من القوات وأنظمة الأسلحة.  

تحالف الصين وروسيا: 

تضمنت الوثيقة المحدثة لحلف شمال الأطلسي "الناتو" حول "المفهوم الاستراتيجي"؛ الصين كواحدة من القوى العظمى والتهديدات الرئيسية التي تواجه مصالح الحلف، وهذه أول مرة يتم تحديد الصين باعتبارها تحدياً مباشراً لحلف "الناتو"، وذلك في ظل التطلعات الصينية التوسعية التي تتحدى أمن ومصالح دول "الناتو"، فضلاً عن تبنيها أدوات سياسية واقتصادية وعسكرية تزيد من بصمتها العالمية وقوة مشروعها، بهدف إحداث إرباك للنظام العالمي وتغيير قواعده، بما في ذلك المجالات الفضائية والسيبرانية والبحرية، وهذا الأمر تتلاقى فيه الصين وروسيا بما دفع حلف شمال الأطلسي لمزيد من التحركات العسكرية.

ومع تصاعد المخاطر الصينية، أعاد حلف "الناتو" تأكيد تحوله نحو الشرق لمعالجة مخاطر الصين على الأمن الأوروبي الأطلسي، في ظل اقتراب بكين من امتلاك نحو 1500 رأس حربي على الصواريخ، والتي قد تصل إلى أوروبا وأمريكا الشمالية بحلول عام 2035؛ وما يزيد الأمر تعقيداً هو التحالف الصيني الروسي. ففي الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوروبا يعملون على ترسيخ وتوسيع تحالفاتهم، عززت كل من الصين وروسيا تحالفهما، استناداً إلى رؤيتهما المشتركة للتحالفات الغربية باعتبارها تهديداً لمصالحيهما واقتناعيهما بأن النظام العالمي الحالي وقواعده قد تم وضعها لتحقيق مصالح الغرب، ولم يأخذ في الاعتبار مصالح باقي القوى الفاعلة.

وتمثلت مظاهر التحالف الروسي الصيني في الشراكة التي تجمع بين زعيمي البلدين، فضلاً عن الدعم المقدم من بكين إلى موسكو في خضم حربها داخل أوكرانيا مثل: الطائرات من دون طيار والذخائر، إلى جانب دعم تكنولوجيا الغواصات الروسية الإضافية وربما الخبرة التشغيلية التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات في القوة الصناعية العسكرية الصينية؛ مما يؤدي إلى الإضرار بالاستقرار الدولي، وكذلك تقليص مساحة التأثير الأمريكي والغربي.

وعلى الرغم من تلك التحديات التي تمثلها قوة الصين؛ فإن واشنطن لا ترغب في مواجهة مفتوحة معها في جنوب شرق آسيا، خاصةً في مضيق تايوان نظراً لتكلفة الحرب الباهظة عسكرياً، وكذلك على مستوى الاقتصاديات الغربية، خاصةً أن مضيق تايوان تمر به 50% من حركة المرور التجارية يومياً، وأكثر من 70% من أشباه الموصلات يتم تصنيعها في تايوان، وللتصدي إلى النفوذ الصيني المتنامي عالمياً ثمة تحركات للضغط على الصين عبر تكتيكات متباينة تتمثل في:

- اجتذاب القوى الإقليمية: بينما يدور الصراع بين روسيا والصين والولايات المتحدة حول أوكرانيا، وعلى نحو متزايد تايوان، وعبر العديد من الخطوط الأمامية الجديدة، تنجذب القوى الإقليمية الأصغر إلى الصراع، مثل: إيران وكوريا الشمالية اللتان تتقاربان مع روسيا والصين، وهناك دول أخرى مثل: أعضاء حلف شمال الأطلسي وحلفاء الولايات المتحدة في منطقة المحيط الهادئ تقف بقوة إلى جانب الولايات المتحدة والغرب، كما أن هناك قوى إقليمية مهمة اقتصادياً مثل: اليابان وكوريا الجنوبية تنجذب بشكل أكبر للولايات المتحدة. وبالفعل وقعت الولايات المتحدة مع حلفائها في آسيا سلسلة من الاتفاقيات الجديدة بين عامي 2021 و2023 خلقت بنية أمنية جديدة؛ مما أدى إلى تعزيز الخطوط الفاصلة بين القوى العظمى. 

- التوسع العسكري: مع تزايد انزعاج الغرب وحلفائه الآسيويين إزاء التوسع العسكري الصيني، بدأت الدول الأوروبية التي لم يكن لها في السابق وجود عسكري كبير في آسيا في عقد شراكات واتفاقيات جديدة في المنطقة، مثل: التفاهمات بين المملكة المتحدة واليابان وإيطاليا حول خطط تطوير الجيل القادم من الطائرات المقاتلة في إطار البرنامج الجوي القتالي العالمي الجديد، وفي يناير 2023 أعلنت لندن وطوكيو أنهما وقعتا اتفاقية دفاع تاريخية تسمح للبلدين بنشر قوات على أراضي كل منهما.  

وختاماً؛ فإن تصاعد الصراع بين القوى العظمى خلق تصادماً بالوكالة في أكثر الملفات حساسية، كما الحال في توسعات "الناتو" شرقاً (أوكرانيا) على حدود روسيا، أو التنسيقات العسكرية الأمريكية في مضيق تايوان، وما يزيد من خطورة الإخفاق في احتواء الصراع أو تحقيق معادلة الردع التي كانت سمة رئيسية لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أمران: الأول، تحالف روسيا والصين مع اجتذاب قوى إقليمية ذات تأثير مثل: إيران وكوريا الشمالية، والثاني، دخول العالم فترة جديدة مع عدد أقل من المعاهدات أو حتى الخطوط العريضة للمعاهدات التي تحكم الصراع المتوسع بعدما توقفت أبرز معاهدتين للحد من الأسلحة النووية بين الولايات المتحدة وروسيا. 

المصدر:

Jim Sciutto. (2024). The return of great powers: Russia, China, and the next world war. DUTTON.